الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
كيف كان الشعراء يستحثون قرائحهم؟
المؤلف:
جرجي زيدان
المصدر:
تاريخ آداب اللغة العربية
الجزء والصفحة:
ج1، ص302-303
22-03-2015
6457
مهما بلغ المرء من سمو المدارك وصفاء الذهن وسرعة البديهة فانه لا يستغني أحياناً عن شحذ قريحته وذهنه او استحثاث خاطره وخصوصا في الشعر، اذ كثيراً ما تمر على الشعراء فترات لا يجدون فيها قدرة على النظم. قال الفرزدق: (قد تمر عليَّ الساعة وقلع ضرس من اضراسي اهون علي من نظم بيت من الشعر). ويرى آخرون ان الشعر مثل عين الماء ان تركتها اندفنت وان استهتنتها هتنت، يريدون انه لابد للشاعر من استحثاث قريحته من وقت الى اخر.
وللشعراء طرق شتى في استحثاث قرائحهم تختلف باختلاف امزجتهم وعاداتهم وطبائعهم. سئل ذو الرمة: (كيف تفعل إذا انقفل دونك الشعر؟) قال: (الخلوة بذكر الاحباب) فهذا لأنه عاشق. وسئل كثير عزة: (كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟) قال (أطوف في الرباع المحيلة والرياض المعشبة فيسهل علي ارصنه ويسرع الى أحسنه).
وكان الأخطل يستحث قريحته بشرب الخمر. وكذلك كان يفعل كثيرون ممن كانوا يشربونها. وكانت طائفة من الشعراء تستحث شياطينها. كما فعل الفرزدق، وقد افحم عند سماع قصيدة حسان التي يقول فيها:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى واسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقد أمهله قائلها ثلاثة أيام حتى يجيب عليها، وكانت ساعة جمود على قريحته .. فاضطر الى استحثاثها، قال: (اتيت منزلي فأقبلت اصعد واصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم او لم اقل شعراً قط، حتى نادى المنادي بالفجر فرحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت ريانا – وهو جبل بالمدينة – ثم ناديت بأعلى صوتي:
اخاكم اخاكم ابا لبنى يعني شيطانه، فجاش صدري كما يجيش المرجل .. ثم علقت ناقتي وتوسدت ذراعها، فما قمت حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتا) على انه كان إذا خانته قريحته وصعب عليه الشعر ركب ناقته وطاف خاليا منفردا وحده في شعاب الجبال وبطون الاودية والاماكن الخربة الخالية فيعطيه الكلام قياده.
وكان الأبيرد الرياحي إذا خانته القريحة اخذ عصاه وانحدر في الوادي، وجعل يقبل فيه ويدبر ويهمهم بالشعر فتأتيه المعاني. وكان جرير يستحث قريحته بشرب النبيذ ويتمرغ بالرمل او على الفراش ويهمهم ويحبو على الفراش عريانا حتى يخاله الناظر إليه اصيب بجنة. وسئل نصيب مرة: (أتطلب القريض أحياناً فيعسر عليك؟) فقال: (أي والله ربما فعلت فآمر براحلتي فيشد بها رحلي، ثم أسير في الشعاب الخالية واقف في الرباغ المقوية فيطربني ذلك ويفتح لي الشعر).
ويقال نحو ذلك في أحوال الشعراء في سائر العصور. وكان أبو تمام إذا اعيته القريحة غطس في صهريج ماء عنده يمكث فيه ساعة.
على ان لاستحثاث القريحة قواعد عامة يجري عليها الكثيرون منها الجلوس بجانب الماء الجاري او الاشراف من الأماكن العالية والنزوح الى الأماكن الخالية او التجول في الرياض. وبعضهم يستنهض قواه العاقلة او قريحته بالاستلقاء على الظهر، وهم مجمعون في الاكثر على مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم.