1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

التاريخ والحضارة

التاريخ

الحضارة

ابرز المؤرخين

اقوام وادي الرافدين

السومريون

الساميون

اقوام مجهولة

العصور الحجرية

عصر ماقبل التاريخ

العصور الحجرية في العراق

العصور القديمة في مصر

العصور القديمة في الشام

العصور القديمة في العالم

العصر الشبيه بالكتابي

العصر الحجري المعدني

العصر البابلي القديم

عصر فجر السلالات

الامبراطوريات والدول القديمة في العراق

الاراميون

الاشوريون

الاكديون

بابل

لكش

سلالة اور

العهود الاجنبية القديمة في العراق

الاخمينيون

المقدونيون

السلوقيون

الفرثيون

الساسانيون

احوال العرب قبل الاسلام

عرب قبل الاسلام

ايام العرب قبل الاسلام

مدن عربية قديمة

الحضر

الحميريون

الغساسنة

المعينيون

المناذرة

اليمن

بطرا والانباط

تدمر

حضرموت

سبأ

قتبان

كندة

مكة

التاريخ الاسلامي

السيرة النبوية

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام

الخلفاء الاربعة

ابو بكر بن ابي قحافة

عمربن الخطاب

عثمان بن عفان

علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

الامام علي (عليه السلام)

اصحاب الامام علي (عليه السلام)

الدولة الاموية

الدولة الاموية *

الدولة الاموية في الشام

معاوية بن ابي سفيان

يزيد بن معاوية

معاوية بن يزيد بن ابي سفيان

مروان بن الحكم

عبد الملك بن مروان

الوليد بن عبد الملك

سليمان بن عبد الملك

عمر بن عبد العزيز

يزيد بن عبد الملك بن مروان

هشام بن عبد الملك

الوليد بن يزيد بن عبد الملك

يزيد بن الوليد بن عبد الملك

ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك

مروان بن محمد

الدولة الاموية في الاندلس

احوال الاندلس في الدولة الاموية

امراء الاندلس في الدولة الاموية

الدولة العباسية

الدولة العباسية *

خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى

ابو العباس السفاح

ابو جعفر المنصور

المهدي

الهادي

هارون الرشيد

الامين

المأمون

المعتصم

الواثق

المتوكل

خلفاء بني العباس المرحلة الثانية

عصر سيطرة العسكريين الترك

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعتزبالله

المهتدي بالله

المعتمد بالله

المعتضد بالله

المكتفي بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله

عصر السيطرة البويهية العسكرية

المطيع لله

الطائع لله

القادر بالله

القائم بامرالله

عصر سيطرة السلاجقة

المقتدي بالله

المستظهر بالله

المسترشد بالله

الراشد بالله

المقتفي لامر الله

المستنجد بالله

المستضيء بامر الله

الناصر لدين الله

الظاهر لدين الله

المستنصر بامر الله

المستعصم بالله

تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام

شخصيات تاريخية مهمة

تاريخ الأندلس

طرف ونوادر تاريخية

التاريخ الحديث والمعاصر

التاريخ الحديث والمعاصر للعراق

تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي

تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني

تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق

تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى

العهد الملكي للعراق

الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق

قيام الجهورية العراقية

الاحتلال المغولي للبلاد العربية

الاحتلال العثماني للوطن العربي

الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية

الثورة الصناعية في اوربا

تاريخ الحضارة الأوربية

التاريخ الأوربي القديم و الوسيط

التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر

التاريخ : احوال العرب قبل الاسلام : مدن عربية قديمة : مكة :

النواحي العامة لمكة في عهد قريش

المؤلف:  احمد السباعي

المصدر:  تاريخ مكة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع

الجزء والصفحة:  ج1، ص 37- 65

6-10-2020

1257

النواحي العامة في عهد قريش

الناحية العمرانية:

في الحديث عن جرهم وقطورا أشرنا الى أن العمران في مكة لم يزد عن مضارب من الشعر كانت تتلاصق أو تتباعد في حواشي الوادي وبين ليات جباله، وما أطل العهد الذي ندرسه ـ عهد حكومة قريش حتى كانت المضارب من الشعر قد حلت محلها البيوت مرصوصة بالحجر أو مبنية بالطين والحجر فيما يحاذى المسجد أو بالطين الني وحده على حوافي الأباطح في أعلى مكة أو على شواطىء المسيل في أسفلها.

بناء البيوت وتبويبها : وكان سعيد بن عمرو السهمي أول من بنى بيتا بمكة وقد قيل فيه :

وكانوا يبنونها بحيث لا تستوي على سقوف مربعة كما نفعل اليوم. وأول من بنى بيتا مربعا حميد بن زهير ، واستهولت قريش عاقبة التربع في هندسة البيت ، فقالت : «ربع حميد بيتا ـ أما حياة واما موتا» (1) وأول من بوب في مكة «حاطب بن أبي بلتعة» (2) وكانوا يجعلون بين يديها العرصات ينزل الحجاج فيها والمعتمرون ، ولما شرعوا يصنعون لبعض الدور أبوابا كانوا يقصرون ذلك على بعض غرفها ويتركون مداخلها شارعة على عرصاتها دون أبواب ، وقد قيل أن بنت سهيل عندما استأذنت عمر بن الخطاب في أن تجعل على دارها بابين أبى وقال لها : انما تريدون ان تغلقوا دوركم دون الحجاج والمعتمرين قالت : والله ما اريد إلا أن أحفظ على الحجاج متاعهم فأغلقها عليهم من اللصوص فأذن لها فبوبتها.

 

منازل القبائل في مكة:

ويستطيع الباحث أن يستنتج أن العمران في مكة في عهدنا الذي ندرسه نشط نشاطا طيبا ، بعد أن تركنا المضارب تتباعد على حوافي وادي إبراهيم من أعلى مكة الى أسفلها ، ثم تعرج في ناحية منها الى مداخل الشامية اليوم نحو قعيقعان نجدها الآن وقد اتصلت وتكاثفت واتخذت كل قبيلة منزلها من الوادي وشعابه ولم يزحف عمرانهم الى مرتفعات الجبال وأكتافها كما نفعل اليوم. بل ظل مستويا باستواء سطح الوادي.

فقد ذكروا أن قصيا خط للكعبة ساحة توازي صحن المسجد (المطاف) اليوم وأباح للناس أن يبنوا دون ذلك حول مدارها من الجهات الأربع وكانوا لا يبيحون لأنفسهم قبل قصى السكني أو المبيت بجوار الكعبة ثم أمرهم أن يجعلوا بين بيوتهم مسالك يفضون منها الى ساحة الكعبة، وأهم هذه الطرق طريق شيبة وهو في مكان باب بني شيبة اليوم (3) ولم يبوب ساحة الكعبة أو يسورها ، كما أمر بآن لا يرفعوا بيوتهم عن الكعبة لتظل مشرفة عليها وكانوا يتخذون مجالسهم العامة في أفيائها ، كما بنى دار الندوة لاجتماعاتهم الخاصة.

وفي استطاعتنا ان نرسم خطوطا تقريبية لخريطة مكة نبين فيها باختصار مواقع البطون في مكة يومها وسير العمران بين شعابها اعتمادا على ما ذكره الأزرقي في تخطيطه مواقع القبائل في كتابه أخبار مكة (4).

ولتوضيح ذلك في الأذهان نستطيع أن نجعل من باب بني شيبة نقطة ابتداء لتخطيطاتهم ، فقد كان موضع ارتكاز الحركة العمرانية في أم القرى ، كما كان أهم مداخل المسجد الحرام ، وكانت البيوت تتكاثف حوله متجهة في الشرق إلى «حصوة» باب علي ، وفي الشمال قليلا إلى «حصوة» باب السلام تنزلها بطون من غساسنة الشام وبعض السفيانيين وتنخللها متاجر للعطارين ، فإذا مضى بنا الخط مستقيما إلى جهة باب النبي واجهنا بيت العباس ودار جبير ابن معطم ودور لبني عامر بن لوي واستقام أمامنا زقاق أصحاب الشيرق ، وهو إلى جانب زقاق الحجر حيث تقوم دار لابن علقمة ودور أخرى لآل عدي من ثقيف ، فإذا نفذنا من ذلك الى شارعنا العام في القشاشية (5) متوجهين الى أعلى مكة استقام أمامنا سوق كانوا يسمونه سوق الفاكهة ثم سوق الرطب ، ثم رباع كانت لبعض بنى عامر ، وعند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال الله وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم. وبالقرب من الدار يلتوي شعب ابن يوسف وهو ما نسميه اليوم شعب علي وفيه دور عبد المطلب بن هاشم ودور أخرى لأبي طالب واخرى للعباس بن عبد المطلب وإذا عدنا إلى استقامتنا في شارعنا العام يصافحنا دار العاص في فوهة شعب بني عامر ثم يلتوي شعب بني عامر في دروب متعددة تقوم عليها دور لبني بكر واخرى لبني عبد المطلب بن عبد مناف ونستقيم مرة أخرى في شارعنا العام فيواجهنا ردم آل عبد الله ، وكانوا يعارضون به مجرى السيل ويسمونه الردم الأدنى وعنده يقف الحمارون ونمضي قليلا إلى المعلاه لنجد الجزارين عن يميننا في شعب أبي دب ، ثم مكان المقابر وهي بعد حدود شعب عامر ثم بعض بساتين ننتهي منها إلى شعبة الجن ، ثم ثنية الحجون ثم بساتين اخرى نصل بعدها إلى شعب الصفى وهو ما نسميه اليوم المعابدة (6) وفيه دور لبني كنانة وآل عتبة بن أبي معيط ودور لربيعة من بني عبد شمس.

وإذا بدأنا خطا آخر من باب بني شيبة متوجهين الى الشمال الشرقي في المسعى صادفتنا دور لبني عدي قائمة بين باب بني شيبة ورواق باب السلام ، وفي المسعى يتوجه درب الى يميننا كانوا يسمونه الحزامية كان فيه مكان للبانين وفيه سقيفة ودار الحكم بن حزام ودور يتخللها عرصات لبني سهم ويمضي بنا الدرب إلى بيت خديجة حتى يخرج الى مكان المدعى اليوم.

وإلى يسارنا ونحن في المسعى طريق الساعين الى المروة وفي المروة دور لآل عتبة بن فرقد ودار كبيرة لآل ياسر في واجهتها الحجامون والحلاقون وإذا مضينا في المسعى مصعدين في طريق المدعى انتهينا إلى رحبة واسعة كانت تحط فيها عير الحنطة والسمن والعسل والحبوب لتباع فيها وهي ما نسميها اليوم المحناطة وفيها دور لبني عبد شمس ودار أبي سفيان وهي في مكان «القبان» اليوم ، وقد أشار النبي صلى ‌الله ‌عليه وآله ‌وسلم إليها عندما قال يوم الفتح : «من دخل دار أبي سفيان كان آمنا» ثم دور لأولاد العباس تصل الى قريب من المدعى ، ثم دور لأولاد الحارث ، ثم طريق الى يسارنا يمضي إلى جبل الديلم وهو يشرف على القرارة (7) اليوم ثم نمضي في استقامتنا الى طريق المعلاه لنمر على دور لبني غزوان وأخرى لأولاد الحارث ابن عبد المطلب.

ونبدأ خطا ثالثا من باب بني شيبة متوجهين غربا إلى دار الندوة لنجد البيوت تتكاثف قبل الرواق الى جانبها دار لشيبة بن عثمان ودار لخزانة الكعبة ودار لصاحب البريد ودار لبيت المال ودار للخطاب بن نفيل ثم نصعد شمالا الى جهة الرواق الذي فيه باب الزيادة الى باب الدريبة فتصادفنا دور لبني خزاعة بينها زقاق الحذائين نسلك منه إلى سويقة ثم ننعطف منه الى المروة ومن جهة أخرى دور لآل زرارة من تميم ثم يمضي بنا الشعب الى قعيقعان في مداخل ما نسميه الشامية اليوم فإذا توجهت إلى يمينك توجه بك درب الى ناحية الديلم بالقرب من القرارة اليوم ثمّ تصعد إذا شئت على تلال في مكان الفلق كانوا يصعدونها لينزلوا منها إلى مكان سوق المعلاه اليوم ولم يفلق هذا الطريق إلا الزبير بن العوام في عصره وسنعرف فيما بعد أنه فلقه ليتصل الطريق بين بساتينه بجوار المعلاه اليوم وبيوته التي اشتراها بجوار سويقة.

وإذا أردنا أن ننتقل من شق مكة الأعلى الى شقها الأسفل تعين علينا أن نجعل نقطة ابتداء تخطيطنا ما بعد صحن المسجد أمام باب أجياد متوجهين الى الشرق ثم الى الجنوب الشرقي. كانت منازل بني عائذ تبتدى من صحن المسجد فيما يوازي ركن الكعبة اليماني ممتدة غربا الى ما يحاذي بئر زمزم ثم تصعد في الشرق نحو باب علي وكانت دور بعض كبارهم شارعة على مكان المسعى على يسار القادم من الصفا يريد المروة أي في ما يحاذي باب علي اليوم تقريبا.

وكانت منازل عدي بن كعب تبتدى من صحن المسجد متوجهة إلى الصفا من ناحية والى أجياد من ناحية أخرى قبل أن ينقلوا الى أسفل مكة.

وفي الطريق الذي يبدأ من باب الصفا متوجها جنوبا إلى باب أجياد كانت سقيفة لبني عائذ وسوق للبزازين «القماشين» وبالقرب من ذلك كان البيت الذي اتخذه النبي صلى ‌الله ‌عليه وآله ‌وسلم لتجارته قبل البعثة مع شريكه السايب بن السايب.

فإذا انتهيت إلى باب أجياد ووقفت حيث تكون القبلة في ظهرك ومداخل أجياد في وجهك امتد امامك شعبان أحدهما عن يمينك الى ما نسميه اليوم بئر بليلة وكانوا يسمونه أجياد الكبير وامتد الشعب الثاني على يسارك الى ما نسميه اليوم السد وكانوا يسمونه أجياد الصغير ولست أعني بالامتداد ما يتبادر الى ذهنك من نفاذ الجادة واستقامتها بامتداد الشعوب.

فقد كان العمران يتخلل الجادة ويعرقل استقامتها .. كان بنو تميم ينزلون حوالي باب أجياد وتمتد بيوتهم من جهة الغرب الى قبيل حدود المسجد يومها وهو حدود صحن الكعبة اليوم وكان بنو مخزوم ينزلون في فوهة أجياد الكبير مكان الرواق الجديد اليوم .. وكان جماعة من الأزد ينزلون خلف ذلك مما يتصل بمكان الصحة العامة وخلفها كان منزل أبي جهل بن هشام لا يبعد عن ذلك كثيرا ، وفي أجياد الصغير الى الجادة المتصلة بالسد كانت منازل لآل عدي بن عبد شمس وفي أجياد مكان للحواتين ودار لعبد الله بن جدعان التي كان فيها حلف الفضول والتي تعاقدت فيها القبائل متفقة بأن لا يقر في مكة ظالم وفيها دور لآل سلمة بن هشام وفيها بئر يجمع بين أجيادين احتفرها آل سلمة مع جماعة من جيرانهم ، وكان يردها السكان في فوهة الشعب بأجيادين وأكاد أعتقد انها البئر الموجودة اليوم قبيل عمارة المستشفى لأنها تجمع بين طرفي أجيادين.

وإذا تركت أجيادين ماضيا في الشارع العام إلى الجنوب نحو المسفلة بدأت بسوق الحزورة بجوار باب الوداع ورأيت الدروب تمضي على يمينك إلى قرب المسجد عند حدود المطاف ومن أشهرها درب الحناطين وأعتقد انه كان سوقا للحنطة فالحانط هو في اللغة كثير الحنطة وموقع هذا الدرب صالح لبيع منتجات الجنوب من الحنطة في مكة وفي هذه الجهة كانت تنزل بطون من آل صيفي وفيها دور لآل عبد الدار واخرى لجماعة من بني مخزوم وإذا مضيت متجها في السوق الصغير كنت بجوار دور لبني أسد بن عبد العزى.

وأحسبني لا أطمع في أن أعرف القبائل النازلة في الشبيكة (8) أو حارة الباب أو جرول لأنها كانت قليلة السكان إلا في جهات قليلة من جرول الخضراء وهي الجزء الأدنى المتصل بأطراف المسفلة من ناحيته الخليفة وإذا كانت الشبيكة قد سكنت في عهدنا الذي ندرسه بجماعة لم أتبين أسماءهم في بطون المطولات من كتب التاريخ فلا أعتقد أنها حظيت بشيء من التكاثف الذي حظيت به المنازل الأخرى.

وقد نعثر على بعض المنازل في سفح ذي أعاصير ولعلنا نستنتج من قرائن الأحوال أن ذا أعاصير هو جبل عمر ولكننا لا نستطيع أن نعتقد أن هذا الجزء حفل بالمنازل إلا في أعوام متأخرة عن هذا العهد لأن النزلة سميت باسم عمر ابن الخطاب ولو كانت لبطن أو قبيلة لأطلق عليها في الغالب اسم نازلها قبل عمر بن الخطاب.

كما أننا لم نعثر الى جانب ذلك على شيء يسير من العمران في الثنية التي نهبط من خلفها الى جرول الخليفة وكانوا يسمونها الحزنة وهي ضد السهلة ونسميها اليوم الحفائر (9) ولم تكن الحفائر قد فلقت يومها لتخترم الطريق من الشبيكة الى جرول الخليفة لأن الذي حفرها وسهلها للمشاة هو خالد البرمكي في عهد بني العباس ليجعلها تختصر الطريق الى بستان له بناه فيما بعد في جرول الخليفة أو جرول الخضراء كما يسمونها.

وإذا تركنا كل هذا ومضينا في طريقنا في ظل أعاصير أي جبل عمر نحو الهجلة صادفتنا الحتمة وهي صخرات لا بد أنها كانت سوداوات لأن الحتمة في اللغة هي السواد وعند هذه الصخرات كانت دار الأزلام ومنها يبدأ منبطح السيل أسفل مكة.

ولعلنا إلى هذا الحد استطعنا أن نرسم خطوطا تقريبية لمكة الجاهلية ولا يفوتنا في أذيال هذا البحث أن نشير إلى الضواحي التي كان يحلو للمكيين أن ينتجعوها في الأصائل من شهور القيظ وهي عادة نرى أثرها إلى اليوم في المتنزهين من أبناء مكة في أطراف الضواحي وكأنما هم يمثلون بذلك عادة عرفها أجدادهم من نحو (١٥٠٠ سنة) تقريبا.

ومن أشهر المتنزهات في مكة الجاهلية (10) الليط .. والليط في رأى بعض المؤرخين (11) هو أسفل مكة فيما يقرب من بركة ماجل متنزهنا اليوم ، ويقول الأستاذ رشدي الصالح ملحس في حاشيته على تاريخ الأزرقي أنه يرجح أن يكون خلف القشلاق العسكري أي فيما يلي جرول الخليفة ولست بالذي يستبعد صحة القولين فان الوادي بعد بركة ماجل يتصل بالجادة التي تنتهي خلف القشلاق فلم لا يكون الليط عبارة عن امتداد من جرول الخليفة الى أطراف المسفلة؟

 

وكانت في الليط اقحوانه (12) يجلس أهل مكة حولها في العشي يلبسون الثياب المحمرة والموردة والمطيبة وفي هذا يقول الحارث بن خالد :

من ذا يسائل عنا أين منزلنا     

فالأقحوانة منا منزل قمن

إذ نلبس العيش صفوا ما يكدره

طعن الوشاة ولا ينبوبنا الزمن (13)

ومن متنزهاتهم شعب خم (14) وهو يتصل بالمسفلة اليوم وكان مزروعا فيه عدة بساتين تتصل بالليط ثم تتصل بجرول.

وكانوا يخرجون الى حائط الحمام بجوار المعلاه فقد كان لهم هناك نخيل وزروع وكانت بساتين تمتد الى الخرمانية بقرب ما نسميه المعابدة ثم تمضي الى المحصب في الطريق المؤدي الى منى.

