الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
البخل والشحّ في القرآن
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج2/ ص232-245
2024-12-30
335
تنويه :
إن النعم والمواهب الإلهية على الإنسان تكون في كثيرٍ من الموارد أكثر من حاجة الإنسان نفسه بحيث يمكنه أن يسهم الآخرين بها ويشاركهم في الاستفادة منها بدون أي ضرر يُلحق به ، ولكنَّ بعض الناس وبسبب البخل والشح يمتنعون من ذلك ولا يجدون في أنفسهم رغبة في العطاء والجود بما لديهم من نِعم كثيرة ، وأحياناً يتحركون من موقع التفرج والتفاخر بهذه النعم والثروات الدنيوية إلى درجة أنّهم يثيرون حفيظة المحرومين ويجرحون قلوبهم بذلك وكأن هؤلاء يجدون لذّة خاصّة في إثارة المحرومين هؤلاء.
وأحياناً تقترن هذه الصفة مع حالة «الانانية» و«التكبر» و«الحرص» وأمثال ذلك من الصفات السلبية القبيحة.
إذا نظرنا إلى عالم الوجود من موقع التدبر والتأمل فسوف نشاهد آيات البذل والكرم والجود والانفاق في كلّ مكان ، الشمس تحترق دائماً وتبدل بعض وجودها إلى نور وحرارة وتُرسله إلى جميع المنظومة الشمسية حيث تعيش المخلوقات والأحياء بهذا النور الساطع وتستدفي بهذه الحرارة الكافية.
الأرض بدورها تُخرج ما في باطنها من أنواع الكنوز والمعادن الثمينة والمواد الغذائية والمياه الجوفية ، كلّ ذلك تضعه تحت اختيار الإنسان مجاناً وتعينه بذلك على مصاعب الحياة ، وهكذا الحال في سائر موجودات هذا العالم الفسيح فإنّ كلّ واحدة منها يعطي للإنسان ما لديه مظهراً بذلك كرمه وجوده.
ومضافاً إلى هذا العالم الكبير نرى في العالم الصغير ، أي الإنسان أيضاً نفس هذه المسألة ، فالقلب ، والجهاز التنفسي ، والمعدة ، العين ، الاذن ، اليد والرجل كلّها لا تعمل من أجل ذاتها فقط بل تخدم في حركتها وحياتها جميع أجزاء البدن ، فلا معنى للبخل في وجودها ، بل كلّما هناك هو الكرم والجود يترشح من جميع أجزاء البدن وجميع خلاياه.
في هذا العالم الّذي تحكم فيه معالم الكرم والسخاء فهل هناك من مكان للإنسان البخيل؟ ألا يتقاطع وجود هذا الإنسان البخيل مع عالم الوجود وبالتالي فإنه محكوم بالموت والاندثار والزوال؟
على هذا الأساس نرى ذمّ «البخل» ومدح «السخاء والكرم» بشكل واسع في الآيات والروايات الإسلامية حيث نرى أنّ «الجود والسخاء» بعنوان أنّهما من الصفات والأسماء الإلهية البارزة في عالم الوجود وتمثل سمة من سمات الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أيضاً.
بهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها ما يضفي على مفهوم «البخل» و«السخاء» ضوءاً وجلاءاً أكثر :
1 ـ (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)([1]).
2 ـ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ* وَلا يَسْتَثْنُونَ* فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)([2]).
3 ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ)([3]).
4 ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)([4]).
5 ـ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)([5]).
6 ـ (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)([6]).
7 ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)([7]).
8 ـ (.. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([8]).
9 ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)([9]).
10 ـ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)([10]).
تفسير واستنتاج :
مصير البخلاء
«الآيات الاولى» من الآيات محل البحث تستعرض حادثة مهمة من الحوادث الّتي جرت على بني إسرائيل ، فكانت عبرة لمن اعتبر ذلك أنّ أحد أثرياء بني إسرائيل وبسبب البخل والتكبّر والغرور ، ابتلي بمصيرٍ عجيب وموحش.
لقد كان «قارون» من أقرباء النبي موسى (عليه السلام) ومن الوجوه والشخصيات الثرية المعروفة لبني إسرائيل ، وحسب الظاهر كان من أوّل المؤمنين بموسى (عليه السلام) أيضاً وكان مطلعاً وعارفاً بالتوراة ، ولكنه كان كمثل الكثير من الأثرياء انانياً ومحبّاً للدنيا وبعيداً عن الله ، وكان يحبّ بشكل عجيب اظهار ما لديه من الثروة أمام فقراء بني إسرائيل ، وكان في كلّ مرّة يظهر عليهم بزينته وثروته الهائلة يخفق قلوب أصحاب الدنيا وأهل الطمع من بني إسرائيل حتّى وصل بهم الأمر إلى أن يكون أملهم الوحيد أن يكونوا مثل قارون من حيث الثراء وكثرة المال.
يقول القرآن المجيد في هذه الآيات «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ» ([11]).
لقد كان ظلمه وبغيه على قومه بسبب «البخل» الشديد حيث لم يكن راغباً في بذل شيءٍ منها ، وفي نفس الوقت كان يخرج على الناس والفقراء بزينته وثراءه الفاحش ويجد بذلك لذّة في نفسه ، والأمر الآخر أيضاً الّذي زاد من بغيه هو مخالفته الشديدة للنبي موسى (عليه السلام) وتعامله مع الفراعنة وخاصّةً عند ما طلب منه موسى (عليه السلام) اداء الزكاة.
وأساساً أنّ الأثرياء وأصحاب الدنيا لديهم علاقة شديدة في تقوية نفوذهم وقدرتهم في المجتمع ، وهذه العلاقة تارةً تكون بدافع من حبّ التكاثر ، واخرى بسبب الخوف من القدرات السياسية والاجتماعية الاخرى لكي لا يلحق بثروتهم الضرر من قبل هذه القدرات وقوى السيطرة والسلطة ، ولهذا السبب كانوا يقفون من الأنبياء ودعوتهم السماوية الّتي كانت تستوعب الناس وتظلهم تحت خيمة الحكومة الإلهية ، كانوا يقفون منها موقف العناد والرفض.
القرآن الكريم في إدامة حديثه عن قارون وثروته يقول في هذه الآية (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)([12]).
لقد كان قارون فرحاً جدّاً من وضعه الاجتماعي وكان يعيش دائماً حالة اللهو واللّذة ولا يشعر بما يجري على البؤساء والفقراء ولا يعيش محنتهم وحرمانهم وحتّى عند ما قال له العقلاء من قومه (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)([13]).
هذه التعاليم الخمسة والنصائح المشفقة ليس لم تؤثر إطلاقاً في قلب قارون الأسود ، بل زادته طغياناً وضلالاً إلى درجة انه انكر بصراحة التوحيد الأفعالي لله تعالى وقال : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ).
ويتحدّث القرآن الكريم في آياتٍ اخرَى من هذه السورة عن إحدى الرذائل الأخلاقية لقارون الّتي تتمثل تقريباً بدرجة من الجنون الّذي يبتلي به جميع الأثرياء المغرورين والّذين يتحركون في خطّ الإنحراف وطلب المزيد من الثروة والمال بعيداً عن الله تعالى فتقول الآية : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)([14]).
وأخذ يتبرج بهذه الثروة الطائلة من موقع الغرور والتفاخر حيث استعرض معه الجياد الغالية المزينة بالذهب وحمل معه الجواري الجميلات الغارقات بأنواع الزينة والمجوهرات وكذلك سائر أنواع الأموال والثروة وزخارف الدنيا وبريقها الخداع حتّى أنّ طائفة من المؤمنين نصحوه بترك هذه السلوكيات الذميمة ، إلّا أنّه بدلاً من أن يستمع إليهم ويسلك مع الفقراء والمعدمين مسلك اللطف والكرم والمواساة فانه انطلق من موقع العناد والإصرار لوضع الملح على جراح هؤلاء الفقراء والبؤساء ويجعلهم حيارى غارقون بالحسرة أمام هذا الغرور العجيب.
وعند ما ازدادت حدّة طغيانه لم يمهله الله تعالى أكثر من ذلك ، فكان أن اصابت زلزلة قصره ومحل إقامته فقط فخسفت به الأرض وغاص في أعماقها هو وجميع ثروته ، وهكذا صار حديثاً بعد عين وعبرةً لمن اعتبر على طول التاريخ البشري.
إن الجذور الأصلية لشقاء «قارون» هو حالة «البخل» الّتي كان يعيشها بعمق بكامل وجوده ، البخل الّذي صار منشأً وسبباً لإنكاره لنبوّة موسى (عليه السلام) وتعامله مع عقيدة التوحيد الإلهي من موقع الاعتراض والرفض ، وأخيراً ادّى به الحال إلى اتهام نبي الله موسى (عليه السلام) بالعمل المنافي للعِفة مع زانية معروفة ، ولكن الله تعالى فضح أمره سريعاً ، فكان يتصور انه مع تملكه لهذه الثروة العظيمة فإنه لا أحد يقدر على إيصال الضرر إليه ، ولهذا السبب فلم يكن يمتنع من أي ظلم وجور على قوم بني إسرائيل إلى أن نال جزاءه وعقابه.
«الطائفة الثانية» من الآيات محل البحث تشير إلى قصة اخرى من قصص هؤلاء البخلاء ومصيرهم الأسود حيث يتحدّث القرآن الكريم هنا عن جماعة يسموهم «أصحاب الجنّة» ويرى بعض المفسّرين أنّهم كانوا جماعة من بني إسرائيل يسكنون «اليمن» على مقربة من «صنعاء» ، وذهب بعض المحققين إلى أنّ كلمة «حرد» الواردة في سياق هذه الآيات يعني «المنع» وهي من الكلمات المتداولة في اليمن وتشير إلى أنّ هؤلاء كانوا من أهل اليمن.
لقد كان عدد هؤلاء عشرة أشخاص وكان لديهم بستان كبير وثروه من أبيهم الّذي كان رجلاً كريماً وسخياً وصالحاً ، وكان عند ما يحين قطاف الثمار يفتح باب البستان على مصراعيه للفقراء والمساكين لينالوا منه حاجتهم ، وبذلك كانت البركة وسعة المال والثراء تزداد في أموال الأب ، ولكنَّ ابناءه البخلاء كانوا يتصورون أنّ مثل هذا البذل والعطاء الكثير الّذي يصب في جيوب الفقراء والمحتاجين لا مسوّغ له ، ولا مبرر لأن ينفق الإنسان من أمواله بهذه الدرجة ، وبذلك لقد عزموا على أن يمنعوا كلّ فقير من الدخول إلى هذا البستان الكبير ، وقرروا أيضاً فيما بينهم أن ينهضوا في الصباح الباكر ومن دون اعلان أو سخط ليقطفوا ثمار هذا البستان مع مجموعة من العمال وقبل أن يستيقظ الفقراء والمساكين من نومهم ويصل إليهم الخبر فإنّهم يقومون بنقل هذا المحصول الكثير.
يقول البرسوئي في «روح البيان» : «إنّ هذه الحادثة وقعت بعد عصر عيسى بقليل حيث كان لهم أب كريم جداً ، فكان يأخذ من بستانه ما يكفيه لسنته ويوزع الباقي على الفقراء ، ولكن ما أن توفي الأب حتّى قال الأولاد : إننا إذا سرنا بسيرة والدنا فإنّ حياتنا ستكون شاقة ، لكثرة عيالنا وأطفالنا ، فأقسموا أن يعجلوا في الصباح الباكر على قطف الثمار وحتّى أنّهم لم يقولوا : إن شاء الله» ([15]).
وقد أنزل الله تعالى عليهم عذاباً أليماً وعاقبهم بأشد العقاب كما تقول الآية (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ)([16]).
أجل ، إن صاعقة محرقة ونار رهيبة نزلت على ذلك البستان وأحرقته من أوّله إلى آخره (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ)([17]).
«الصريم» هو الشجرة غير المثمرة ، أي أنّ الصاعقة اتلفت الثمار فقط دون الأشجار الّتي بقي منها الجذوع فقط ، وفي الغد عند ما نهض الاخوة وذهبوا في الصباح الباكر إلى بستانهم ترجموا خطتهم على أرض الواقع ، فلما وصلوا إلى ذلك البستان
ورأوا ذلك المنظر المهيب والمفجع قالوا : (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ)([18]).
جملة (إِنَّا لَضَالُّونَ) إشارة إلى أنّهم لم يكونوا يصدقون أنّ هذا البستان قد احترق بأكمله بعد ما كان قبل قليل زاهراً ومليئاً بالثمار ولكن عند ما دققوا النظر أدركوا من خلال القرائن أنّ هذا البستان المحترق هو بستانهم الّذي اصبح بهذه الصورة لذلك قالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ).
وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ المراد بالضلالة هنا هي الانحراف عن طريق الله والحقّ لأنهم كانوا يتصورون إن السعادة تكمن في عنصر «البخل» ، والحال أنّ الطريق الصحيح لنيل السعادة الحقيقية هو الطريق الّذي سلكه أبوهم الكريم من قبل.
وجاء في الآيات التالية إن هذه المجموعة من البخلاء انتبهوا من نوم الغفلة بسرعة وأخذوا يلومون أنفسهم واعترفوا بذنبهم وعزموا على عدم تكراره في المستقبل بعد أن طلبوا من الله تعالى بستاناً أفضل من السابق ، وقد ورد في بعض الروايات أنّ الله تعالى قبل توبتهم ووهبهم بستاناً أفضل وأحسن من بستانهم السابق.
وعلى أية حال فإنّ الآية أعلاه تبين العواقب المؤلمة لحالة «البخل» والشُّح بحيث إن هذه الرذيلة تضر الإنسان حتّى في أمر دنياه العاجلة.
والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول في بداية هذه الآيات (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) ولعلّ هذا التعبير إشارة إلى حالة القحط الشديد الّذي أصاب مكّة المكرمة بسبب البخل وترك الانفاق من قبل أثرياء قريش.
«الآية الثالثة» تتحدّث عن مصير شخص بخيل في عصر رسول الله ، وطبقاً للكثير من التفاسير فإنّ هذا الشخص كان من الأنصار ويدعى «ثعلبة بن حاطب» والّذي كان في بداية أمره معسراً وفقيراً بشدة وكان يتمنّى أن يكون يوماً من الأثرياء ولذلك طلب من النبي بإلحاح شديد أن يدعو له بذلك ليكون من الأثرياء.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، ولكنه أصرّ على ذلك وقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً والّذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلّ ذي حقّ حقه وهو قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)([19]).
ثمّ إنّ النبي الأكرم دعا لهذا الرجل بعد إصراره الشديد ليكون عبرةً لغيره فلم تمض فترة إلّا وانفتحت عليه أبواب الرزق والثراء ببركة دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) وحصل على ثروة طائلة غير متوقعة ، فملك قطعان كبيرة من الأغنام والإبل وأصبح من الموسرين جدّاً ، ولكن عند ما نزلت آية الزكاة وسمع بها وعلِمَ انه يجب عليه أن يدفع مقداراً قليلاً من هذه الأموال بعنوان الزكاة إلى الفقراء والمساكين ، فما كان من هذا الرجل البخيل إلّا أن نقض عهده مع الله تعالى ومع رسوله الكريم ونسي وعده بمساعدة الفقراء وامتنع من دفع الزكاة.
وهنا يتحدّث القرآن الكريم عن هذه الحالة بإيجاز فيقول (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)([20]).
وبالرغم من أنّ «ثعلبة» لم يكن سوى رجل واحد ، ولكن عند ما ازدادت أمواله وكثرت ثروته استخدم بعض الأشخاص لحفظها ورعايتها ، ولذلك فمن المحتمل أن تكون صيغة الجمع الواردة في الآية إشارة إلى هذا المطلب.
وهناك احتمال آخر وذلك بأن مثل هذه الحالات لا تختّص بثعلبة وطلبه من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، بل إن هذه الحالة تكثر بين الناس في المجتمعات البشرية حيث يطلبون من الله تعالى هذا الطلب ويعدون بشتّى الوعود ولكنهم لا ينجحون في الامتحان الإلهي ويتحركون بعد ذلك من موقع نقض العهود هذه ، والسلوك في خط الانانية والبخل وحب الدنيا وعلى أية حال فإنّ النتيجة الحتمية لنقض العهد والبخل هو أن تدب ريح النفاق في قلوب هؤلاء البخلاء وتستمر معهم إلى يوم القيامة كما تقول الآية (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ)([21]).
أجل ، فإنّ الرجل كان في أحد الأيّام من العباد والزهّاد وكان يسمّى بحمامة المسجد وكانت جبهته متورمة كثفنات البعير من أثر السجود ولكن بسبب البخل والانانية والشح فإنه أصبح في مواجهة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بحيث إنه اعترض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبب الأمر بالزكاة وقال بأن الزكاة تشبه الجزية الّتي تؤخذ من أهل الكتاب ، وبهذا أصبح في عداد المنافقين وأخيراً تم طرده من المجتمع الإسلامي.
«الآية الرابعة» تبين في سياقها العقوبة الإلهية الشديدة للبخلاء ، وما ورد في هذه الآية من المجازات والكنايات بالنسبة إلى البخل لم ترد في سائر آيات القرآن الكريم حيث تقول الآية (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ...)([22]).
ثمّ تضيف الآية (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)([23]). فتكون الأموال الّتي جمعوها على شكل سلسلة ثقيلة تكبلهم وتمنعهم من أي حركة في عرصات المحشر ، وفي ختام الآية يقول تعالى (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)([24]).
هذه الآية تشير إلى أنّ المحافظة على المال والسعي لاكتنازه والبخل به لا ينفع الإنسان شيئاً في حياته الدنيوية لأنّه سوف يضطر إلى ترك كلّ ما لديه ويرحل.
وبالرغم من أنّ بعض الروايات فسّرت الآية أعلاه بمسألة منع «الزكاة» ولكن حسب الظاهر فإن مفهوم الآية يستوعب في مضمونه جميع أشكال البخل وحتّى مضافاً إلى البخل بالأموال يشمل البخل بالعلم والمعرفة وأمثال ذلك كما ذكر بعض المفسّرين.
أمّا تصوير الحالة الّتي تجعل هذه الأموال على شكل حلقة وطوق حول رقبة البخيل يوم القيامة ، فينبغي القول طبقاً لما ورد في بعض الروايات أنّ تلك الأموال تأتي يوم القيامة على شكل طوق من نار كما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال : «ما من عبد منع زكاة ماله إلّا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب ، وهو قول الله : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال : ما بخلوا به من الزكاة» ([25]).
