التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
سياسة نقطانب الثاني الداخلية والخارجية
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج13 ص 268 ــ 284
2025-06-16
25
يَدُلُّ تاريخ «نقطانب» الثاني الذي بلغ نحو الثمانية عشرة سنة، أنه كان متبعًا سياسة الدفاع المحض بوجه عام، وبذلك كان يُعتبر سائرًا على خُطَّة مؤسس الدولة السمنودية وتقاليده، وهذه السياسة كانت إذا قُورنت بسياسة «تاخوس» أَقَلَّ لَمَعَانًا وأَقَلَّ قوة، غير أنها كانت على أية حال على ما يظهر؛ تتفق مع مزاج المصريين، ولم نر قط أي ثورة قامت في البلاد لتعكر صفو حُكم هذا الفرعون الذي كانت ماليتُهُ أَقَلَّ بكثيرٍ عن مالية سلفه صاحب الأطماع البعيدة؛ إذ الواقعُ أن «نقطانب» الثاني قد عامل بحذق أو حابى بمهارة طبقةَ الكهنة الذين كانوا معارضين لمشاريع «تاخوس» معارضة صارمة، وقد ربط مشاريعه العامة بما كان يدخل للبلاد من فوائد من التجارة الخارجية والخزانة.
وإذا كنا نراه قد حفظ لنفسه تسع أعشار دخل الضريبة التي كانت تُجبى من بلدة «نقراتيس»؛ فإنه قد منح العشر المتبقي لمعبد «سايس»، وقد كان هذا يعد هدية محضة (راجع: Baillet. p. 77).
وإذا كُنَّا سنرى في عام 342-341ق.م أن سلطانه قد تَدَاعَى وفي الوقت نفسه كذلك ضاع استقلالُ وطنه؛ فإن ذلك كان قد أتى — بوجهٍ خاصٍّ — من ضربة صوبها جيشٌ إغريقيٌّ كان في خدمة العاهل «أوكوس» الفارسي، ولا بد أنْ نَذكر هنا أن «أوكوس» قد بدأ في القيام بأول محاولة قوية لأجل أن يُعيد «مصر» تحت النير الفارسي حوالي 351ق.م، ويقال: إن التعبئة للقيام بهذه الحملة على «مصر» كانت طويلة الأمد؛ إذ يقال: إنها امتدتْ عدة سنين، وهذه النظرية إن صحت فإنها لا تخرج عن كونها كسابقتها التي قام بها الفرسُ منذ عام 380–374ق.م في عهد الفرعون «نقطانب» الأول، ومن ثم يكون من الجائز أن الاستعدادات والتجهيزات الحربية والمالية العظيمة التي بدأتْ حوالي 354-353ق.م في البلاد الفارسية كان المقصود منها على ما يظن غزو البلاد المصرية، وقد يكونُ المقصود بها غزوُ «مصر» وغيرها، وقد بدأ ملِك الفرس هجومه على «مصر» في عام 351ق.م، وقد استنبط ذلك من الخطبة التي أُلقيت عن حُرِّية أهل «رودس»، وقد كان ملك الفرس نفسه هو الذي يُدير العمليات الحربية (راجع: Isocrate Phil. 101)، وإذا صدقنا ما حدثنا به «إسوقراط» فإن الملك «أوكوس» كان تحت تصرفه أقوى جيش يمكنُ جمعُهُ، غير أن ما ذكره هذا الخطيبُ لا يمكنُ الاعتمادُ عليه بصفة جدية؛ إذ كان متهمًا بتحقير هذا العاهل على طول الخط، وبخاصة عندما نعلم أنه قد حاول عام 346 تحريض الإغريق على الدخول معه في حرب. أما «ديودور» فنجده قد حقر قوله في هذا الصدد في وجود جيش كثير العدد جدًّا.
هذا، ويمكن لنفس السبب كذلك أن ملك الفرس لم يكن هو القائد المقصود الذي أظهره أمامنا «إسوقراط» في هذه الصورة الحقيرة، ولا نزاع في أن ما أجمع عليه في هذا الصدد هو أنَّ هذه الحملة قد لحق بها هزيمةٌ منكرةٌ (راجع: Isocrate Phil. 101, Demosth., XV, 12; Diod. XVI, 40, 3; 44. 1; 48, 1-2).
أما عن تطوُّرات هذه الحملة وسبب هزيمة ملك الفرس فيها؛ فإن ما لدينا من متون لا يوجد فيها — بكل أسف — إلا إشاراتٌ ضئيلةٌ لا تشفي غلة، ومع ذلك فإن بعض الحقائق الهامة تبدو لنا من بين السطور، فنستنبطُ أولًا ما يظهر من متن «إسوقراط» أن المصريين كان لديهم الوقتُ الكافي — كما كانت الحالُ قبل عام 374ق.م — لاتخاذ العدة أو لتقوية الدفاع عن شرق الدلتا.
ومن المؤكد أنَّ الحصون الدفاعية التي كان قد أقامها «خابرياس» فيما مضى لم تكن قد هُدمتْ تمامًا، وكانوا يخافون كثيرًا كما يقول «إسوقراط» الخطيب راجين ألا يستولي الملك على معابر النيل، وعلى كل الترتيبات الأخرى للدفاع، ويقول «إسوقراط» إن هذه المخاوف لم تحقق، ومن ثم نفهم أن الفرس قد رأوا أن هجومهم قد أخفق عند سفوح المعاقل التي كانت تعوقهم عبر النيل.
وبعد ذلك — وهذا هو الأمر الرئيسي — نُشاهد أن «نقطانب» الثاني لم يكن يحارب وحده، بل كان إلى جانبه يعاضده قائدان مِن ألمعِ قُوَّادِ العصر؛ لِمَا امتازا به من شجاعة وذكاء فائقين، أولهما القائدُ الأثينيُّ «ديوفانتوس Diophantos» والآخر هو القائد الأسبرتي «لامياس Lamias» وقد كان وجودُهُما — على ما يظهر — إلى جانب «نقطانب» مصدرَ سُرُور عظيم؛ إذ كان كما يقول «ديودور» بصورة مؤكدة من الوجهة الحربية لا كغاية له (Diod. XVI, 48–1) كما شاهدنا ذلك في حربه مع المدعي المنديسي.
والآن يتساءلُ الإنسانُ: هل كان وجود هذين القائدَين في جيش الفرعون يتفقُ مع بعض جفوة أو تحرج سياسي بين بلاد الفرس وبين وطنيهما بالتوالي؟ والغرضُ التالي الذي يرد على الخاطر هو أنه في عام 351-350ق.م قد قامت الحربُ المقدسةُ في بلاد الإغريق.
هذا، ونعلم — منذ 346ق.م — أن «أثينا» و«أسبرتا» قد تحالفتا مع الفوسيديين Phocidians، وكانوا أعداء ألداء لطيبة اليونانية منذ عام362ق.م، والواقع أن كلًّا من «أثينا» و«أسبرتا» بعد قيام عداوة بينهما وبين ملك الفرس مدة لم يطل أَمَدُها وكان سببها إرسال «بامنيس» وبرفقته خمسة آلاف من المشاة الإغريق إلى الشطربة «أرتابازوس» لمساعدته على ملك الفرس العظيم في عام 352ق.م؛ قد أحكما أواصرَ الأُلفة القديمة التي كانت بينهما، وبين ملك الفرس في عام 351-350ق.م، (راجع: Diod. XVI, 40, 1-2) ، ولَمَّا كانت الحربُ القوسية قد أنهكتهما فإنهما طلبتا العفوَ من الملك «أوكوس» الذي لم يَتَوانَ في منحه لهما، وقد أرسل مع عفوه هذا هدية قدرها ثلاثمائة تلنت من الذهب.