وكان لهم في المحصب دكة يجتمع المتنزهون فيها أصيل (15) كل يوم وكانت تشرف على نخيل باسق وبساتين تحتضنها شعاب الوادي الممتدة الى منى.

وكانت لهم بساتين في وادي فخ ونسميه الشهداء اليوم وأخرى بوادي طوى في امتداده من الحجون الى ريع الكحل وبساتين غير هذه في ضواحي مكة العليا (16) إلى مزدلفة فعرفة (17) وكانت المنازل في المناطق التي ذكرناها لا تتكاثف على قاعدة المدن الحاضرة بل تتفرق وتفصل بينها مساحات خالية على عادة العرب في بناء قراهم ومدنهم ، أما الناحية المتصلة بالمسجد فكانت تضيق بنزلائها لتنافسهم في مجاورة الكعبة.

وقد بنى القرشيون في أواخر عهدهم ما يشبه السور في أعلى المدعى وبوبوه ولم يثبت أنهم بنوا مثله في ناحية اخرى منها.

الناحية التجارية:

 كانت مكة بحكم موقعها في طريق تجارة الطي وبو الغلال وأنواع الأقمشة بين دول الجنوب وممالك الشمال ذات مركز استراتيجي ممتاز، وكانت أسواقها تزدحم بالتجار صاعدين في الشمال الى الشام أو هابطين في الجنوب الى اليمن كانوا ينقلون من منتوجات أفريقيا عن طريق اليمن ـ الرقيق والصمغ والعاج والتبر، كما ينقلون من اليمن الجلود والبخور والثياب، كما ينقلون من العراق توابل الهند ، ومن مصر والشام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير والخمور (18) فمهروا في التجارة وتضخمت رؤوس أموالهم وبلغت قوافلهم التجارية ألف بعير في عهد غزوة بدر مضافا إليها خمسون ألف دينار منقولة بين أثقالهم كما بلغت في بعض المرات ألفين وخمسمائة بعير وهي نسبة لها قيمتها المادية إذا قيست بالثروات في عهدها ، وبلغ من ثراء قريش أنها استطاعت في غزوة بدر أن تفتدي أسراها من المكيين بأربعة آلاف درهم للرجل الى ألف درهم إلا من عفا عنهم النبي صلى ‌الله ‌عليه وآله ‌وسلم من المعدمين (19).

وكانت الى جانب هذا من أهم مراكز الصرافة في العالم القديم ، وكان التاجر من أي بلد في الآفاق يستطيع أن يؤمن فيها على بضائعه صادرة أو واردة وربما احتاج إلى كثير من المال لسداد ما تطلبه بضائعه فتقرضه المصارف في مكة كما تفعل البنوك اليوم وربما أفحشت في الفوائد فتضاعف الربا واضطهد المدين حتى جاء القرآن بتحريم الربا عليهم.

الناحية الاجتماعية والعقلية :

وو هم بعض المؤرخين في ادراج مكة مدارج القبائل من أحياء العرب، وحسب آخرون أنها كانت نزلة يمضي عليها ما يمضي على نزل العرب وقراهم في آفاق الجزيرة ولكن شيئا من الاستقراء ينتهي بنا إلى غير هذه النتيجة. فالقرآن سماها في أكثر من مرة «أم القرى» وفي هذا ما يشير الى ميزتها في مستوى من حولها من منازل الجزيرة وقراها والقرآن خاطبها بمعان ليس من يعتقد أنها غريبة عنها فتحدث عن المشكاة والمصباح والزجاج وعن المساكن يعرج اليها بالمعارج ، وتحدث عن أنواع من الطيب كالكافور والزنجبيل والمسك وأنواع من الأثاث المترف كالنمارق والزرابي والسرر والفرش المبطنة بالاستبرق والسندس وأنواع الأواني من الفضة كالقوارير والأكواب والكؤوس وأنواع من الحلي كالمرجان واللؤلؤ ، كما حدثهم عن القراطيس والكتب والسجلات والصحف والأقلام والمداد وأشار في كثير من آياته الى النحاس والحديد والفخار والصحاف والجفان والقدور ، ولا يقول انسان ان القرآن كان يخاطبهم بما لا يفهمون مدلوله من الألفاظ وانه كان يشير الى معان غريبة عنهم.

إذن فبيئتهم كانت تعرف هذه المعاني معرفة من اختلط بها واندمج فيها، وفي هذا من الأدلة ما يقوم بحجتنا على من وهم من المؤرخين وفيه ما ينطق بأن مكة كانت في ذلك العهد قد أخذت بطرف غير يسير من أسباب الحضارة الخاصة بجيلها الذي تعيش فيه.

وليس في هذا ما يدعو الى الاستغراب فقد كان المكيون من قريش يضربون في مناكب الأرض بين اليمن والشام والعراق وفارس والهند ومصر والحبشة ويتصلون في رحلاتهم هذه بالقصور المشيدة والعمران الفخم وألوان من الحضارة تتعدد بتعدد الحضارات التي كانوا يختلفون اليها، فلا عجب أن تتلاقى في بيوتهم في مكة أكثر الحضارات الشائعة في عهدهم وأن تبدو واضحة في حياتهم.

وكانت مخابئهم إلى جانب هذا تكتنز بالذهب والفضة كما تكتنز بالنقد المضروب من الدينار والدرهم، وقد ذكرها القرآن في معارض مختلفة نستطيع أن نفهم منها أنهم كانوا يعرفونها معرفة تامة.

وكانوا يستعملون الموازين في أسواقهم والمكاييل ، ويعرفون من مفردات أثقالها أنواعا كثيرة كانوا يتعاملون بها ، وليس أدل على هذا من خطاب القرآن لهم (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ويسرد بعض المؤرخين بعض الحوادث الفردية التي يحسبون أنها تحدد معارف القرشيين في علم المال أو تبين مدى حيازتهم له فيذكرون في رواية الصحابي الذي اشترت منه احدى السبايا نفسها بألف دزهم أن رفاقه عندما لاموه على رخص الثمن قال لهم والله ما أعرف فوق الألف شيئا ، ويريدون أن يستدلوا من هذا على تحديد معارف القرشيين في الأموال والأرقام ولعلهم نسوا أن القرآن كان يخاطبهم بأرقى من هذا المستوى وهو يستعرض هول يوم القيامة «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» أو يسرد لهم قصة يونس (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) وليس من شك أن قوما أحصوا بعشرات الألوف ومئاتها كانوا على شيء كبير من الغنى ، وكان يصحبه ما يتبع الثراء من الحضارة وما في الحضارة من ترف.