ومن التعبير أعلاه يستفاد بوضوح أنّ التعبير بكلمة «الطوق» هو في الواقع من قبيل تجسم الأعمال التي يسلكها الإنسان ويعملها في الدنيا. لأن «الطوق» لا يبتعد ولا ينفصل عن الإنسان بأية حال ، وعلى كلّ حال فإنّ التعبيرات المختلفة للآية كلّها تحكي عن قبح «البخل» وحسن «الانفاق» في سبيل الله والسخاء في المال وسائر المواهب الإلهية على الإنسان.
والملفت للنظر أنّ أموال «البخلاء» لا تطوق الإنسان البخيل يوم القيامة فحسب ، بل في الدنيا أيضاً تكون بمثابة القيود الّتي تثقل كاهل الشخص بسبب الاهتمام بحفظها وحسابها والخوف من نقصانها او تلفها وأمثال ذلك حيث يتلف الإنسان السنوات العزيزة من عمره من أجلها ، ثمّ يضطر إلى تركها والتوجه للحياة الاخرى محملاً بالمسؤولية بسببها.
«الآية الخامسة» تتحدّث عن الأشخاص الّذين لا يعيشون البخل لوحدهم فقط وإنّما يدعون الناس إلى البخل أيضاً ، وتبين حالهم من موقع الذمّ والتقبيح وأنّهم مصداق عنوان «مختالٍ فخور» ، وقد صرَّح القرآن الكريم في عدّة مواضع أنّ الله تعالى لا يحب من كان مختالاً فخوراً ، ويقول الله تعالى أيضاً بالنسبة إلى هذه الطائفة من الناس (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)([26]).
ومن البديهي أنّ الله تعالى لا يحبّ الشخص الّذي يعيش التضاد المطلق مع صفاته الحسنى وأسماء الجلال والجمال لله تعالى ، وبالتالي فإنّ مثل هذا الإنسان يخرج من دائرة سُبل عنايات الله الخاصّة.
والملفت للنظر هو أنّ الآيات الّتي سبقت هذه الآية تشير إلى ما يصيب الإنسان من المصائب والبلايا وأن لا يتعلق الإنسان بهذه الحياة ولا يغتر بما لديه من امكانات مادية وقابليات دنيوية ، وليعلم أنّ «البخل» لا يجديه شيئاً في عملية الثراء والغنى بل إنّ الحياة الدنيا تتقلب من شكلٍ إلى آخر ، وبذلك قد يكون أثرى الناس وأكثرهم مالاً في يوم آخر من أفقر الناس ، ويتبدل حال الفقير كذلك بين عشية وضحاها ليكون من أغنى الناس ، إذاً فلا داعي إلى الفخر والمباهات والغرور بهذه الثروات المتنقلة لانها لا تحل مشكلة حقيقية للإنسان في واقعه النفسي.
والملاحظة المهمة الاخرى هي دعوة هؤلاء البخلاء الآخرين لسلوك طريق البخل أيضاً ليصبح الناس كلّهم مثلهم ، فلا يفتضح أمرهم ولا يعيب عليهم الناس حالة الشح والبخل فيهم ، مضافاً إلى أنّ مثل هؤلاء الأشخاص قد سحقوا العواطف الإنسانية تحت أقدامهم فهم يعيشون قساوة القلب وعدم الاحساس بالرحمة والعطف تجاه الآخرين ، لذلك فإنّهم يتألمون عند ما يرون سخاء الآخرين وترحمهم وعطفهم على الفقراء والمحتاجين ويودون أنّهم لو كانوا مثلهم في البخل.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر المعيقة ، وكان الرجل ممن يرجو نوافله ويؤمل نائله ورفده وكان لا يسأل علياً (عليه السلام) ولا غيره ، فقال رجل لأمير المؤمنين (عليه السلام) : والله ما سألك فلان ولقد كان يجزيه من الخمسة أوساق وسق واحد ، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا كثّر الله في المؤمنين ضربك اعطي أنا وتبخل أنت ، لله أنت ، إذا أنا لم اعط الّذي يرجوني إلّا بعد المسألة ثمّ أعطيته بعد المسألة فلم أعطه إلّا ثمن ما أخذت منه ، وذلك لأني عرضته أن يبذل لي وجهه الّذي يعفّره في التراب لربي وربّه ...» ([27]).
«الآية السادسة» وضمن الإشارة إلى العقوبة الشديدة والعذاب الاليم الّذي ينتظر البخلاء تقول (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى * وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)([28]).
ويتضح جيداً من سياق هذه الآيات ما يلي :
1 ـ إن البخل لا يتسبب في رفع حالة الاحتياج والفاقة في النفس بل إنّ سلوك هذا الطريق سوف يزيد من مشاكل الإنسان الدنيوية والاخروية (والملفت للنظر أنّ كلمة «العسرى» في الآية مطلقة تشمل جميع اشكال العسر في الدنيا والآخرة).
2 ـ على فرض أنّ هذا الإنسان استطاع الحصول على ثروة طائلة من هذا السبيل واستطاع نقلها إلى الآخرة ، ولكن ما ذا ينفع ذلك عند ما يهوي إلى جهنم في ذلك اليوم؟
وقد ذكر المفسّرون في تفسير كلمة «يسر» وهي النقطة المقابلة للعسر ، احتمالات كثيرة تأتي كلّها أيضاً في النقطة المقابلة لها ، أي مفهوم «العسر» ، الاحتمال الأوّل : أنّ المقصود من ذلك تهيئة أسباب التوفيق للتحرّك في خطّ الطاعة والإيمان والانفتاح على الله تعالى ، وعلى العكس من ذلك كلمة «العسر» والّتي تعني سلب التوفيق للطاعة والايمان ، وذهب بعض آخر إلى أن معنى هذه الكلمة هو سهولة الحياة في الدنيا وعدم مواجهة الإنسان صعوبات ومشاكل مهمة في امور المعيشة ، ويرى البعض الآخر آنها تعني تيسير طريق الجنّة والثواب الإلهي العظيم يوم القيامة ، والبعض الآخر فسّرها بالإمدادات الإلهية الغيبية للإنسان وأمثال ذلك ولكن كما تقدّمت الإشارة إليه فإنّ مفهوم «العسر» وكذلك «اليسر» مفهوم واسع يستوعب جميع هذه الامور المتعلقة بحياة الإنسان الدنيوية والاخروية.
وفي «الآية السابعة» نجد خطاباً إلهياً لأصحاب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من موقع الذم والتقريع حيث تقول الآية (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)([29]).
ومن أجل أن لا يتصور بعض الجهّال أنّ الله تعالى يحتاج لمثل هذه الأموال والانفاق تقول الآية في سياقها أيضاً (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ)([30]) وعلى هذا الأساس فإنّ ما ينفقه الإنسان من الأموال هو في الواقع أداء للأمانة الإلهية الّتي أودعت عنده لغرض اختباره وامتحانه وتربيته ، وبذلك فإنّ الله تعالى أمر عباده بإيصال بعض هذه الأمانة إلى الفقراء والمساكين أو إنفاقها في طريق الجهاد في سبيل الله.
وفي ختام الآية يتحرّك القرآن الكريم من موقع التهديد للأشخاص الّذين يعيشون البخل والشُّح ويقول : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)([31]).
وعلى هذا الأساس تنطلق الآية من موقع التهديد للبخلاء بالفناء والاندثار ، وهذا من أشد اشكال التهديد الوارد للبخلاء.
وبالرغم من أنّ مصداق الانفاق في سبيل الله ومع ملاحظة سياق الآية والقرائن الموجودة هو الأنفاق في طريق الجهاد ، ولكن المفهوم واسع ويشمل كلّ عملٍ خير يتحرّك فيه المؤمن من موقع البذل والعطاء للآخرين.
والكثير من المفسّرين من الشيعة وأهل السنّة ذكروا في ذيل هذه الآية انه بعد نزولها سأل بعض الصحابة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن مراد القرآن الكريم من هؤلاء القوم الّذين يأتون بعد البخلاء ويحلون محلهم ولا يكونوا أمثالهم من هم؟
فوضع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يده على رجل سلمان الّذي كان جالساً إلى جنبه وقال «هَذَا وَقَومُهُ وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الإيمانُ مَنُوطاً بِالثُرَيّا لَتَناوَلَهُ رِجالٌ مِنْ فَارْسٍ» ([32]).
«الآية الثامنة» بعد أن تأمر بالإنفاق وتؤكد على أنّ الانفاق يورث الإنسان كلّ خير وبركة تقول : (.. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([33]).
يقول الراغب الاصفهاني في كتابه «مفردات القرآن» الشُّح ، (على وزن مخ) بخلٌ مع حرص وذلك فيما كان عادة.
«الفلاح» بمعنى الشق والقطع ، ويستخدم لكلّ اشكال السعادة والنجاح والنصر والوصول إلى المقاصد والأهداف في حركة الحياة ، وينقسم أيضاً إلى الفلاح المادي والمعنوي.
وقد ورد في الآيات السابقة لهذه الآية انذار وتحذير للمسلمين بالنسبة إلى الفتنة من الأموال والأولاد ، والظاهر انه مع هذا البيان تريد الآية أن تبيّن موانع الانفاق لأنه أحياناً يواجه الشخص الوساوس من قبل الأبناء لكيلا يؤدي بهم انفاق الأب إلى الفقر والحاجة أو يعيشوا بدون ميراث ، وأحياناً اخرَى يعيش الإنسان الوساوس النفسية من مستقبل ابنائه وأنّهم سوف يعيشون حالة الفقر بعده ، فيمنعه ذلك من الانفاق ، ومن المعلوم أنّ جميع هذه الوساوس تعد من أحابيل الشيطان ومن موانع «الفلاح» والنجاح في معراج الكمال المعنوي ، وتورث الإنسان الحرص والبخل الشديد.
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه كان يطوف بالبيت من الليل إلى الصباح ويقول «اللهُمَّ قِني شُحَّ نَفْسي» يقول الراوي فسألته : بأبي أنت وامّي لم اسمع منك هذه الليلة غير هذا الدعاء ، فقال «وَايُّ شَيءٍ اشَدُّ مِنْ شُحِ النَّفْسِ انَّ اللهَ يَقُولُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ المُفلِحُون» ([34]).
وعلى هذا فصفة «البخل» تعد من الموانع المهمة للفلاح إلى درجة أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يدعو الله تعالى في طوافه بالبيت من الليل إلى الصباح بهذا الدعاء ويعتبر أنّ هذه الحاجة هي من أهم حاجاته في خطّ الإيمان والطاعة والتربية النفسية.
وتعبير «خيراً لأنفسكم» بعد الأمر بالإنفاق هو إشارة إلى هذه النكتة اللطيفة ، وهي أنّ السخاء والانفاق في سبيل الله تعود معطياته الايجابية على الإنسان نفسه حيث تربّي فيه الروح الإنسانية ويتخلص قلبه من ظلمات الحرص وقيود «البخل» ، ويترتب على ذلك الكثير من البركات المادية والمعنوية في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.
ونختم هذا البحث بذكر حديث شريف في تفسير معنى «الشُّح» عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سأل «الفضيل بن عياض» : هل تعلم معنى «الشحيح» فقال : البخيل ، فقال له الإمام «الشُّحُ اشَدُّ مِنَ الْبُخلِ انَّ الْبَخيلَ يَبْخَلُ بِمَا فِي يَدِهِ وَالشّحيحُ يَشُحُّ عَلَى مَا فِي ايْدِي النّاسِ وَعَلَى مَا فِي يَدِهِ حَتَّى لا يَرى فِي ايْدِي النّاسِ شَيْئاً الّا تَمَنّى انْ يَكُونَ لَهُ بِالْحِلِّ وَالْحَرَامِ ، لا يَشْبَعُ وَلا يَقْنَعُ بِمَا رَزَقَهُ اللهُ عَزّ وَجَلّ» ([35]).
«الآية التاسعة» وضمن استعراضها لمسألة «البخل» تحت عنوان التقتير تقول في ذكر صفات عباد الرحمن : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)([36]).
«يقتروا» من مادّة «قتر» على وزن «صبر» ويقع هذا المفهوم في النقطة المقابلة للإسراف ، وأحياناً يذكر الاسراف والاقتار كلٌّ منهما في مقابل الآخر ، فالأوّل هو البذل أكثر من الحدّ اللازم ، والآخر هو البذل أقل من المقدار اللازم.
وفي الواقع فإنّ «قتر» و«اقتار» تعد من المراحل الضعيفة للبخل ، لأن الاقتار هو الحدّ الأدنى للإنفاق في حين أنّ المراحل الأشد من البخل تفتقد إلى أي شكل من أشكال الانفاق والعطاء ، ومع هذا الحال فإنّ الله تعالى ينزه عباده المخلصين من هذه الصفة أيضاً رغم أنّها أفضل من البخل.
الكثير من المفسّرين أوردوا في معنى «الاقتار» مفهوم البخل أو الشُّح وأمثال ذلك ، وقد وردت رواية في تفسير «علي بن إبراهيم» عن الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا المعنى حيث ذكرت الرواية أنّ (لَمْ يَقْتُرُوا) بمعنى «لَمْ يَبْخَلُوا فِي حَقِّ اللهِ عَزّ وَجَلّ» ([37]).
وجاء في بعض التفاسير أنّ بعض الخلفاء أراد تزويج ابنته من أحد الامراء ، فعند ما سأل هذا الخاطب لابنته عن مقدار ما ينفقه للزواج من ابنته أجاب بجواب جميل وقال «الحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِئَتَينِ» ثمّ تلى هذه الآية الشريفة ([38]).
وفي «الآية العاشرة» والأخيرة من الآيات محل البحث نجد خطاباً من الله تعالى لنبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ)([39]).
وفي ختام هذه الآية يقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)([40]) وهنا وردت كلمة «إنسان» للإشارة إلى الإنسان المنقطع عن الله والّذي لم يتحرّك في طريق التربية النفسية والتهذيب الأخلاقي بل كان يسير في خطّ البخل والامساك والتقتير ، وإلّا فإنّ الإنسان إذا تحرّك تحت تعليم «أولياء الله» وتربيتهم فإنّ ذلك من شأنه أن يحفظ له فطرته السليمة ، فلا يكون بخيلاً أو ممسكاً أو قتوراً ، ويستفاد من تعبير الآية أعلاه أن «البخل» لا يكون دائماً متزامناً مع حاجات الإنسان الشخصية أو الجماعية بل إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية قد تترسخ في وجود الإنسان بحيث لو انه اعطي خزائن الله تعالى لبخل في العطاء أيضاً رغم انه لا يجد في واقعه العملي حاجة إلى كلّ تلك الكنوز والخزائن.
وتعبير (كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) ورد بشكل مطلق كما هو الحال في موارد اخرى من القرآن الكريم في قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)([41]) و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)([42]) و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ)([43]) و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)([44]).
وأمثال هذه التعبيرات وكلّها تشير إلى أن الإنسان المتصف بمثل هذه الصفات هو من فقد فطرته الأولية السليمة وابتعد عن تعاليم الأنبياء والأولياء في خطّ التربية ، وإلّا فإنّ كلّ إنسان لم يُخلق في ذاته كافراً وملوثاً وبخيلاً وظالماً ، بل إنّ نظام الخلقة يوجب أن يكون الإنسان سليماً في فطرته وطاهراً في ذاته.
النتيجة :
إن الآيات محل البحث تدلّ على المفهوم الإسلامي والموقف القرآني بالنسبة إلى «البخل» وقد ذكرت الآيات الشريفة نماذج من سلوك البخلاء ومصيرهم المشؤوم وعاقبتهم الاليمة والنتائج السلبية المترتبة على البخل في حياة الإنسان المادية والمعنوية ، وقد ذكرت الآيات الشريفة البخل بعنوان رذيلة أخلاقية شنيعة من شأنها أن توقع الإنسان في ورطة الشقاء والتعاسة وتبعده عن «الفلاح» والسعادة المنشودة.
[1] سورة القصص ، الآية 76 ـ 77.
[2] سورة القلم ، الآية 17 ـ 20.
[3] سورة التوبة ، الآية 75 ـ 77.
[4] سورة آل عمران ، الآية 180.
[5] سورة النساء ، الآية 37.
[6] سورة الليل ، الآية 8 ـ 10.
[7] سورة محمّد ، الآية 38.
[8] سورة التغابن ، الآية 16 وسورة الحشر ، الآية 9.
[9] سورة الفرقان ، الآية 67.
[10] سورة الإسراء ، الآية 100.
[11] سورة القصص ، الآية 76.
[12] سورة القصص ، الآية 76.
[13] سورة القصص ، الآية 76 ـ 77.
[14] سورة القصص ، الآية 79.
[15] روح البيان ، ج 10 ، ص 114 ، (لقد استفاد من كلمة «وَلا يَسْتَثْنُونَ» أنّ المراد هو قول «إن شاء الله» ، ولكن المناسب مع مفهوم الآية هو أنّهم لم يتركوا شيئاً من ثمار البستان إلى الفقراء).
[16] سورة القلم ، الآية 19.
[17] سورة القلم ، الآية 20.
[18] سورة القلم ، الآية 26 و 27.
[19] سورة التوبة ، الآية 75.
[20] سورة التوبة ، الآية 76.
[21] سورة التوبة ، الآية 77.
[22] سورة آل عمران ، الآية 180.
[23] المصدر السابق.
[24] سورة آل عمران ، الآية 180.
[25] تفسير البرهان ، ج 1 ، ص 327 ، تفسير العياشي ، ج 1 ، ص 207.
[26] سورة النساء ، الآية 37.
[27] وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 318.
[28] سورة الليل ، الآية 8 ـ 10.
[29] سورة محمّد ، الآية 38.
[30] نفس المصدر.
[31] سورة محمّد ، الآية 38.
[32] ذكر هذا الحديث «القرطبي» في تفسير «الأحكام» ، والبرسوئي في «روح البيان» والفخر الرازي في «التفسير الكبير» ، والطبري في «مجمع البيان» ، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره ، والسيوطي في «الدرّ المنثور» ، وجماعة آخرون أيضاً ذيل تفسيرهم لهذه الآية.
[33] سورة التغابن ، الآية 16 وسورة الحشر ، الآية 9.
[34] نور الثقلين ، ج 5 ، ص 346.
[35] نور الثقلين ، ج 5 ، ص 291.
[36] سورة الفرقان ، الآية 67.
[37] تفسير علي بن سورة إبراهيم ، الآية ج 2 ، ص 117.
[38] تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، ج 7 ، ص 4789.
[39] سورة الإسراء ، الآية 100.
[40] المصدر السابق.
[41] سورة العاديات ، الآية 6.
[42] سورة الحجّ ، الآية 66.
[43] سورة الزخرف ، الآية 15.
[44] سورة إبراهيم ، الآية 34.