ومن ثم يتساءلُ الإنسانُ فيما إذا كانت كُلٌّ مِن «أثينا» و«أسبرتا» بإرسالهما أو بالسماح لقائديهما «ديوفانتوس» و«لامباس» لِمُسَاعَدَةِ المصريين بنجاح؛ لم يكونا قد سُرَّا سُرُورًا عظيمًا بإنزال هزيمةٍ قاسيةٍ بالملك العظيم الذي كان متحالفًا مع أعدائهم أهل «بوشيا»، غير أن مثل هذا الغرضَ تعترضُهُ عدةُ عقباتٍ، ولا بد أن نحترس بوجهٍ خَاصٍّ من الاعتقاد في وُجُود قَطْع علاقات عالميةٍ بين الفرس والأثينيين أو نستنتج وُجُود محالفة بين هاتين البلدين وبين «نقطانب»، فأولًا نجد أن الموقف الذي سلكه «خابرياس» في عام 359ق.م يبرهن لنا على أنَّ حكومة إغريقية يمكن أن تكون ذات علاقة طيبة جدًّا دون أن تقطع علاقتها تمامًا مع ملك الفرس، وبدون أنْ تتحالف مع «مصر»، وتسمح لأحد مواطنيها أن يخدم بقوةٍ ولِمُدَّةٍ طويلة دون الموافقة الرسمية من مجلس الأُمَّة (Demos)، وكذلك على حسب ما ذكره «ديمونستين»، وهو شاهدٌ معاصرٌ أنه حدث في عام 351ق.م أن الشعبَ الأثينيَّ في مجموعه أو أغلبيتِهِ قد رَفَضَ — في صمت — كل فكرة ترمي إلى قطع العلاقات بين «أثينا» وبين ملك الفرس لمصلحة الفرعون، ويقول «ديموستين» (Diod. XV, 5) «إني لَفِي دهشةٍ أنْ أرى نَفْسَ الخطباء الذين كانوا قد حاولوا إغراءَ مدينتنا أن تدخل في حرب مع الملك من أجل معاضدة مصالح المصريين. »
وعلى ذلك كان يوجدُ في غُضُون هذا العهد «حزبٌ مصريٌّ» بصورةٍ ما وإنه لَمِنَ المحتمل إذا كان قد ذهب «ديوفانتوس» بتحريضٍ منه أو بموافقته ليصد التعديَ الفارسيَّ على «مصر»، غير أن المشاريع الرامية إلى عقد معاهدة مع «مصر» وهي التي قَدَّمَها هذا الحزبُ إلى «التربيون» (مجلس النواب)؛ لم تَلْقَ نجاحًا من الشعب الأثينيِّ، على أنَّ ذلك لم يَكُنْ يعني أن أهل «أثينا» كانوا في أغلبيتهم يميلون إلى الفرس، ولكن كان من الممكن أن كثيرًا من المواطنين الآثينيين كانوا يخشون وُقُوعَ ارتباكاتٍ مع الفُرس، كما حدث في عام 354-353ق.م.
ومن الممكن كذلك أن «أثينا» — مع المحافظة بكل أنفة على كل حقوق الإغريق لحريتهم بالنسبة للملك العظيم — كانت تنشد الموافقةَ على بقاء الحالة كما هي في داخل الإمبراطورية الفارسية؛ ولذلك قد خطأت كُلَّ اضطرابٍ مِن شأنِهِ تمزيقُ أواصرِ هذه الإمبراطورية، وقد كان «ديموستين» من أجل ذلك يرى أن «مصر» كانت تؤلف جُزْءًا من الإمبراطورية الفارسية، ويُلحظ ذلك من قوله: عندما كان يجيب أولئك الذين يميلون إلى «مصر» لا يجهل إنسان أن هؤلاء (يقصد أهل «رودس» الذين كان يبحث على تأمين حريتهم بتدخُّل الأثينيين) إغريق في حين أن الآخرين (أي المصريين) يؤلفون جُزءًا من الإمبراطورية (Demos., XV, 5).
ومن ثم هل تفهم من عبارة «ديموستين» هذه أنه كان لا يعترف باستقلال «مصر»؟ وبعد هذه العبارة بقليلٍ يضيف قائلًا: إذا كان الملك قَدْ سمح له بأن يكون في مجلسه، فإنه كان يحرِّضُهُ على المحارَبة من أجل ممتلكاته؛ إذ كانت تهاجمها إغريق (Diod. Ibid. XV, 7)، وبعِبارةٍ أُخرى: فإن مهاجمة الملك العظيم أو المساعدة على مهاجمتِهِ كما فعل القائد «ديوفانتوس» بالمحافظة على حرية «مصر» التي كانت فيما سبق ضمن أملاك «فارس»؛ يُعَدُّ شيئًا واحدًا، ومِنْ ثم يظهر أنَّ القائدَ «ديوفانتوس» لم يكن — بأية حال من الأحوال — مبعوث أهل «أثينا» في «مصر» حتى ولو بصفة ودية، بل قد يكون ممثلًا للحزب المصريِّ اليوناني في «أثينا»، هذا بالإضافة إلى أن عمله هذا قد استُنكر رسميًّا بجزء كبير من الرأي العام الأثيني.
هذا، ولدينا ما قد يؤكد هذا الاستنباط: ففي الربيع التالي عام 350ق.م تدخل «فوسيون Phocion» الأثيني لمصلحة ملك الفرس على أهل «قبرص» على رأس جيشٍ قِوامُهُ ثمانية آلاف من المرتزقين (Diod. XVI, 42, 7–9)، ومثل هذا التدخُّل لا يقل عن تَدَخُّل «ديوفانتوس».
وعلى أيَّة حال فَإِنَّ مهارة «ديوفانتوس» هذا مضافةٌ إلى مهارة القائد «لامياس» قد ثبتت أحوال الفرعون «نقطانب» تثبيتًا باهرًا، وإذا كانت الجائحةُ التي حَلَّتْ بالملك «نقطانب» الثاني فيما بعد في عام 342ق.م، وهي التي على أثرها قد فَرَّ إلى بلاد «كوش» وقد كان مِن جَرَّائِها في المستقبل البعيد أن أُلِّفَتْ روايةٌ خاصةٌ تَحُطُّ من قدره، قاضية بالحق وبالباطل على كبرياء هذا الأمير المهزوم، وما فطر عليه من جبن، (راجع: Revillout, Revue Egyptol. p. 61-2) فإنه مع ذلك يظهر بعد الانتصارات التي أحرزها قُوَّادُهُ الإغريق يستحق بحق المدائح التي أغدقها عليه كهنةُ «سايس» وهم الذين — بطبيعة الحال — كان قد خصص لهم عُشْرَ الضرائب التي كانت تُجبى مِن «نقراش»، وعلى ذلك كان يمكنُهُ أن يظهر كما لم يحدث من قبل بأنه «الملك القوي الذي يمنح «مصر» السلام والجدار البرنزي الذي يحمي بلاد «كمى» والعظيم الشجاعة … ورب السيف الذي يدخل الرعب في النفوس عندما يصوب نظره نحو الأعداء»، (راجع: Stele de Naucratis, p. I. 2-3; Baillet, 128, Maspero., etc.).
ولكن هذا الجدار البرنزي كان لا بد له أن يهزم يومًا ما، ومنذ السنة التالية لهذا النصر بدأ الحظُّ يقلب له ظَهْرَ المجن، وقد كان للإغريق الذين ساعدوه بنصيبٍ في ذلك أثرٌ واضح، وذلك أنَّ الصدمةَ التي صدم بها «أوكوس» على يد المصريين في عام 351ق.م قَدْ شجعتْ قيامَ العصيان في «فنيقيا» وفي الدويلات الصغيرة في «قبرص» (Diod. XVI, 40, 5;41 etc.) وقد ولى العصاة وجههم شطر الفرعون سواء أكان قد أراد أم لم يرد أن يمد نفوذه خارج حدود «مصر»، وعلى ذلك أرسلوا رسولًا إلى «نقطانب» لمساعدتهم على الخلاص من يد الفرس، وأن يكون حليفًا لهم، وعلى أثر قبوله أخذ في الاستعداد للحرب (Diod. 41, 3).
ولم يمضِ طويلُ زمنٍ حتى غادر الديارَ المصرية أربعةُ آلافِ جنديٍّ من الإغريق المرتزقين، وعلى رأسهم «منتور» القائد الروديسي؛ وذلك لمساعدة ملك «صيدا» المسمى «تنس Ten nes»، على طرد شطربة الفرس من «فنيقيا» (Diod. 42, 2) ، والآن يتساءلُ المرءُ هل كان يجدُ في هذا العمل الأخير أنه كان رجلًا محبًّا للفتح، وبخاصة بعد أن سكر بخمرة النصر الذي ناله على الفُرس، وإن كان ذلك عودة إلى سياسة «تاخوس» الذي كان يرمي إلى توسيع رُقعة بلاده؟ ولا شك أن هذا لم يكن الواقع؛ وذلك لأن المبادرة في هذه الحرب الجديدة لم تكن من جانبه، بل جاءت من جانب الفنيقيين، فهم الذين طلبوا إبرام معاهدة بينهم وبين «نقطانب»، وفضلًا عن ذلك لم نَرَ في مجرى الأمور أن «نقطانب» قد فَكَّرَ في الإفادة لمطامعه الشخصية من هذا النصر المشترك؛ إذ نلحظ أنه لم يغادر «مصر» إلى «فنيقيا»، بل تَرَكَ لقائدِهِ الروديسي قيادةَ الجيش الذي أرسله للمساعدة على هزيمة الفرس، يضاف إلى ذلك أن النجدة التي أرسلها كانت ضئيلة، إذا ما قرنت بالجيش الذي أرسله «تاخوس» عند غزوه «فنيقيا»، و«سوريا» على رأس جيش قوامه 90 ألف مقاتل منهم عشرة آلاف من الإغريق وثمانون ألفًا من المصريين، في حين أن خلفه لم يرسل إلا أربعة آلاف من المرتزقين، وعلى ذلك فإنه من الطبيعي أن ما فعله «نقطانب» الثاني في هذه الحالة لم يكن — في الواقع — للدفاع وحسب، وذلك أن تحرير «فنيقيا» يُبعد عن البحر المتوسط وعن «مصر» تهديد الفرس، ومن ثم تكون انتصارات «منتور»، الروديسي تتويجًا للانتصارات التي أحرزها القائدان «لامياس» و«ديوفانتوس».
ومما يؤسف له جد الأسف أن «نقطانب» بدلًا من أن يحاول بعمله هذا فتحًا جديدًا لمصر، فإنه قد ذهب لخلق تهديد جديدٍ لبلاده على يَدِ حليفِهِ ملك «صيدا»، فقد خانه كما سقط كذلك حربيًّا في أعيُن الجنود المرتزقين الذين أرسلهم إلى «فنيقيا».
ولَمَّا رأى ملك «صيدا» ما سيَحيقُ به من جيش الفُرس الجبار؛ تفاوض سرًّا مع الملك العظيم، وقد عرض عليه أن يسلمه «صيدا» ويساعده على هزيمة «مصر» وإخضاعها للحُكم الفارسي، وذلك لِما لديه من معلوماتٍ دقيقة عن نهر النيل والإقليم الذي يُحيط به، وقد قبل ملك الفرس ذلك على الفور بالفرح والسرور، وقد رأى «تنس» قبل أن يقع فريسة في يد «أوكوس» أن يكاشف القائد «منتور» الروديسي رئيس الجُنُود الإغريق المرتزقين الذين أرسلتْهم «مصر» بالمؤامرة التي دَبَّرَها، وقد انضم إليه الأخيرُ، وبفضل «منتور» هذا الذي كان يُشرف على حراسة جُزْءٍ من المدينة، وكذلك بفضل جُنُوده المرتزقين دَخَلَ الملك العظيم مدينة «صيدا» يرافقُهُ «تنس»، وعلى أثر ذلك انتشر الرعبُ في المدن الأُخرى ووضعت سلاحها أمام قوة الفرس (Diod. XVI, 45, 1–6).
ومن ثم نرى أن تدخل «نقطانب» للمساعدة قد انقلب عليه فحَرَمَه من أربعة آلاف من خِيرة الجنود المرتزقين، وكذلك من مستشار حربي وسياسيٍّ محنك هو «منتور» الذي بخيانته هذه قد فتح للفرس طريقًا إلى «مصر»، أما الطريق الأُخرى المؤدية إلى «مصر» فهي جزيرة «قبرص»، فقد سقطت تقريبًا في نفس الوقت (350ق.م)، وذلك بفضل مجهودات إغريقيٍّ آخرَ هو «فوسيون» (Diod. XVI, 42, 7–9).
وهكذا، نجد في مدة سنة واحدة أن شجاعة الجنود والقُوَّاد الإغريق وخيانتهم قد قلبتْ ظهر المجن لمصر، ولعبتْ دورها في تقويض سُلطان الفرعون، وتدلُّ الأحوالُ على أنَّ إخضاع «فنيقيا» وجزيرة «قبرص» قد مَهَّدَ الطريقَ إلى الحملة الفارسية الفاصلة على «مصر»، وقد اتخذت أولًا العمليات السياسية التي سبقت الحملة ومهدت لها، وقد أرسل عاهل الفرس «أوكوس» يطلب مساعدة أهم البلاد الإغريقية على «مصر»، وقد لَبَّى الدعوةَ بعض هذه المدن مثل «طيبة» و«أرجوس»، ووعدتا بإرسال المدد العسكري الذي طلب إليهما (راجع: diod. XVI, 44, 1-2) ، في حين أن بعض المدن الأخرى — وبخاصة «أثينا» و«أسبرتا» — قد وعدت باتخاذ خطة الحياد (XVI, 44–1).
ويتساءلُ الإنسانُ هل طلب مبعوث ملك الفرس من «أثينا» و«أسبرتا» نفسَ المساعدة التي طلبها إلى «طيبة» و«أوجوس»، أم كان يرى أن مثل هذا الطلب لا يُمكن أنْ يحوز أيَّ قبول؛ ولذلك طلب إلى كل منهما أن تُحافظ على التقاليد كما أكد لنا ذلك ما ذكره «ديديموس»؟
والواقعُ أنه ليس لدينا أيُّ سببٍ يحملنا على الميل لأيٍّ مِن هاتين النظريتين، بل ينبغي علينا أنْ نَقتصر على الملاحظة التالية، وهي: أن المملكتين القويتين اللتين قد اتخذتا هكذا خطة الحياد بين «مصر» وبلاد الفُرس، ويحافظان في «أوروبا» على قوتيهما البحرية والبرية، هما بالضبط هاتان المملكتان اللتان كان التهديدُ من جانب «مقدونيا» قد ضغط عليهما بخطورة بالغة، فقدْ برهن لنا «ديموستين» (Diod. VI 9, 15–19) ، أنه بالضبط في عام 344-343ق.م كان الملك «فيليب» المقدوني والد الإسكندر الأكبر يتبع نحو «أثينا» خطة عداء خطيرة، وذلك في الوقت نفسه الذي كان يُساعد فيه «مسينا» على «لاسيدمون».
هذا، وتقرأ في نفس الخطبة التي ألقاها «ديموستين» أن «فيليب» كان على وُدٍّ ومصادقة مع «أرجوس» و«طيبة»، وقد أظهر ذلك لهما في خلال الحرب المقدسة، (Diod. VI, 7, 9, 11, 15, 18, 19)، وعلى ذلك كان في مقدور هذَين البلدَين أنْ يَتَصَرَّفَا فيما لديهما مِن جُنُود بإرسالهم إلى ساحة القتال الآسيوية والإفريقية، وبذلك تمتد المحالفة التي جمعت بينهما في مناسبات مختلفة على «لاسيدمون» والفوسيين، وبخاصة في عامي 353–346ق.م.
وقد وضع الطيبيون تحت تصرف الملك «أوكوس» ألف مقاتل من المشاة، وعلى رأسهم القائد «لاكراتس» وأرسلت «أرجوس» ثلاثة آلاف جندي، وقد تركت لملك الفرس تعيينَ القائد عليهم بنفسه، فنصب عليهم قائدًا يُدعَى «نيكوستراتوس Nicostratos»، وهو شخصيةٌ غريبةٌ في منظرها؛ فقد كان معجبًا بطول قامته الهركولية، وكان يرتدي جلد أسد ويتسلح بمقمعة في ساحة القتال، ومع ذلك فإن «ديودور» يعلن عنه في صراحة تامة «أنه كانت له قيمة محترمة في ساحة القتال وفي المشورة»، وأخيرًا نجد أن إغريق آسيا الصغرى الذين كانوا حلفاء الفرعون «تاخوس» قد أرسلوا ستة آلاف جندي من المرتزقين إلى جيش الملك العظيم، (Diod. XVI, 44, 2–4). على أن جيش الفرس نفسه كان عرمرمًا؛ فقد كان يحتوي على ثلاثين ألف مقاتل من المشاة، وثلاثين ألف مقاتل من الفرسان، وثلاثمائة سفينة حربية، وخمسمائة سفينة من ناقلات الجنود (Diod. XVI, 40–6).
وإذا كُنا نجدُ أنه منذ الحملة العظيمة التي أرسلها ملك الفرس على «مصر» عام 374ق.م، وهي التي جَهَّزَها في عدة سنين لم يزد عددُ السفن البحرية؛ فإننا مِن جهةٍ أُخرى نجد أن عدد الجُنُود المشاة، قد زاد على ثلاثة أضعاف ما كان عليه، والآن يتساءل المرءُ: ما هي القوة التي أعدها «نقطانب» لمحاربة القوة الفارسية الإغريقية؟ لقد وضع «نقطانب» في ساحة القتال عشرين ألف مقاتل من الجُنُود الإغريق المرتزقين، ومن المحتمل أنَّ القائدَ الذي كان على رأسهم هو «كلينياس» صاحب «كوس»، هذا إلى عشرين ألفًا من الجنود اللوبيين، وستين ألفًا من المصريين، وهذا الإحصاء يدل على أن الجنود المصريين كانوا أَقَلَّ بكثير مما كانوا عليه في عهد الملك «تاخوس»، وهؤلاء الستون ألفًا من الوطنيين كان يظهر عليهم أنهم كانوا قد دربوا على فنون الحرب أكثر من الغوغاء الذين كان قد جمعهم المدعي المنديسي.
وأخيرًا لم يظهر أن «نقطانب» قد حاول أن يحافظ على قوته البحرية أو يجعلها متفوقة، ولم يشر المؤرخ «ديودور» إلى أن «نقطانب» قد بنى سفنًّا حربية، حقًّا أن ثلاثمائة السفينة الحربية التي كان يملكها عاهل الفرس لم يكن يضارعها أسطول «تاخوس» البحري الذي كان يبلغ مائتي سفينة ولم يكن قد بلغ هذا العدد في عصر أي فرعون من فراعنة هذا العصر، ومع ذلك لم يكن في مقدوره أن يغلق الطريق في وجه الأسطول الفارسي إلا بكل صعوبة، ومن ثم نفهم أن السيادة البحرية، كانت في يد الفرس كما كانت الحال في عهد «نقطانب» الأول (372ق.م)، ويُلحظ أن «نقطانب» الثاني قد رفض أي سياسة أو خطة هجومية؛ ولذلك كان عليه أن يقوم ببناء أُسطول نهري ليحارب العدو على النيل، ويقول «ديودور»: إن هذا الأسطول كان يحتوي على عدد من الوحدات لا يمكن تصديقُهُ، وأخيرًا نجد أنه قد ضاعف عدد التحصينات، هذا بالإضافة إلى تحصين كل فُرُوع النيل للدفاع وبخاصة الفرع البلوزي الذي كان مُعَرَّضًا لأول هجوم، وقد أُقيمتْ فيه عدةُ حُصُون وحواجز وخنادق (راجع: Diod. XVI, 46-7, 47, 6-7).
وقد كان كل شيء قد نظم لمجرد الدفاع عن الحدود وحتى في داخل الدلتا، وعلى أيَّة حال لم تتركزْ كل قوة «نقطانب» البالغة مائة ألف مقاتل في كتلة واحدة، بل نجد أن مصبات النيل قد مُدَّتْ بحاميات قوية وقد قاد الفرعون نفسه ثلاثين ألف مقاتل من المصريين وخمسة آلاف من الإغريق وألفين وخمسمائة من اللوبيين لحراسة الأماكن التي كانت هدفًا صالحًا للغزو، (Diod. XVI, 48, 3) ، وتدل شواهد الأحوال على أنه من المحتمل أن جيش «نقطانب» الذي كان أمامه جيشٌ من الفرس يَزيد على ثلاثة أضعافه، كان مبعثرًا بعض الشيء، وإذا كانت قد ارتكبت أخطاء في هذا الصدد الآن، وفي العمليات السابقة فمَنْ كان المسئولُ عن ذلك؟ والواقعُ أنَّ ما ذكره «ديودور» يدل على اتهام «نقطانب» في ارتكاب هذه الأخطاء بشدة فيقول لنا «ديودور» إنه في عام 351ق.م كان الفرعون قد ترك لقائديه الإغريقيين «لامياس» و«ديوفانتوس» الحرية التامة، لكن في عام 342ق.م نجد أنه قد ظن في نفسه أنه قائد ممتاز؛ ولذلك لم يشرك أيُّ فرد معه في إدارة الأعمال الحربية؛ وذلك لأنه كان لا يزال سكرانًا بانتصاراته السابقة، وقد كان مِنْ جَرَّاء ذلك أن عدم قدرته الحربية قد عاقتْه عن اتخاذ أية إجراءات صالحة لقيادة الحرب (Diod. XVI, 48, 1-2) ، وهذا الحكم قد يمكن أن يكون سببُهُ الكارثةُ التي حَلَّتْ بالملك «نقطانب»؛ إذ الواقعُ أنَّ التقاليدَ تَميل بسهولة إلى نسبة اللوم إلى المهزومين.
وقد يكون من الممكن جدًّا — وبدون أي شك — أن «نقطانب» بسبب كبرياء نفسه أو لأنه كان يخاف خيانةً كالتي حدثت في عامي 359، 350ق.م؛ قد وضع تحت تصرفه العمليات الحربية التي كان يقوم بها قواده الإغريق، وبذلك يكون قد ارتكب أخطاء، وهذا جائزٌ جدًّا والظاهرُ أنه كان قائدًا عاديًّا جدًّا في الخطط الحربية، وهذا ما يَميل المؤرخ «بلوتارخ» إلى إظهاره في قصته في الخطط الحربية، وهذا ما يميل المؤرخ بلوتارخ إلى إظهاره في قصته المفصلة التي رواها عن الحرب التي وقعتْ في عام 359-358ق.م، ولكن من المبالغة أن تتهمه بأنه لم يتخذ أي إجراء مفيد في الحرب، ولا نزاع في أن الوصف الذي تركه لنا «ديودور» نفسُهُ عن الاستعدادات التي قام بها للدفاع عن البلاد تَكفي لبراءته من مثل هذا الاتهام.
كانت الفترةُ الأُولى من عام 343ق.م هي الوقت الذي زار فيه سفراءُ الملك «أوكوس» البلاد الإغريقية، وقد كانت مخصصةً للاستعدادات النهائية لإعلان الحرب، وعندما جمع ملك الفرس كل قواه الآسيوية والأوروبية زحف على «مصر» بطريق بادية الشام عام 343-342ق.م، وقبل أن تصل الحملة إلى النيل الشرقي اعترضتها مستنقعات «سربونيس Serbonis» التي كانت مياهُها البعيدة الغور تظهر في صورة أرض صلبة، وذلك بسبب الموجات الرملية التي نشرها الهواء على سطحها (Diod. 1, 30, 4–6).
وفي هذه الرمال المشبعة بالمياه قد ترك جزء من جيش «أوكوس»، وبعد ذلك زحف حتى وصل إلى أمام «بلوز» الواقعة عند نهاية فم النيل الذي كان محصنًا تحصينًا مكينًا، وقد عسكر الفرس على مسافة أربعين استادًا من هذا المكان، وعسكر الجنود المرتزقة بجانب القناة التي كانت تحمي أطراف «بلوز»، (Diod. XVI, 46, 6).
وكانت قلعة «بلوز» تحتوي على حامية مؤلفة من خمسة آلاف رجل يقودهم «فيلوفرون Philophron»، وقد قال «ماسبرو» إنهم خمسة آلاف إغريقي، وهذا ممكن، غير أن متن «ديودورو» لم يذكر شيئًا عن ذلك، ومما لا شك فيه أنه كان يوجد إغريق في «بلوز» (Diod. XVI, 49–2) ، ولكن التعبير الذي يعبر به عن جيش «فيلوفرون» الصغير (Diod. 46, 8) ، ليس من الضروري أن ينطبق على الجنود المرتزقة وحسب فقد أطلقه «ديودور» على مشاة الفرعون «تاخوس» مثلًا، (Diod. XV, 92, 2).
وعندما أقام جيش «أوكوس» معسكره على مقربة من «بلوز» لم يكنْ قَدْ قَرَّرَ شيئًا على حسب رواية «ديودور»، ولم تكن قد اتخذت؛ أي استعداداتٍ للهجوم واقتحام مَصَبَّاتِ النيل، وفي صبيحةِ اليوم الذي كان قد نظمت فيه فرق الجيش ووزعت؛ حدث أولُ تصادُم بين حامية «بلوز» والجنود المرتزقين الطيبيين، وهؤلاء كانوا يتحرقون شوقًا لإظهار أنفسهم بأنهم أشجعُ جُنُود إغريق، وهكذا نجدهم وحدهم دون معين يقتحمون الخنادق العميقة التي تفصل معسكرهم عن أطراف المكان وانبطحوا أمام الجدران، وقد خرج عليهم رجالُ الحامية ونشبت بينهم موقعةٌ حاميةُ الوطيس، استمرت طول اليوم ولم تسفر عن نتيجة حاسمة، وقد فصل الظلامُ المتحاربين (Diod. 46, 9) ، وفي اليوم التالي فقط (Diod. 47, 1 etc.) ، نظم جيش الملك «أوكوس» نفسه للهجوم وقسم جيشه ثلاث فرق.
ويجوز لنا أن نتساءل فيما إذا كانتْ هذه العمليةُ الحربيةُ لم تكن قد سبقتْ وصولَ الجيش الفارسيِّ أمام «بلوز»، وسبقت الواقعة الأولى؟ والواقعُ أن هذه الواقعة قد دارتْ رَحَاهَا في سفح جدران «بلوز» بجنود الفرقة الطيبية التي يظهر أنها كانت منهمكة تمامًا في عمليات الحصار التي كانت قائمةً أمام هذا المكان بجنود الفرقة الأولى التي كانت تحتوي بالضبط على الجنود الطيبيين الذين كان يقودهم القائد «لاكراتس»، وهذه العملياتُ الحربيةُ لم يأتِ ذِكْرُها فيما رواه لنا «ديودور» إلا بعد ذلك بكثير جدًّا، (Diod. XVI, 49–7, etc.).
وهاك ترتيبُ ما ذكره: هجومٌ منفردٌ قام به الطيبيون على «بلوز» (Diod. 46, 8-9) ، تقسيم الجيش الإغريقي الفارسي (Diod. 47, 1–5)، تعداد قوات «نقطانب» الثاني، وتقدير خططه وتنظيم دفاعه (Diod. 47, 5–7, 48, 1–3) ، العمليات الحربية الناجحة التي قامت بها الفرقة الثانية، وهرب «نقطانب» إلى «منف» (Diod. 48, 3–7) ، والأعمال الحربية التي قامت بها الفرقة الأولى — وهي الفرقة الطيبية — التي نصبت الحصار أمام «بلوز» (Diod., 49, etc.) ، ومن ثم نفهم أن الحوادث كما وصفها «ديودور» لم يجعل فيها فاصل بين سلسلتي الأعمال الحربية التي قام بها الطيبيون أمام المكان (وهو أولُ تصادُم حدث وجهًا لوجه وأعمال الحصار) ، غير أن هذه نظريةٌ يصعبُ فَهْمُها.
أما بقية قصة هذه الحملة فمفهومهٌ تمامًا، فبعد اجتياز الصحراء وصل جيش الملك العظيم «أوكوس» إلى أمام «بلوز» ونصب معسكره، وقبل أن تعمل أية تنظيمات قام جنود «طيبة» مدفوعين بالمحافظة على شهرتهم التقليدية، ويحتمل كذلك رغبتهم في التأكد من اجتياز القناة بسرعة، فعبروها واقتربوا من الجدران، وقد دارتْ بينهم وبين المصريين — في خلال ذلك — معركةٌ كان لهمُ الفوزُ فيها؛ فقد ثبتوا أقدامهم بصعوبة على الشاطئ الآخر للقناة وحاصروا القلعة عن كثب جدًّا، وفي اليوم التالي قسم قواد الجيش الإغريقي الفارسي جُنُودهم ثلاثة أقسام مؤلفين ثلاث جماعات، وقد ترك الطيبيون بطبيعة الحال في مكانهم مواجهين «بلوز» في ساحة القتال التي اختاروها لأنفسهم، وهناك سنجدهم فيما بعد، (راجع: Diod. XVI, 49–1).
وقد قسمت القوات الإغريقية على حسب المبدأ الآتي: كانت كل فرقة من الفرق الثلاث الإغريقية يقودها قائد إغريقي ومعه قائد فارسي (Diod. XVI, 47–1)، والواقع أن القواد الإغريق هم الذين قاموا بالدور الهام، ولكن ملك الفرس لم يكن يقصد — بطبيعة الحال — أن يترك قيادة هذه الفرق المرتزقة كلية في يد هؤلاء القُوَّاد، بل كان يراقبُهُم عن كثب وبخاصة الأفراد الذين لم يكن يطمئنُّ إليهم «منتور» الروديسي الذي خان الفرعون عام 350ق.م — كما رأينا من قبل.
وكانت الفرقةُ الأُولى وهي التي نصبت الحصار أمام «بلوز» تحتوي أولًا على الفرقة الطيبية وعلى رأسها القائد «لاكراتس» الإغريقي والقائد «روزاكس» الفارسي الذي قيل عنه: إنه مِن نَسْل أحد السبعة الذين كانوا قد قلبوا حُكومة «ماجي» وشطربة «أيونيا» وبلاد «ليديا» (Diod. XVI, 47, 2) ، وكانت هذه الفرقةُ تحتوي كذلك تحت قيادة «روزاكس» على مجموعة من الخيالة وعدد عظيم من المشاة الآسيويين، أما الفرقةُ الثانيةُ فكانت مؤلَّفة أولًا من الجنود المرتزقين الأرجيين يقودهم «نيكوستراتوس» الإغريقي والقائد الفارسي «أرستازانس»، وكان أقرب الناس ثقة إلى ملك الفُرس بعد «باجواس Bigous»، وكانت هذه الفرقةُ تحتوي خِلافًا لثلاثة الآلاف أرجيني على خمسة آلاف من خيرة الجنود بقيادة «أرستازانس» أيضًا، وقد كان تحت تصرفهم ثمانون سفينة (Diod. XVI, 47, 3).
وأخيرًا كان يرأس الفرقة الثالثة «منتور» الروديسي الإغريقي الأصل، وهو الرجل الذي سلم «صيدا» خيانة، وكان يقود في ساحة القتال جنوده المرتزقين الذين كان على رأسهم في عام 350ق.م، وهؤلاء كان الفرعون «نقطانب» الثاني قد اشتراهم، وقد أصبحوا الآن يعملون على خرابه، وقد انتخب على رأس هؤلاء المرتزقين كذلك «باجواس» الذي كان يُعَدُّ أقربَ الناس للملك «أوكوس»، وكان رجلًا جريئًا لا يرعى إلًّا ولا ذمة، وسيجد سيده في شخص «منتور»، وقد كان يسير بأوامرَ خاصة من «باجواس» الرعايا الإغريق الذين في حوزة الملك، هذا بالإضافة إلى عدد عظيم من البربر؛ وكان يقود فضلًا عن ذلك عددًا عظيمًا من السفن، وبالاختصار نلحظ أن القواد الإغريق لم يكن في أيديهم أيَّةُ قيادة على الأقل رسمية أو ظاهرية على الرعايا الإغريق أو البربر التابعين للملك العظيم، أما القُوَّادُ الفرسُ فكان في يدهم جزءٌ من السلطة على الأقل رسميًّا في قيادة الفرق الهيلانية.
هذا، ونجد في النهاية خلف فرق الهجوم هذه احتياطيًّا عظيمًا من الجيش الفارسي مع الملك نفسه، الذي على ما يظهر لم يشترك فعلًا في العمليات الحربية، والدور الذي كان قد لعبه هذا الملك في حروب عام 351ق.م قد بُولغ فيه كما يدل على ذلك تهكُّمُ الكاتب «إسوكراتس» (Phll. 101)، وعلى أية حال نجد أن ما قام به في عام 342ق.م كان دورًا فَعَّالًا محسًّا، وبعد تقسيم الجيش على هذه الصورة بدأت الأعمالُ الحربيةُ، وقد وضح لنا «ديودور» أولًا ما قامت به الفرقةُ الثانيةُ، (Diod. XVI, 48, 3 etc.) ، وذلك أن القائد «نيكوستراتوس» كان يرشده في سيره أفرادٌ من الشعب المصري، كان قد أخذ الفرس أطفالهم ونساءهم رهينة إن هم خانوه؛ وقد أفلح بأُسطوله في الاستيلاء على جُزء من التحصينات المصرية، وبهذه الطريقة أمكنه أن يُعسكر في إقليمٍ بعيدٍ عن أنظار العدو، وقد كان لديه كل الوقت الكافي ليتحصن فيه (Diod. XVI, 48, 3) ، فهل كان يا ترى يريد أن يهاجم المصريين بعد مدة؟ أو كان يريد أن يسحب الحاميات المجاورة التي كانت في أماكن قوية، ثم يسحقها سحقًّا أو كان يرمي إلى بَثِّ الذُّعر بتهديد قلب جيش العدو وجعله يتقهقر؟
والمؤكد في كل ذلك أن هذا القائد لم يكن المبادر في الدخول في موقعة؛ وذلك أنه عندما علم الجنود المرتزقة الذين كانوا يحرسون الإقليم محمد ريال الله رالمجاور بوجود العدو؛ أسرعوا بقيادة «كلينياس» صاحب «كوسي»، وكان عددُهُم سبعة آلاف مقاتل، وقد نشبتْ موقعةٌ حاميةُ الوطيس، وقد كانت هناك كذلك شجاعة الإغريق فاصلة؛ إذ يقول لنا «ديودور»: إن شجاعة الأرجيين قد منحتهم النصر، ولكن لا بد أن نُضيف أسبابًا أُخرى للحصول على هذا النصر؛ وذلك أن متانة الموقع الذي اختاره وحصنه القائدُ «نيكوستراتوس»، ويحتمل كذلك بعض التفوق في عدد الجنود الإغريقية الفارسية؛ قد ساعد على هذا النصر.
وعلى أية حال فإن الفرقة التي كان يقودها «نيكوستراتوس» بالإضافة إلى ثلاثة آلاف من الأرجيين، قد احتوت خمسة آلاف من خيرة البربر، وقد خر صريعًا من جيش «كلينياس» أكثر من خمسة آلاف رجل في هذه المعركة، وعندما أخبر «نقطانب» بهذه الهزيمة ووجد نفسه قد كُشف خارتْ عزيمتُهُ، وخيل إليه وقتئذٍ أن سائر جُنُود العدو سيذهبون بدون أية صعوبة لاقتحام النهر ويحملون حملة واحدة على «منف»، وهذا هو نفسُ التهديد الذي كان قد حدث في عام 374ق.م، وقد جُدد الآن، ولكن في هذه المرة لم يقاوم المصريون؛ إذ في عام 374ق.م قد امتد أَمَدُ الغزو بعد الاستيلاء على الحصن مما سمح للملك «نقطانب» الأول أن يحصن «منف» وأن يقوم بهجوم معاكس باهر، ولكن في عام 342ق.م نجد أن «نيكوستراتوس» على الرغم من أنه قد نال النصر لم نشاهده على ما يظهر قد أبدى جرأة أكثر من التي أظهرها «فارنابازوس» بالتقدم إلى الأمام، وفي هذا الموقف نجد أن «نقطانب» بدلًا من أن يقوم بهجوم للانتقام عاد إلى «منف» مع جنوده الذين كانوا تحت إمرته مباشرة، وتحصن هناك ولم يتحرك منها، (Diod. XVI, 48, 6-7).
وهذا التقهقر السريع الحاسم لم يحرم أرض الدلتا من جيش هام وحسب، بل كان من جرائه انهيار ركن من أقوى الأركان للدفاع عن «مصر»، وفي أثناء قيام القائد بتنفيذ حركة التفاف لم يكن القائد «لاكراتس» خاملًا أمام حصون «بلوز»، وقد كان في مقدوره أن يتحرك بحرية في القناة كما كان مسيطرًا على الأطراف القريبة من المكان، غير أنه مع ذلك كان عاجزًا عن القيام بهجوم جبار لكسر قوة الحامية؛ ولذلك نجد أنه صمم على محاصرة القلعة حصارًا منظمًا، (Diod. XVI 49, 1) ، ومن أجل ذلك حول جزءًا من مياه القناة، وعمل سدًّا في عرضه، ونقل بواسطته الآلات التي كانت لازمة لتحطيم جدران الحصن، وقد هدمت هذه الجدران إلى مسافة طويلة، غير أن المحاصرين قد تمكنوا من عمل غيرها بسرعة عظيمة، وبنوا برجًا هامًّا من الخشب، (Diod. XVII 49, 1).
وقد استمرت المعركة حول جدران الحصن وشرفاته لمدة مِن الزمن، وقد كانتا لحامية تحتوي في مجموعها — أو بالأحرى في جزء منها — على جُنُودٍ مرتزقين من الإغريق، وهم الذين صَدُّوا هجمات «لاكراتس»؛ غير أن هرب الفرعون إلى «منف» قد كشف الجزء الخلفي من الحصن، وهنا نجد أن الرعب قد استولى على المحاصرين؛ ولذا فإنهم طلبوا المفاوضة مع العدو للتسليم، (Diod. XVI, 49–2).
وعلى ذلك يجوز لنا أن نظن أن مبادرة «نيكوستراتوس» وانتصاره كانا أَهَمَّ بكثير من مهارة «لاكراتس» ونشاطه، وبذلك سقطت «بلوز»، وفي هذه الحالة على الأقل كما قيل قد أدى اندفاع «نيكوستراتوس» الموفق إلى إنزال ضربة قاسية غير مباشرة بالفرعون.
وقد قابل «لاكراتس» بالترحاب مفاوضات المحاصرين ووعد الإغريق بالأيمان أنه عند تسليم القلعة يكون في إمكانهم كلهم العودةُ إلى بلاد الإغريق حاملين معهم أمتعتهم، وبعد ذلك دخل «بلوز»، ولكن كان فتح الإغريق للمدينة لتصير في قبضة الملك العظيم، وعلى ذلك أرسل «أوكوس» إلى «بلوز» «باجواس» الذي كان موضع ثقته يصحبه عدد عظيم من البرابرة ليستولوا على المدينة، وقد وصل «باجواس» في الوقت المناسب ليُسهم في رحيل إغريق الحامية، وقد سلب منهم الفرسُ عددًا عظيمًا من أشيائهم التي حملوها معهم، ولم يسع «لاكراتس» أمام احتجاجات الإغريق إلا أن يتدخل وأجبر البرابرة على الفرار، بعد أن قتل منهم بعضَ الجنود، وقد عرض «باجواس» هذا الأمر على «أوكوس» متهمًا «لاكراتس» رسميًّا، غير أن الملك «أوكوس» لم يوافقْ على العقاب الذي أنزل بجنود «باجواس» وحسب، بل أمر بقتل السارقين (Diod. XVII, 49, 4–6).
والآن يتساءل المرء: هل هذا الحكم الذي أصدره أمير كان معروفًا عادة بالقسوة والخيانة؛ قد صدر عن شُعُور خالص بالعدالة؟ وعلى أية حال نعلم أن غرضه كان عدم الرغبة في صدم شعور «لاكراتس»، والمهم في كل ذلك كان الاستيلاء على «بلوز» التي عَدَّها الملك منذ ذلك الوقت أحدَ مفاتيح القلعة المصرية، ولكن هناك قد انتهتْ حدود نتائج النصر الذي ناله «نيكوستراتوس» في «مصر» فقد كانت هناك نتائجُ ضخمةٌ وفاصلةٌ في هذه الحملة نال شرفَها رجلٌ آخرُ؛ وأعني به: «منتور» الروديسي الذي قاد بصحبة «باجواس» الفرقة الثالثة من الجيش الإغريقي الفارسي، فإليه يرجع الفضل بما أبداه من سياسة ملتوية أكثر مما أظهر من مهارة أو أعمال حربية قوية، فقد عرف كيف يجمع عددًا عظيمًا من المدن تحت لواء الملك وفي طاعته ونال فخار هذا النصر العظيم، وقد حَصَّنَ مركزه الشخصيَّ بنيل ثقة الملك «أوكوس»، ولما كان يعرف أكثر من القواد الآخرين بما له من تجارب بخدمته تحت إمرة «نقطانب» أنه لن يكون هناك اتحاد تام بين العنصرين اللذين يتألف منهما الجيش المصري، وهما الشعبان اللذان يتألف منهما حاميات المدن المصرية؛ أي الجنود المرتزقة الإغريق والجنود الوطنيين (Diod. XVII, 49–6) ؛ فقد أخذ في العمل على بَثِّ الأحقاد وإثارة الفتن بينهما؛ بغية أن ينال فائدة من ذلك، وهكذا نجد أنه بوحيٍ منه أخذت تنتشر شيئًا فشيئًا الشائعاتُ التالية: أن أولئك الذين يسلمون أماكنهم عن طيب خاطر سيعاملهم الملك معاملة سخية، أما أولئك الذين سيلجئون إلى القوة فسيصيبهم ما أصاب صاحب «صيدا» (Diod. XVI, 49, 7-8).
والواقع أن هذا التهديد كان جد حاذق فقد أزعج بطبيعة الحال على الأقل جزءًا محسًّا من المحاصرين، وأصبحوا يرغبون بشدة في التسليم، وقد كان المصريون بوجه خاص أكثر تَعَرُّضًا وأكثر إجرامًا في عيني ملك الفرس من الأجانب الذين كانوا في خدمة الأمير العاصي، وعلى ذلك كان لزامًا عليهم أن يخضعوا مسلمين مدنهم، وسنرى أن هؤلاء هم الذين طلبوا المفاوضات الأولى؛ أما الإغريق فإنهم — على العكس — كان في مقدورهم أن يُنقذوا وظيفتهم بشدة بوصفهم جنودًا مرتزقين، ومن هنا بطبيعة الحال نشأ عدمُ الثقة والخلافات بين الفريقين، مما سبب شَلَّ حركة المقاومة، والواقعُ أنه يُفهم مما جاء في «ديودور» أن الإغريق قد قاموا من جانبهم بالمفاوضة لصالحهم (Diod. XVI, 49–6)؛ ومن ثم قامت اضطراباتٌ وخلافاتٌ في صالح المحاصر، ولقد كان مِن جراء انتشار الشائعة التي قذف بها «منتور» أن ثبتت في وقت قصير الفرقة بين العنصرين، وزادت شقة الخلاف بينهما (Diod. 49, 8) ، وقد أعطت «بوبسطة» المثل في الخُرُوج من الحرب، وذلك أنه عندما كان معسكر كل من القائدين «منتور» و«باجواس» قد نصب أمام تحصينات هذه المدينة بدأتْ مفاوضات التسليم، وقد كانت المبادرة من جانب المصريين، وذلك على حساب الجنود المرتزقين، وكان ما يخشونه من الملك هو انتقامُهُ، وما يرجونه هو تسامحُهُ، وقد خاطبوا ثقته «باجواس» في أمر المفاوضة (Diod. XVI, 50, 1).
غير أن الإغريق كانوا يَشُكُّون في أمرهغير أن الإغريق كانوا يَشُكُّون في أمره، وقد أفلحوا في القبض على الرسول، وانتزعوا منه الاعتراف بالحقيقة، وعندئذ ثار غضبُهُم وانقضُّوا على المصريين فجرحوا منهم بعضَ الأفراد وقتلوا آخرين، ثم قذفوا بالباقين في ناحية من المدينة، وعلى أية حال لم يكن في مقدورهم أن يمنعوا أعداءهم من إخبار «باجواس» بالحادث، ودعوته للحضور والاستيلاء على المدينة بأسرع ما يمكن (Diod. XVI, 50, 2-3) ، ولكن الإغريق في قرارة أَنْفُسهم — كما يُفهم مما رواه لنا «ديودور» منذ بداية قصته عن ذلك، (Diod. XVI, 49, 8) — لم يكونوا مدفوعين بعزيمةٍ قويةٍ للمقاومة، وسواءٌ أكانوا يأملون في مفاوضة حاسمة لمصلحتهم الشخصية، أم كانت حالة المصريين قد نزعت من نفوسهم كُلَّ أمل في الخلاص، وأنهم كانوا يخافون عدمَ قُدْرتهم على منع وُقُوع خيانة، فإنهم قد قرروا من جانبهم فتح مفاوضة بوساطة «منتور»، (Diod. XVI, 50, 3)، وقد كان جُلُّ ما يرغب فيه «منتور» هو تسليمُ «بوبسطه» دون حرب، غير أن مفاوضات المصريين مع «باجواس» قد هددت مطامع «منتور» الذي خاف أن تسليم المدينة رسميًّا إلى «باجواس»، وقد كان هذا الروديسي يريد أن يجني لنفسه شرف هذا الفتح، ولكن بمهارة فائقة عرف كيف يتحاشى هذا الخطر.
وفي الوقت نفسه نجد أن هذا الخطر — بعينه — قد جلب عليه فائدة لا تُقدر، وهي الاعتراف بالجميل والمحبة له من جانب أكبر ثقة عند «أوكوس»؛ فقد دعى «منتور» في سرية تامة الإغريق الذين في «بوبسطة» ليتفاوضوا معه، وقد أشار عليهم أن يتركوا «باجواس» يدخل المدينة ثم ينقضون على البربر الذين بصحبته، وقد دخل جزءٌ مِن جُنُوده في داخل جدران المدينة أغلق الإغريقُ الأبواب وذبحوا كل الفرس الذين دخلوا واستولوا على «باجواس» (Diod. XVI, 50, 3-4)، وعلى ذلك لم يكن لدى «باجواس» الذي فاوض المصريين أي أمل إلا أمل واحد وهو استعمال «منتور» كل ما لديه من نفوذ على الإغريق الآخرين وعندئذ أَذَلَّ نفسه معترفًا بالخطأ الذي ارتكبه، وهو المفاوضةُ منفردًا مع المصريين دون أَخْذِ رأي «منتور»، ووعد أن يستشيره دائمًا في المستقبل، ورجاه أن يخلصه من هذه المصيبة، وعلى أثر ذلك أطلق الإغريقُ سراح صديق الملك بوحيٍ من «منتور»؛ وكذلك كان بفضل «منتور» أن سلم الإغريقُ «بوبسطه».
وهكذا، نرى أن كل فخار تلك العملية قد عاد على الروديسي الماكر، وقد كسب بذلك لُبَّ «باجواس» أبديًّا. ويقول «ديودور»: إنه قد نَشَأَ بين الرجلين محبةٌ وثيقةُ العرى، أكدتْها أيمانٌ متبادلةٌ بينهما، (Diod. XVI, 50, 5–8) ، وقد كان من جراء خضوع «بوبسطه» أن سلمت مدنٌ أُخرى استولى عليها الفزع والهلع.
ولَمَّا رأى «نقطانب» ما صارتْ إليه حالُ المدن المصرية، وقد كان يعمل من «منف» على غزو الدلتا؛ فإنه لم يجسر أنْ يخاطر بكل شيء بالدخول في موقعة في العراء، ومن أجل ذلك فَضَّلَ النزولَ عن الملك، ووصل إلى بلاد النوبة حيث حمل معه إلى هناك الجزءَ الأعظمَ من كنوزه، (Diod. XVI, 51, 1) ، وبعد ذلك اجتاح الفاتحون الفرس «مصر» فهدمت تحصينات المدن وانتزع كل ما في المعابد من ذهب وفضة، وكذلك سلبتْ سجلاتها التي كان «باجواس» يأمل أن يجبر الكهنة يومًا على شرائها مرة أخرى بمبالغ باهظة، وقد ولي أمر الحكم في «مصر» فرانداتس Phrandates ووضع بذلك «مصر» تحت النير الفارسي في حين أن الجنود المرتزقين قد عادوا إلى أوطانهم محملين هم وقوادهم بالهدايا، وهؤلاء كانوا أحسن صناع للنصر الذي ناله «أواكوس»، (Diod. XVI, 51, 2).
وهكذا قُضي على استقلال المملكة الفرعونية بعد أن تمتعت به أكثر من ستين عامًا بعد طرد الفرس أول مرة، وفي خلال تلك المدة الطويلة كان تأثير بلاد الإغريق يتمثل في صُور متعددة ومتغيرة، وقد كانت في ذلك خاضعة إلى إلهامات متنوعة جدًّا، انتهت بنتائجَ غاية في التنوُّع، وعلى الرغم من هذا التنوُّع البالغ فإنه يجوز لنا أن نضع عن العلاقات الإغريقية المصرية منذ 405ق.م إلى 341ق.م بعضَ نتائج عامة، سنتحدث عنها فيما يلي:
تَدُلُّ شواهدُ الأحوال على أنَّ القصد من هرب «نقطانب» أنه ربما أُتيحت له الفرصةُ بعد مدة أنْ يعود إلى «مصر»؛ غير أن الملك «أوكوس» قد اخترق كُلَّ بلاد «مصر» الوسطى والوجه القبلي، بعد أن استولى على كل الدلتا دون أن يُصادف مقاومةً تُذكر.
وقد قبض الغزاةُ على «مصر» بيدٍ حديدية بعد أن تمتعت باستقلالها مدة تربي على الستين عامًا، وقد كانت «مصر» في تلك الفترة أخطرَ عدو على بلاد الفرس، كما كانت في الوقت نفسه أعظمَ مُناهض نجح في التغلب على أسرة الأخمينيسيين، ولكن الفرس في آخر المطاف تغلبوا عليها وسلبوها كل ما تملك من استقلال ومال، وقد وصف لنا واضع الحوليات المصرية حالة البلاد بعد الفتح الفارسي الأخير بقوله: لقد كان بحرنا وجزرنا مملوءة بالنبيذ؛ أي أن بيوت المصريين كانت لا تحتوي على أناس سكنوها، ويمكن للإنسان أن يقول عن تلك الفترة بوجه خاص: إن الميديين قد جلبوا إليهم التعاسة، فقد استولوا على بيوتهم وسكنوا فيها، (راجع: Demotische Chronik col. IV 22, 23; Com p., Ed. Meyer Kl. Schr. II, 86, 87).
والواقع أن كل الإجراءات التي اتخذها الفرسُ بعد الفتح كانت شديدة، ولكنها كانتْ لأغراضٍ معينة، وقد كان كُلُّ عصيانٍ جديد لا بد من إخماده بطريقةٍ واضحةٍ سريعة، وعندما نرى فيما بعد أن الكُتَّاب الإغريق يؤكدون أن الملك «أوكوس» قد ذبح العجل «أبيس» — ويضيف إلى ذلك الكاتب «سويداس» أنه ذبح كذلك العجل «منفيس» وكبش «منديس» — وأن هذه الجريمة الشنعاء تُعد من أفظع الجرائم الوحشية في التاريخ؛ فإن ذلك يضع أمامنا السؤال فيما إذا كان ذلك يضع أمامنا صورةً مشابهة للتي رُويت عن «قمبيز»، وقد تحدثنا عنها طويلًا، أو إذا كان لدينا هنا قصة تعسة من القصص التي ترجع إلى أصل مصري، وهذا ما ليس له أساس قط في النقوش المصرية؟ (راجع: Keinitz, p. 108 Note 4).