كانت بيوت أموية وأخرى مخزومية يضرب المثل بها في الغنى وكان ابن جدعان يتجر في الرقيق وقد أثرى منه ثراء فاحشا حتى شبهوه بقيصرة بوم ابن جدعان بجنب الحزوره كأنه قيصر أو ذو الدسكرة (20)

وما ظننا بقوم كان القرآن يعرض أمامهم في صدد التشريع أدق من هذا فيشير الى النصف والثلث والربع والخمس والثمن والعشر في أوامره بتوزيع التركات، لا ريب أنهم كانوا في بيئة تجيد هذه الكسور ومضاعفاتها.

واستعمل القرشيون في مكة الثياب والسراويل والقمصان والنعال وتختموا بالذهب والفضة، واتخذوا لخواتهم حبات اللؤلؤ، كما استعملت القرشيات الخمر والجلابيب والخلاخل التي كن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن عدا ما تحلين به من عقود وأساور وما تطيبن به من ذي أريج فواح، وقد قيل أن عبد المطلب دفن في حلتين قيمتهما ألف مثقال من الذهب وأن من قريش من كان يلبس الثوب بخمسين دينارا (21) وهو ما يقابل اليوم ٣٠٠ ريال ، وجاء في القرآن ذكر من ينشأ في الحلية.

وكان لمترفيهم مجالس للسمر ينصبون لها الأرائك ويمدون فيها الموائد ويتفكهون بما طاب من ثمارهم ويتلذذون بفواكه الطائف الطازجة أو مجففات الشام وفلسطين المستوردة لمتاجرهم ويعرفون طعام الفالوذج نقلا عن الأمم المجاورة (22).

وكانوا يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب خمورا يعدونها في مجالسهم في آنية من فضة وأقداح من بلور، ويدور عليهم ساقيهم بها تفوح منها روائح المسك والكافور أو الزنجبيل.

وكانت لهم حلقات يعقدها القصاصون يتلون فيها عليهم أساطير الأولين أو يقصون عليهم بعضا من نوادر الحياة مما يصادفه الرجل في آفاق الأرض فيجتمع إلى هذه الحلقات كهولهم في أقبيتهم الفضفاضة وشبيبتهم في ثيابهم الموردة أو المحمرة من أغلى الحرير المجلوب من بلاد فارس أو المصنوع في العراق والشام.

وكانت مكة في عهد قريش تضم الى هذا ما تضمه عواصم اليوم تقريبا من جاليات أجنبية يهبطون اليها بفنونهم وأموالهم وبعض علومهم فلا تلبث أن تتسع لما يهبط إليها وتفسح لها من المجال ما تفسحه اليوم ، وكثير من كتب السير في مجموعها تحدثنا بأنه كان من سكانها نصارى الروم ووثنيون من فارس وأنه سكنها جاليات من العراق ومصر والحبشة والسريان ، ونحن لا نستبعد أن يكون نزوح هذا الجاليات فرارا من الثورات وألوان الاضطهاد (23) وتحت عوامل اخرى شبيهة بالتي تؤثر في انتقال الموجات البشرية في كل دور من أدوار التاريخ.

ولست أرى رأي من يقول بشيوع الأمية شيوعا مطلقا في هذه البيئة التي ندرسها ولا ممن يرى أن وسائل الكتابة يومها كانت تقتصر على العظام والحجارة لأن القرآن ذكر عن الصحف المنشرة (24) وسجلات الكتب (25) والمداد (26) والأقلام (27) ما يشير الى معرفتهم بها وأنهم كانوا لا يجهلونها.

ومما يلفت النظر أن القرآن في أوائل نزوله بمكة كان يكتب وينسخ ويذكر ابن هشام في سيرته أن عمر دخل على شقيقته قبل اسلامه وفي يدها صحيفة قرآنية ويؤيد هذه الرواية أكثر المؤرخين، وهي تدل فيما تدل على وجود الصحف يومها وأن نسخها كانت تتداول في مكة، ولا يصح فيما أرى أن تكتب الصحف ويتداول نسخها في بيئة تشيع فيها الأمية شيوعا مطلقا وتقتصر المعرفة فيها على أشخاص معدودين على أصابع اليد كما يذكر بعضهم.

 

الناحية الأدبية:

 ومارست قريش في جاهليتها ألوانا من الأدب العالي فقد كانت من أبلغ العرب وأفصحها وكان حظها في الخطابة والوصايا والأمثال لا يستهان به، وقد حفظت لنا أمهات الكتب الأدبية القديمة من أمثال الأمالي وطبقات ابن سعد والعقد الفريد والأغاني وأمثال العرب ومجمع الأمثال وغيرها طائفة كبيرة من نفيس الأدب الذي عاش في عهد قريش.

واشتهرت قريش بشعرائها المبرزين في العهد الجاهلي، ومن أظهرهم أبو طالب وأبو سفيان وعبد الله بن حذافة وهبيرة بن أبي وهب المخزومي وعبد الله بن الزبعري والزبير بن عبد المطلب، كما اشتهر حول مكة من شعراء هذيل جنادة وجندب وعروة والمتنخل وأبو ذؤيب وأبو خراش وأسامة بن الحارث والعجلان بن خليه كما اشتهر في بادية مكة ومدنها القريبة ما يطول سرده ولا يصعب متابعته لمن شاء في مظانه من كتب الأدب المعروفة.

ومن الأمثال القليلة التي نوردها فيما يلي يستطيع القارىء أن يكون فكرة مختصرة عن المستوى الأدبي الذي بلغته مكة في عصرها الذي ندرسه.

«من أجمل قليلا سمع جميلا، أنفك منك وان كان أذن، إن البلاء موكل بالمنطق، عند جهينة الخبر اليقين ، الجزاء من جنس العمل ، إذا عز أخوك فهن ، كل خاطب على لسانه تمرة ، الحرب سجال ، حظ في السحاب وعقل في التراب ، ما حيلة الرامي إذا انقطع الوتر ، من خان هان ، كما تزرع تحصد ، من سابق الدهر عثر ، لكل عود عصارة ، ما كل عورة تصان ، غدرك من دلك على الاساءة ، كل الصيد في جوف الفراء ، مكره أخاك لا بطل ، كل شاة برجلها معلقة ، زارع لنفسه حاصد لسواه ، لا قرار على زأر من الأسد.

واتسعت أسواق مكة التجارية للتنافس بين مفكريها من الشعراء وأصحاب البيان فكانت ملتقى الخطباء من سائر بلاد العرب ، وكانت مجالا ثقافيا لم يسبق له نظير بين دول اليمن في الجنوب وحكام الحيرة وغسان في الشمال ، وفي مظان التاريخ المطولة من أخبار أسواقهم ما يغنى عن الافاضة.

ومن أشهر أسواق العرب في منطقة مكة : سوق عكاظ ، وقد اختلف المؤرخون في تحديد موقعه ، وأجدني أميل الى ما ذكره صاحب معجم البلدان وهو أنه في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال وكانت هناك صخور يطوفون بها وهو وصف ينطبق من أكثر وجوهه على محطة السيل الكبير وبه صخور لا تزال قائمة الى اليوم وهو واد يتسع كثيرا لقوافل العرب (28) ثم سوق مجنة (29) وهو موضع قرب مكة ، وذو المجاز وهو على نحو ميلين من عرفات (30)

وكانت قوافل العرب تتجمع في عكاظ الى العشر الأخير من ذي القعدة ثم يفيضون تباعا الى ذي المجنة ولا يبدأ سوق ذي المجاز إلا في «يوم التروية» الثامن من ذي الحجة ويضيف بعضهم الى هذه سوق مكة ومنى ودومة الجندل ، ولكنها أسواق لا تبلغ مبلغ عكاظ في محافله الأدبية ومجالاته التي كانت تصطفق بمفاخرهم ومنافراتهم ومناقشاتهم ، ويذكر تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام أن عكاظ ظلت قائمة الى أن كانت ثورة المختار في مكة عام ١٢٩ فتفرق الناس خائفين ثم تركوها الى اليوم وتركوا بعدها مجنة وذي المجاز واستغنوا عنها بأسواق مكة ومنى وعرفات.

 

الناحية العلمية:

وليس غريبا أن تكون لهم حياة علمية فقد كانت لبيئتهم علوم ألموا بها وبرز بعضهم فيها تبريزا واضحا ترك أثره في معارف الأجيال الى حقبة طويلة من العصر الاسلامي.

كانوا يعنون بأنساب العرب وأخبارهم ويروون من أحاديث الأمم التي سبقتهم أو عاصرتهم أو احتكت بهم في تجارة أو جوار، وظلموا يتناقلون ذلك في أسمارهم ومجاسهم حتى أصبحت معارفهم في ذلك مادة ثرثرة استطاع بعدهم كثير من المدونين أن يعتمدوا ما تناقل عنهم ويسجلوه كتاريخ معترف به.

وعنوا عناية خاصة بالنجوم ومواقعها وحركاتها وأتقنوا منازلها في البروج وكان الكلدانيون في عهدهم شبه متخصصين في فن النجوم فتفرغ بعضهم للاتصال بهم والأخذ عنهم حتى استقام لهم علم كامل كانوا يعتزون بمعارفه الواسعة. وتوسعوا في فهم الأنواء والأمطار فكان لهم علم بالسحاب وأنواعه ومواقع المطر بالنسبة لوديانهم وعرفوا الرياح واتجاهات سيرها وسموا أنواعها بما يتفق مع حركاتها فمنها الصبا والدبور والصرصر والعاصف الى غير ذلك من أسماء لا يزال أصحاب الفراسة الى اليوم يطلقونها عليها تقليدا للعرب في جاهليتها.

ومارسوا الملاحة في البحر الأحمر وأتقنوا فنها وربطوا أوقاتها بحركات النجوم كما اهتدوا بالنجوم في سيرهم الى المواطن البعيدة من موانئهم وامتدت رحلاتهم جنوب البحر حتى اختلطوا بالمحيط الهندي وغذ بعضهم في المحيط الهندي الى شواطىء بعيدة المنال ذكرها بعضهم في رحلات العرب، وبذلك استقامت لملاحتهم قواعد ظلت متوارثة واستطاع المسلمون في عصرهم الذهبي أن يستفيدوا منها.

وكانت لهم معلومات في الطب يعتد بها .. معلومات أظهرتهم على جميع العضلات في الجسم فأطلقوا الأسماء عليها مما تجده مفصلا في كتب اللغة ومصادرها الأصلية وانى لهم أن يعرفوا هذه المسميات لو لم يعرفوا مواقعها في الجسم ويدركوا وظائفها فيه وامتدت معلوماتهم تبعا لذلك الى النباتات فعرفوا خواصها وكانوا يستفيدون منها لوصفاتهم ، وعرفوا الى جانب ذلك العلاج بالكي والبتر والفصد والجحامة ، وكان لهم في ذلك حكماء مبرزون اشتهر منهم الحارث بن كلدة الثقفي وقد عاش حتى أدرك معاوية واعتمده المتطببون في عصر معاوية كأستاذ له قيمته العلمية ، ولا نزال الى اليوم نقلد ما ورثناه من طب العرب في بعض مجتمعاتنا حتى المتمدنة منها ونعترف بكثير من آرائهم فيه ولا يزال في باديتنا الى اليوم من يقصده صاحب مرض استعصى على الطب الحديث فيفيدونه بأعشابهم أو فنهم في الكي ، ولا ننكر أنهم استفادوا معلوماتهم من أمم سبقتهم شأن الحياة في مختلف عصورها ولكننا نعرف أنهم أضافوا إلى ذلك ما اكتسبوه بتجاربهم وحذقهم.

ومن معارفهم القيافة والفراسة والرياضة، ولها قواعد عندهم لا تكاد تجاريهم فيها أمة الى اليوم رغم مرور نحو ألفي سنة على شيوعها بينهم فمن قيافتهم تتبع آثار الضال والهارب انسانا أو حيوانا ومتابعة خطواته مهما اختلطت بخطوات غيره، وهو فن لم يبلغ حد الاتقان عند غيرهم إلى اليوم ولا يزال بيننا من ورثهم في هذا الفن ويثير الدهشة في أرقى مجتمع متحضر ومن فراستهم الاستدلال بهيئة الشخص وشكله وكلامه على أخلاقه وهو فن يدرس اليوم في الجامعات وربما قصر عن الشأو الذي بلغه في البادية قبل ألفي سنة.

ومن عنايتهم بالقيافة أنهم كانوا يكتشفون مواطن الماء ويعرفون مظانه باستدلالات خاصة لا يستعينون فيها بآلة ، وقد توصلوا بذلك الى مئات الآبار التي احتفروها في مكة يوم كانت مكة لا تجود بقطرة ماء كما احتفروا مثلها في سائر المواطن التي سكنوها من البادية وكانت مظنة لوجود الماء.

وعرفوا الكهانة والعرافة والعيافة (31) فكانوا يستدلون على الحوادث بالنجوم وكان الكاهن يمتاز بينهم بذكاء يعتمد فيه على القرائن ومقارنة الماضي بالحاضر ، وقد استطاع الكهان والعراف لفرط ذكائهم أن يضللوا عامة الناس ويستغلوا غفلتهم فحاربهم الاسلام وأنقذ الناس من براثن ذكائهم.

 

الناحية الفنية : ونقصد بها حياة الفن اللاهي ، فقد قيل «لم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب (32) ولا نشك أن قريشا في مكة كانت وجه العرب البارز فلا بد أنها برزت في الغناء يساعدها على ذلك ثراؤها وأرباحها وانعدام الرباط المقدس الذي يحد من حريتها.

ذكروا أن عادا أرسلت في أيام العماليق وفدا يستقي لها من مكة فلما انتهوا الى مكة اقبلوا على الشرب واللهو والسماع (33) فإذا حفلت مكة باللهو والغناء من عهد العماليق فما بالها لا تحفل به وقد تطور ذوقها وتوافر لها غنى كان يسيل على أعطاف شبابها إذا تهادوا بين متنزهاتهم في الليط أو وادي فخ.

كانت بيوت مكة في هذا العهد يزدحم بالقيان ، وكانت النساء الأصيلات لا يحتجبن بل ويتبرجن التبرج الجاهلي الذي نعاه القرآن (34) وكن يشتركن مع الرجال في حفلات عامة يعزفن على الدفوف والمزامير وخاصة في ليالي الأعراس (35) وكانوا مشهورين بالنصب «بسكون الصاد» وهو لون من الغناء الديني كان شائعا في حفلاتهم حول الأوثان وكان لأعيان الأمويين والمخزوميين وغيرهم من وجهاء البطون القرشية قيان تخصصن في اللهو والغناء وتقديم الشراب في مجالس الأنس ، ويذكر صاحب الأغاني أن أبا سفيان نصح قريشا أن ترجع في غزوة بدر فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرى بدرا فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان!! وتسمع بنا العرب (36).

وفي تفسير قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) يقول صاحب الكشاف ان النضر بن الحارث كان يتصيد من يبلغه أنه يريد الإسلام فيدعوه إلى قينة له في بيته ويأمر أن تطعمه وتسقيه وتغنيه ليلهو عما يدعو اليه النبي ، ويقول أنه كان يقتني القيان المغنيات في بيته.

نستطيع أن نفهم من هذا أن مكة حفلت في جاهليتها بفن اللهو وأن موجة حادة من الغناء ، اكتسحت مجالسها العامة ومتنزهاتها وبيوت الأعيان من أغنياء بطون قريش. وليس أدل على ذلك من كلمة كان يرويها حسان بن ثابت وفيها يقول أن جبلة بن الايهم كان يستدعي لمجالس أنسه من يغنيه من مكة (37).

 

الناحية الادارية :

ذكرنا أن قصيا كان أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا فكانت اليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة والقيادة (38) وسمى قصي مجمعا لأنه جمع قريشا بمكة ، وسميت قريش في ذلك العام قريشا لأنها تجمعت والتجمع التقرش في بعض كلام العرب ولم يسم قرشي قبل ذلك اليوم.

وكان قصي عمليا أكثر مما كان يظنه قومه ، فانه ما كاد يستلم زمام الحكم في مكة حتى أسس دار الندوة لشورى قريش ولم يكن يدخلها من قريش إلا من بلغ الأربعين وهيأه مركزه أو خدماته لدخولها من بطون قريش البطاح وهم هاشم وأمية ومخزوم وجمح وسهم وتيم وعدي وأسد ونوفل وزهرة (39) كما كان أورستقراطيا لأنه أباح لأولاد قصي دخولها كما شاءوا بلا فارق في السن.

وعني قصي بسقاية الحجاج فاتخذ لهم حياضا من أدم (40) توضع بفناء الكعبة ويسقي فيها الماء العذب من الآبار محمولة على الابل من أطراف مكة البعيدة ، كما عني بتتبع مظان الماء العذب في مكة ، فحفر بئر العجول وهي في المكان الذي يمتد فيه رواق المسجد اليوم مما يلي باب الحميدية (41) وباب الوداع وحفر بئرا عند الردم بجانب مسجد الراية وهي البئر الموجودة اليوم في «الجودرية» في الزقاق الواقع أمام قصر الجفالي (42) وسمي بئر جبير بن مطعم لأن جبيرا هذا نثله بعد أن اندثر واتخذت العناية بالآبار بعد قصي سنة لأولاده فكانوا يتتبعون مظان المياه العذبة ويحتفرون فيها الآبار.

وعنى قصي الى جانب العناية بسقيا الحجاج بالرفادة، فكان على قريش خرج تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه الى قصي يصنع به طعاما للحاج يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد.

وكان يشتري بما يجتمع عنده دقيقا ، ويأخذ من كل ذبيحة بدنة أو بقرة أو شاة ـ فخذها فيجمع ذلك كله ثم يجزر به الدقيق ويطعمه الحاج ، واتخذ أولاده هذه سنة بعده حتى أن عمرا حفيده اضطر عندما أصاب مكة في عهده جدب شديد أن يجمع ما تجمع لديه من قريش ويخرج به الى الشام فيشتري به دقيقا وكعكا فيهشم لكعك وينحر الجزور ويطبخه ويجعله ثريدا ويطعم الناس في مجاعتهم وقد سمي بذلك هاشما (43) وفيه يقول الشاعر :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف

وجاء الإسلام وقريش تتخذ هذه السنة عادة موسمية فأمضاها النبي صلى ‌الله ‌عليه وآله ‌وسلم إذ أرسل بمال مع أبي بكر عندما أمره أن يحج بالناس سنة تسع للهجرة ليصنع به طعاما للحجاج (44)، وفعل مثل ذلك في حجته للوداع ثم أقام أبو بكر على هذا وكذلك بقية الخلفاء بعده، يقول أبو الوليد الأزرقي: وظل العمل على هذا الى أيامنا هذه يطعم الخلفاء الموسم في أيام الحج بمكة ومنى حتى تنقضي أيام الموسم وقد عاش أبو الوليد في القرن الثالث الهجري وتوفي حول منتصفه.

ولم أقع فيما قرأت على العهد الذي ألغيت فيه هذه العادة الحسنة وأكبر ظني أنها أبطلت على أثر الفتن والحروب التي كانت السبل تقطع فيها دون مكة ويلفت نظرنا في هذه السنة أنها كانت خرجا عاما تشترك فيه قريش بأموالها ويشترك المسلمون فيه في الصدر الأول للإسلام وأن هذا الاشتراك الشعبي ما لبث أن انتقل بتقادم العصور الى خزائن الخلفاء أو بيوت الأموال فهل تقاعس المكيون عن المجد؟ أم أن أموالهم ضاقت دونه ـ؟ الواقع أن قريشا كانت من أنشط القبائل في جزيرة العرب تجارة كما بينا ذلك في بحث أعمالها التجارية، فكانت بذلك في غنى تسع فضلاته اطعام الموسم وجاء الاسلام فاتسع نشاط قريش باتساع رقعة الاسلام، ودرت الفتوحات والتجارة النشيطة عليهم الأموال الطائلة وأخصبت أراضيهم في الطائف والمدينة وبعض ضواحي مكة وكثير من أوديتها القريبة بتأثير نشاط المال والعناية بحفر الآبار ثم ما لبث أن فتر النشاط وفتر بفتوره الغنى والثروة والخصب على أثر انتقال الصفوة الممتازة من قريش الى الأمصار بثرواتهم وأموالهم وكفاءتهم يتبعون مواطن الخلافة خارج الجزيرة ، وظل الحجاز بلدا لا يعني به إلا كرباط أو تكية يمنحه الخلفاء والملوك صدقاتهم ولا يهيئون أهله لغير تطويف الحجاج وأن يدعو لاصحاب السلطان بطول البقاء.

_______________

(1) الجامع اللطيف لابن ظهيره ٢٦.

(2) تاريخ القطبي ٢٣.

(3) وقد أزيل في مشروع توسعة المطاف (ع)

(4) راجع الأزرقي ج ٢ الصفحات من ١٨٧ ـ ٢١٤

(5) لعل القشاشية منسوبة الى الشيخ القشاشي وقد كان يسكن مكة حوالي القرن الحادي عشر «انظر في الجزء الثاني من هذا الكتاب حوادث الشريف احمد بن عبد المطلب» في عهد الترك العثمانيين.

(6) صفى السباب : أكمة في المعابدة تشرف على الخرمانية من مطلع الشمس.

(7) يذكر الأزرقي أنهم كانوا يسمونها قرارة المدحي ولعل أطفال قريش كانوا يلعبون فيها المدحي وهو ما يشبه «البرجو» عندنا.

(8) جاء في كتاب معجم البلدان لياقوت ان الشبيكة موضع بين الزاهر ومكة وفي القاموس انها بين مكة والزاهر وانها بئر هناك مما يلي التنعيم وقد عاش صاحب القاموس في مكة في أوائل القرن التاسع الهجري فيفهم منه أن مكة في عهده كانت دون الشبيكة وان الشبيكة بئر بين مكة والزاهر أو نفهم ان بئر الشبيكة بعيدة عنها في الطريق الى الزاهر.

(9) وكانت تسمى الممادر ، حيث كانوا يأخذون الطين منها للبناء.

(10) يرى بعضهم ان الجاهلية كلمة يراد بها نقيض العلم كما يرى بعضهم انها تعنى الاخلاق السفيهة انظر فجر الاسلام ص ٦٩.

(11) انظر اخبار مكة للأزرقي ٢ / ٢٢٥.

(12) الاقحوانة نسميها اليوم عباد الشمس.

(13) أخبار مكة للأزرقي ٢ / ٢٢٥ وما بعدها.

(14) هو جنوب مكة بيسير تخرج إليه من أجياد الكبير ، ولعلهما خمان

(15) هي الاقحوانة ، وتسمى اليوم الروضة ، وعن كثير من هذه المواضع راجع (معجم معالم الحجاز) (ع).

(16) راجع أخبار مكة للأزرقي ج ٢ ص ١٨٣ باب ما جاء في العيون والصفحات التي تليها عن العيون والرباع والشعاب.

(17) تبعد المزدلفة عن مكة ١٣ كيلو ومنها الى عرفات ١٢ كيلو.

(18) الأزرقي ٢ / ٥٥.

(19) كانوا يتعاملون بدنانير روم بيزنطة وهي من الذهب ، ودراهم الساسانيين وهي من فضة كما تعاملوا بنقود الدولة الحميرية في اليمن ولم تضرب للعرب نقود إلا في العهد الأموي كما سيأتي في حينه.

(20) معجم البكري ص ٤

(21) اليعقوبي ٢ / ١٣

(22) أغاني ٨ / ٣٢٩

(23) ذكروا أن بعض رجالات قريش شعروا باضطهاد بعض الجاليات الأجنبية في بيوت بعض كبار القوم فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وتعاهدوا أن لا يقر ببطن مكة ظالم وأن يكونوا يدا واحدة مع المظلوم ثم جاءوا بماء من بئر زمزم فغسلوا به أركان الكعبة ثم شربوه توكيدا لعهدهم وقد حضر النبي صلى ‌الله ‌عليه وآله ‌وسلم حلفهم قبل البعثة وقال فيه بعد ذلك لو دعيت به في الاسلام لأجببت (راجع ابن هشام ١ / ١٤٥).

(24) أن يؤتى صحفا منشر (٥٢ المدثر).

(25) كطي السجل للكتب (١٠٤)

(26) قل لو كان البحر مدادا (١٠٩) الكهف.

(27) من شجرة أقلام (٢٧) لقمان.

(28) خلال السنوات القليلة الماضية صدرت عدة كتب عن سوق عكاظ، وكتب مقالات كثيرة وتكاد كلها تجمع على أنه شرق الحوية يمين الذاهب الى الرياض من الطائف على نيف واربعين كيلا.

(29) أرجح أنه بلدة بحرة، وانظر معجم معالم الحجاز

(30) هو على ١٥ كيلا شمال عرفات، في شعب ينقض من كبكب غربا ، على يمين المتجد من مكة الى الطائف مارا بحنين ، فيه آثار لا زالت ترى .

(31) الكهانة الاخبار عن المغيبات في المستقبل ، والعرافة اخبار عن المغيبات في الماضي وقيل معناهما واحد ، كما قيل ان الكهانة خاصة بالمستقبل والعيافة خاصة بالماضي ، وكلها ترهات تعتمد على ذكاء المحترف.

(32) المسعودي ٨ / ٣١

(33) الطبري ١ / ٢٣٣

(34) (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) الاحزاب : ٣٣

(35) الطبري ١ / ١١٢٦

(36) الأغاني ٤ / ١٨٣.

(37) الأغاني ١٦ / ١٥.

(38) قسم قصي هذه المهام على أولاده قبل وفاته. ولم يعين المؤرخون وارثا لادارة الملك أو الحكم، والمفهوم من ذلك أن البطون والقبائل في مكة كانت تطيع من تدين له بالفضل بعد قصي، وقد ذكروا أن عثمان ابن الحويرث حاول أن يؤمر نفسه عليهم فلم يفلح، وفي ذلك يقول الجاحظ «لم تزل مكة أمنا ولقاحا لا تؤدي أتاوة ولا تدين للملوك، ومن أشهر من دانت له قبائل قريش من بني هاشم: عبد المطلب وأبو طالب والزبير ، ومن بني أمية حرب بن أمية وأبو سفيان بن حرب ومن بني زهرة العلاء الثقفي ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة ومن بني سهم قيس بن عدي ومن بني عدي كعب بن نفيل.

(39) المسعودي ٣ / ١١٩.

(40) بفتح الدال : الجدر.

(41) دار الحكومة ، التي بنيت في عهد السلطان عبد الحميد ، وقد أدخلت في توسعة المسجد.

(42) في كتابنا بحث بتحقيق مسجد الراية تجده في فصل الناحية العمرانية للعهد الأموي.

(43) اخبار مكة للأزرقي ١ / ١٢٧.

(44) أخبار مكة للأزرقي ج ١ ص ٦٤.

 

 

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي