المجتمع الإنساني والقوانين المنظِمة له
المؤلف:
محمد حسين الطباطبائي
المصدر:
تفسير الميزان
الجزء والصفحة:
ج1 , ص158-160
5-10-2014
2068
الذي تعطيه أصول الاجتماع أن المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته و إدامة وجوده إلا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، و الحكومة في أعمال الأفراد و شئونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع و غريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه و يناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا و يتولد بتألف أطرافه و تفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي و هي موضوعة على مصالح و منافع مادية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادي، و على كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول و الوفاء بالعهد و النصح و غير ذلك، و حيث كانت القوانين و الأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة أخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدي الأفراد المتهوسين و تساهل آخرين، و لذلك كلما قويت حكومة أي حكومة كانت على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره و لا ضل سائره عن طريقه و مقصده، و كلما ضعفت اشتد الهرج و المرج في داخله و انحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، و إيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، و من الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، و تبعة المخالفة و العصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل و الدسائس المهلكة، و لذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة و يكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالإنسان القهقرى كما قيل.
و أن الإحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا و أبعد من العدل من غيرهم و ليس ذلك إلا أنهم يتكلون بحقية دينهم، و ادخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا و غرائزهم و فطرهم و لم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الإنسانية و المدنية الفاضلة.
و بذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام و قد نطق به الكتاب و تواترت عليه السنة.
و لعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، و لا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الأثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية و تطبيق ما شرعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح و المدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول و القوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة و ما هو محلها و موقعها بين المعارف التي جاء بها.
فيعلم أولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أن المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالإيمان المرضي و الدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب و لا سيما الكبائر و لا سيما الإدمان منها و الإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، و بذلك يتحصل رجاء النجاة و خوف الهلاك، و يسلك نفس المؤمن بين الخوف و الرجاء فيعبد ربه رغبة و رهبة، و يسير في حياته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط و لا إلى كسل الوثوق.
و ثانيا: أن الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها و معنوياتها ما يستوعب جميع الحركات و السكنات الفردية و الاجتماعية، ثم اعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة و الجزاء من دية و حد و تعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع و اللوم و الذم و التقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكل على الكل بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثم أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار و التبشير بالعقاب و الثواب في الآخرة، و بنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدإ و المعاد على هذا الترتيب.
فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و صدقه التجارب الواقع في عهده و عهد من يليه حتى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية و من شايعهم في استبدادهم و لعبهم بأحكام الدين و إبطالهم الحدود و السياسات الدينية حتى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم و ارتفعت أعلام الحرية و ظهرت المدنية الغربية و لم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين و ارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل و الفواضل و انحطاطهم في الأخلاق و الآداب الشريفة و انغمارهم في الملاهي و الشهوات و خوضهم في الفواحش و المنكرات، هو الذي أجرأهم على انتهاك كل حرمة و اقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها و فيها إلا سعادة الإنسان في آجله و عاجله و الله المعين، و الإحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين و ليس عليهم قيم و لا حافظ قوي و على جمعية غير المنتحلين، و التعليم و التربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا.
الاكثر قراءة في قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة