النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
بعثة النبيّ الأعظم "ص" وإرساء قواعد النّظام الإسلامي
المؤلف:
السيد علي الخامنئي
المصدر:
إنسان بعمر 250 سنة
الجزء والصفحة:
ص27-49
2025-07-07
11
إنّ العمل المهمّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الدّعوة إلى الحقّ والحقيقة والجهاد في سبيل هذه الدّعوة. ولم يُبتلَ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ تشويشٍ أو تردّد أمام الدنيا الظّلمانيّة في زمانه. سواءٌ في تلك الأيّام الّتي كان فيها في مكّة وحيدًا، أم في ذلك الجمع الصّغير من المسلمين الّذين أحاطوا به وفي مواجهة زعماء العرب المتكبّرين من صناديد قُريش وطواغيتهم، بجلافتهم وبكلّ اقتدارهم، أمام عامّة النّاس الّذين يغطّون في سُبات الجهل والجاهليّة. فلم يستوحش. وقال كلمة الحقّ وأعادها وبيّنها وأوضحها وتحمّل الإهانات واشترى كلّ تلك الصعاب والآلام بالنّفس حتّى تمكّن من أسلمة عددٍ كبير منهم، أم في ذلك الوقت الّذي تشكّلت فيه الحكومة الإسلاميّة، وكان هو نفسه في موقع رئاسة الحكومة، وكانت السّلطة بيده. في تلك الأيّام أيضًا، كان هناك أعداءٌ ومخالفون متنوّعون يواجهون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، سواء تلك المجموعات العربية المسلّحة - البدو المتفرّقون في صحاري الحجاز واليمامة[1]، والّتي كانت دعوة الإسلام تريد إصلاحهم وهم يقاومون - أم ملوك العالم وسلاطينه - القوّتان العظميان في ذلك الزّمان - أي إيران والإمبراطورية الرومانيّة، الّذين كتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجادلهم وتوجّه إليهم وجيّش الجيوش نحوهم، وعانى الصّعاب ووقع في الحصار الاقتصاديّ، حتّى وصل الأمر إلى حدّ أنّه كانت تمرّ على أهل المدينة عدّة أيّام أحيانًا، لا يجدون فيها خبز يومهم. لقد كانت التهديدات الكثيرة تُحيط بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلّ حدبٍ وصوب. كان بعض النّاس يقلقون، وبعضهم يتزلزلون، وبعضهم يتذمّرون، وبعضهم يلوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويحثّه على التنازل، إلّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يتردّد أو يضعف في ميدان الجهاد هذا، وتقدّم بالمجتمع الإسلاميّ بكلّ اقتدار حتّى أوصله إلى أوج العزّة والقدرة. هذا هو النّظام والمجتمع، الّذي استطاع ببركة صمود النبيّ في ميادين الجهاد والدعوة، أن يصبح القوّة الأولى في العالم في السنوات التالية.
كما رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث مشهور ومتواتر، أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"[2]، فإنّ البعثة قد وُجدت في هذا العالَم لأجل هذا الهدف، من أجل تعميم المكارم الأخلاقيّة، والفضائل الروحيّة وتكميلها عند النّاس.
وطالما أنّ المرء لم يتحلَّ بأفضل المكارم الأخلاقيّة، فإنّ الله تعالى لن يوكل إليه هذا المهمّة العظيمة والخطيرة، ولهذا فإنّ الله سبحانه يُخاطب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة قائلاً: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[3]، أي أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على درجة من الاستعداد تجعله قادرًا على تلقّي الوحي الإلهيّ، وهذا الأمر يعود إلى ما قبل البعثة. ولهذا فقد ورد أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان يشتغل بالتجارة في شبابه، وقد كسب من ذلك أرباحًا طائلة، ما لبث أن أنفقها جميعًا على المساكين قربةً إلى الله تعالى.
وفي هذه المرحلة الّتي كانت نهاية تكامل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبل نزول الوحي ـ ولم يكن قد نُبّئ بعد ـ كان النبيّ يعتزل في غار حراء ويجول بفكره في الآيات الإلهية من سماءٍ ونجومٍ وأرض، ويتأمّل في هذه الخلائق والموجودات الّتي تعيش على وجه البسيطة بما لها من مشاعر مختلفة وطبائع شتّى. لقد كان يشاهد كافّة هذه الآيات الإلهية فيزداد خضوعه يومًا بعد آخر أمام عظمة الحقّ ويتضاعف خشوع قلبه أمام الأمر والنّهي الإلهيّين والإرادة الرّبانية وتتفتّح في وجدانه، مع مرور الأيّام، براعم الأخلاق النبيلة. ولهذا فقد ورد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم: "كان أعقل النّاس وأكرمهم"[4]، حيث كان يزداد تكاملًا قبل البعثة بمشاهدة الآيات الإلهيّة حتّى بلغ الأربعين، "فلمّا استكمل أربعين سنة ونظر الله عزّ وجل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب وأجلّها وأطوعها وأخشعها وأخضعها أذن لأبواب السماء ففُتحت، ومحمّد ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمّد ينظر إليهم"[5]، حتّى نزل عليه جبرائيل الأمين وقال: ﴿اقْرَأْ﴾[6] فكانت بداية البعثة.
إنّ هذا المخلوق الإلهيّ الّذي لا نظير له، وهذا الإنسان الكامل الّذي كان قد بلغ تلك الدرجة من الكمال في هذه المرحلة قبل نزول الوحي، قد شرع منذ اللحظة الأولى من البعثة في دخول مرحلة من الجهاد الشامل والبالغ المشقّة والمكابدة، استغرقت ثلاثًا وعشرين سنة، وكل هذا كان نموذجًا للكفاح والمجاهدة والعمل الدؤوب. لقد كان جهاده صلى الله عليه وآله وسلم جهادًا مع نفسه، ومع أُناس لا يُدركون من الحقيقة شيئًا، ومع ذلك المحيط الّذي كان يعمّه ظلامٌ حالك ومطبق. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في وصف ذلك: "في فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بأَظْلاَفِهَا، وَقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا"[7]. لقد كانت الفتن تُهاجم النّاس من كلّ جانب: حبّ الدنيا واتّباع الشهوات والظلم والجور والرذائل الأخلاقيّة، الّتي تقبع في عمق وجود البشريّة، وأيادي الطغاة الجائرة، الّتي كانت تمتدّ على الضعفاء بلا أدنى مانعٍ أو رادع. ولم يكن هذا التعسّف مقتصرًا على مكّة أو الجزيرة العربية، بل كان يسود أعظم الحضارات في العالم آنذاك، أي الإمبراطورية الرومانية العظيمة والإمبراطورية الشاهنشاهية في إيران. فإذا ما تأمّلتم في التاريخ، لوجدتّم صفحة تاريخية مظلمة كانت تضرب بأطنابها كافّة نواحي الحياة الإنسانيّة.
لقد بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جهاده منذ اللحظة الأولى للبعثة متسلّحًا بقوّة خارقة وسعيٍ متواصل يستعصي على التصوّر. لقد تحمّل الوحي، ذلك الوحي الإلهيّ الّذي كان ينزل على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلمكما ينزل الغيث العذب ويهطل على الأرض الخصبة فيمنحه الطاقة ويمدّه بالقوّة، وانبرى موظّفًا كلّ طاقته ليأخذ بِيَد العالَم إلى زمنٍ من التحّول العظيم، ولقد حالفه التوفيق.
إنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنى الخلايا الأولى لجسد الأمّة الإسلاميّة بِيَده المقتدرة، في تلك الأيّام العصيبة من تاريخ مكّة. لقد بنى قواعد الأمّة الإسلاميّة ورفع عمادها، فكان المؤمنون الأوائل وأوّل من اعتنق الإسلام وأوّل من كانت لديهم تلك المعرفة والشجاعة والنورانية الّتي مكنتهم من الوقوف على حقيقة الرسالة النبويّة والإيمان بها، ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾[8]. لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الّذي لامس بأنامله الرقيقة شعاع تلك القلوب الوالهة، وفتح بيده القويّة أبواب الأفئدة على عالَمٍ رحبٍ من المعارف والأحكام الإلهيّة، فتفتّحت الأذهان والقرائح وازدادت الإرادات صلابةً ودخلت تلك الثلةّ المؤمنة - الّتي كان يزداد عددها يومًا بعد يوم - في صراعٍ مريرٍ لا يُمكن تصوّره بالنسبة لنا في المرحلة المكّية. لقد تفتّحت هذه البراعم في بيئة لم تكن تعرف سوى القيم الجاهليّة، فكان يسودها العصبية الخاطئة، ويعمّها الحقد العميق، وتتصارع بين جنباتها قوى القسوة والشرّ والظلم والشهوة الّتي تضغط بشدّة على حياة البشر وتحيط بها من كلّ جانب، فنبتت تلك الغرسات وأينعت من بين كلّ هذه الأحجار والأشواك الجامدة والملتفّة، وهذا هو معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أصلبُ عوداً، (والرواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات العذية) أَقْوَى وَقُوداً"[9]. ولذلك فإنّ كافّة العواصف والأنواء لم تستطع النيل من هذه النباتات والبراعم والأشجار الّتي نمت وترعرعت وانبثقت أعوادها من بين الصخور الصمّاء، وانقضى ثلاثة عشر عامًا، ثمّ ما لبث صرح المجتمع الإسلاميّ ــ المجتمع المدنيّ والنبويّ ــ أن قام على أساس هذه القواعد القويّة.
لم تكن السياسة هي العنصر الوحيد في بناء هذه الأمّة، بل كانت تُمثّل قسمًا من هذه العمليّة. والقسم الأساس الآخر فيها كان يتركّز على بناء الأفراد، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[10]، ومعنى ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعمل على تربية وتزكية القلوب قلبًا قلبًا، كما كان يُغذّي العقول عقلاً عقلاً، وذهناً ذهناً، بالحكمة والعلم والمعرفة، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، والحكمة أعلى درجة ومكانة. فلم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُعلّمهم القوانين والأحكام فحسب، بل كان يُعلّمهم الحكمة أيضًا، وكان يفتح عيونهم على حقائق الوجود.
وهكذا سار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لمدّة عشر سنوات. فمن ناحية كان اهتمامه منصبًّا على السّياسة وإدارة الحكومة والدّفاع عن كيان المجتمع الإسلاميّ ونشر الإسلام وفتح المجال أمام تلك الجماعات الّتي كانت تعيش خارج المدينة أن يدخلوا السّاحة النورانيّة للإسلام وللمعارف الإسلاميّة، ومن ناحيةٍ أخرى كان يعمل على تربية أفراد المجتمع. وهذان الأمران لا يُمكن فصل أحدهما عن الآخر.
لقد اعتبر بعض النّاس أنّ الإسلام مسألة فرديّة، وفصلوه عن السياسة، في حين أنّ نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الهجرة، ومن اللحظة الأولى الّتي تمكّن فيها من النجاة بنفسه من مصاعب مكّة، فإنّ أوّل ما قام به هو السياسة. فإنّ إقامة المجتمع الإسلاميّ وتشكيل الحكومة والنّظام والجيش الإسلاميّ وإرسال الرسائل إلى حكّام العالم الكبار والدخول في معترك السياسة العظيم آنذاك، تُعدّ كلّها من شؤون السياسة. فكيف يُمكن فصل الدين عن السياسة؟! وكيف يُمكن إعطاء السياسة معنىً ومضمونًا وشكلًا بِيَد غير يد الهداية الإسلاميّة؟! ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾[11]، ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[12]. إنّهم يؤمنون بالقرآن، لكنّهم لا يؤمنون بسياسته! ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[13]. فما معنى القسط؟ إنّ القسط يعني إقرار العدالة الاجتماعيّة في المجتمع. فمن الّذي يستطيع تحمّل هذا العبء؟ إنّ إقامة مجتمع يعمّه العدل والقسط هو عملٌ سياسيّ يقوم به مدراء البلاد، وهذا هو هدف الأنبياء جميعًا. فليس الأمر مقتصرًا على نبيّنا فقط، بل إنّ عيسى وموسى وإبراهيم وجميع الأنبياء الإلهيّين عليهم السلام قد بُعثوا من أجل العمل السياسيّ وإقامة النّظام الإسلاميّ.
إنّ سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مرحلة السنوات العشر لحاكميّة الإسلام في المدينة، تُعدّ من ألمع عهود الحكم طيلة التاريخ البشريّ، ولا نقول ذلك جزافًا، وإنّما يجب التعرّف إلى هذا العهد القصير والمليء بالنشاط والّذي له تأثيرٌ خارقٌ على تاريخ البشريّة. إنّ المرحلة المدنيّة هي الفصل الثاني من عصر رسالة النبيّ، الّذي امتدّ لـ 23 سنة. الفصل الأوّل، الّذي كان مقدّمةً للفصل الثاني، كان عبارة عن 13 سنة في مكّة. أمّا السنوات العشر الّتي قضاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فهي تُمثّل سنيّ إرساء قواعد النّظام الإسلاميّ وبناء أنموذج الحكم الإسلاميّ لجميع أبناء البشريّة على مرّ التاريخ الإنسانيّ في مختلف الأعصار والأمصار. وهذا الأنموذج الكامل، لا نجد له نظيرًا في أيّ حقبة أخرى. وبمقدورنا من خلال إلقاء نظرة على هذا الأنموذج الكامل تحديد المعالم الّتي بها ينبغي للبشر وللمسلمين الحكم على الأنظمة وعلى النّاس.
لقد كانت غاية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هجرته إلى المدينة هي مقارعة الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بظلمه وطاغوتيّته وفساده الّذي كان مهيمنًا على الدنيا آنذاك، ولم يكن الهدف مكافحة كفّار مكّة فحسب، بل كانت القضيّة ذات بعد عالميّ أيضًا. كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتعقّب هذا الهدف، فكان يغرس بذور الفكر والعقيدة أينما وَجد الأرضيّة المساعدة لذلك، على أمل أن تنبت تلك البذور في الوقت المناسب. وكانت غايته من ذلك إيصال رسالة الحريّة والنهوض وسعادة الإنسان إلى كافّة القلوب. وذلك يتعذّر إلاّ عن طريق إقامة النّظام النموذجيّ القدوة. لذلك فقد جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لإقامة مثل هذا النّظام النموذجيّ، لكن إلى أيّ مدى تسعى الأجيال اللاحقة لمواصلة ذلك والاقتراب من هذا النّموذج، فذلك منوطٌ بهممها ومساعيها. فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبني النّموذج ويُقدّمه للبشريّة والتّاريخ. والنّظام الّذي شيّده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان له الكثير من المعالم، أبرزها وأهمّها سبعة:
المعْلَم الأوّل: الإيمان: فالدّافع الحقيقيّ للنّظام النّبويّ إلى الأمام هو الإيمان المنبثق من قلوب النّاس وعقولهم والذي يأخذ بأيديهم وكلّ كيانهم نحو طريق الصّواب. إذًا، المعلم الأوّل يتمثّل في نفخ روح الإيمان وتقويته وترسيخه وتغذية أبناء الأمّة بالمعتقد والفكر السليمين، وهذا ما باشره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة ورفع رايته في المدينة بكلّ اقتدار.
المعْلَم الثاني: العدل والقسط: فمنطلق العمل كان يقوم على أساس العدل والقسط وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه من دون أدنى مداهنة.
المعْلَم الثالث: العلم والمعرفة: فأساس كلّ شيء في النّظام النبويّ هو العلم والمعرفة والوعي واليقظة، فهو لا يُحرّك أحدًا في اتّجاهٍ معيّن حركةً عمياء، بل يحوّل الأمّة عن طريق الوعي والمعرفة والقدرة على التشخيص إلى قوّة فعّالة لا منفعلة.
المعْلَم الرابع: الصفاء والأخوّة: فالنّظام النبويّ ينبذ الصّراعات التي تُغذّيها الدّوافع الخُرافيّة والشّخصيّة والمصلحيّة والنّفعيّة ويُحاربها. فالأجواء هي أجواء تتّسم بالصّدق والأخوّة والتآلف والحميميّة.
المعْلَم الخامس: الصّلاح الأخلاقيّ والسلوكيّ: فهو يُزكّي النّاس ويُطهّرهم من رذائل الأخلاق وأدرانها، ويصنع إنسانًا خلوقًا ومزكّىً ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾[14]، فالتّزكية هي أحد المرتكزات الأساس. أي إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يعمل على أبناء الأمّة فردًا فردًا على أساس التّربية وبناء الإنسان.
المعْلَم السادس: الاقتدار والعزّة: فالمجتمع والنّظام النبويّ لا يتّسمان بالمذلّة والتسوّل ومدّ يد الحاجة إلى هذا وذاك، بل يتميّزان بعزّتهما واقتدارهما وعزمهما، فهما متى ما شخّصا موطن صلاحهما سعيا إليه وشقّا طريقهما إلى الأمام.
المعْلَم السابع: العمل والنّشاط والتّقدّم المطّرد: فلا مجال للتّوقّف في النّظام النبويّ، بل الحركة والعمل والتقدّم بنحوٍ منظّم. ولا يحدث أن يقول أبناؤه إنّ كلّ شيء قد تمّ، فلنركن إلى الدّعة والرّاحة! وهذا العمل ــ بطبيعة الحال ــ مبعث لذّة وسرور وليس مدعاة للكسل والملل والإرهاق، بل هو عمل يمنح الإنسان النّشاط والطّاقة والاندفاع.
قدِم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليُقيم هذا النّظام ويعمل على تكامله ويجعله أنموذجًا إلى أبد الدّهر، وليقتدي به اللاحقون على امتداد التاريخ، ممّن تتوفّر لديهم القدرة على إقامة نظامٍ مماثل له، ومن أجل أن يزرعوا الاندفاع في القلوب كي يحثّ بنو البشر الخطى نحو إيجاد مثل هذا المجتمع. وبالطّبع، فإنّ إيجاد مثل هذا النّظام يحتاج إلى دعائم عقائدية وإنسانية.
فلا بدّ أوّلًا من وجود معتقدات وأفكار سليمة كي يُقام هذا النّظام على أساسها. وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأفكار والرؤى في إطار كلمة التّوحيد والعزّة الإنسانيّة وسائر المعارف الإسلاميّة خلال فترة السّنوات الثلاث عشرة الّتي أمضاها في مكّة، ثم علّمها وفهّمها الآخرين بنحوٍ متواصلٍ وعلى مدى لحظات حياته حتّى وافاه الأجل في المدينة، وكان على الدوام بصدد تعليم وتفهيم الجميع مثل هذه الأفكار والمعارف السامية الّتي شكّلت أسس هذا النّظام.
وثانيًا من الضروريّ وجود القواعد والدّعائم الإنسانيّة كي يستقيم هذا البناء عليها، لأنّ النّظام الإسلاميّ لا يقوم على فردٍ واحد. وقد باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإعداد هذه الرّكائز في مكّة وحقّقها. كان البعض منهم من كبار الصّحابة ـ على اختلاف مراتبهم ـ لقد كانوا ثمرة الجهود المضنية والجهاد المرير خلال فترة السنوات الثلاث عشرة في مكّة، فيما كان البعض الآخر من الّذين تمّ بناؤهم في يثرب من خلال رسالة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أمثال سعد بن معاذ وأبي أيوب وآخرين، وذلك قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما حلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، فقد باشر عملية بناء الإنسان من لحظة دخوله إليها. ومع مرور الأيّام أخذت ترد إلى المدينة شخصيّات تتّسم بجدارتها الإدارية وجلالة القدر والشجاعة والتضحية والإيمان والاقتدار والمعرفة حتّى أصبحت أعمدةً صلبة لهذا الصّرح الشامخ الرفيع.
لقد كانت هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ــ الّتي كانت تُسمّى قبل حلوله فيها بـ "يثرب" ومن ثمّ سُمّيت بـ "مدينة النبيّ" بعد دخوله إليها ـ بمثابة نسائم ربيع عمّت أجواء المدينة فشعر أهلها كأنّ انفراجًا حلّ فيهم جذب القلوب وأيقظها. وعندما سمع أهل المدينة بوصول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبا ـ وهي على مقربة من المدينة وقد مكث فيها خمسة عشر يومًا ـ كان الشّوق لرؤيته يغلي في قلوبهم يومًا بعد يوم، وكان بعض النّاس يذهبون إلى قبا ويزورون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويرجعون، فيما بقي الآخرون ينتظرونه في المدينة. وعندما دخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تبدّل ذلك الشّوق وذلك النّسيم إلى عاصفة ألهبت قلوب النّاس فغيّرتها. وسرعان ما نما لديهم الشّعور بأنّ جميع ما لديهم من عقائد وعواطف وروابط قبليّة وعصبيّات قد ذابت بطلوع محيّا هذا الرجل وسلوكه ومنطقه، وأشرفوا على نافذة جديدة تطلّ بهم على حقائق عالم الخلق والمعارف الأخلاقيّة. فكان أن أحدثت هذه العاصفة ثورةً في القلوب بادئ الأمر، ثمّ امتدّت إلى تخوم المدينة، لتخرج فيما بعد إلى قلاع مكّة وتسيطر عليها، وتنطلق في خاتمة المطاف لتشقّ طريقها إلى ما هو أبعد، فتتقدّم إلى أعماق امبراطوريتي ذلك الزمان العظميين، وحيثما توجّهت كانت تهزّ القلوب وتحدث ثورةً في باطن البشر. ففي صدر الإسلام فتح المسلمون بقوّة إيمانهم بلاد إيران والروم، وأيّما قوم طالهم هجوم المسلمين كان الإيمان يُداعب قلوبهم بمجرّد رؤيتهم للمسلمين. كانت الغاية من السيف إزالة العراقيل عن الطريق، والقضاء على المتسلّطين والمترفين. أمّا السواد الأعظم من النّاس فقد استقبل هذه العاصفة في جميع الأمكنة، فكان أن نفذ النّظام والدولة الإسلاميّة إلى أعماق امبراطوريتي ذلك الزمان ـ أي إيران والروم ـ فأصبحتا جزءًا من النّظام والدولة الإسلاميّة. وكلّ ذلك حصل في ظرف أربعين سنة، عشرٌ منها في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وثلاثون منها بعد رحيله.
لقد باشر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عمله بمجرّد أن حلّ في المدينة. ومن العجائب الّتي حفلت بها حياته صلى الله عليه وآله وسلم هي أنّه، وطوال تلك السنوات العشر، لم يهدر لحظةً واحدة، فلم يُرَ صلى الله عليه وآله وسلم، غافلًا عن إنارة مشعل الهداية والإيمان والتعليم والتربية ولو للحظةٍ واحدة، فلقد كانت يقظته ونومه ومسجده وداره ودخوله ساحة الحرب ومسيره في الطرقات والأسواق ومعاشرته لأسرته وكلّ وجوده أينما حلّ، درسًا. يا لها من بركة زخر بها هذا العمر! فالشّخص الّذي شغل التّاريخ برمّته وترك بصماته عليه ـ ولقد قلت مرارًا إنّ الكثير من المفاهيم الّتي اكتست وشاح القدسيّة على مدى القرون التالية، من قبيل المساواة والأخوّة والعدالة والسيادة الشعبيّة، كلّها كانت تحت تأثير تعاليمه صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يكن لمثل هذه الأمور من وجود في تعاليم سائر الأديان، أو لا أقلّه فإنّها لم ترَ النّور، مع أنّ نشاطه الحكوميّ والسياسيّ والاجتماعيّ قد دام عشر سنين فقط لا غير! فيا له من عمرٍ مبارك!
لقد حدّد صلى الله عليه وآله وسلم موقفه منذ اللحظة الأولى لدخوله المدينة، فعندما دخلت النّاقة، التي كان يركبها النبيّ، يثرب أحاط بها النّاس. وكانت يثرب يومها مقسّمة إلى أحياء تضمّ بيوتًا وأزقّة ومتاجر، يعود كلٌّ منها إلى واحدة من القبائل التّابعة إمّا للأوس أو للخزرج... كانت الناقة تمرّ من أمام قلاع هذه القبائل فيخرج كبارها ويأخذون بركاب النّاقة منادين: إلينا يا رسول الله، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"[15]. لكنّ كبار القوم وأشرافهم وشيوخهم وشبابهم اعترضوا ناقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: انزل هنا يا رسول الله، فالدّار دارك، وكلّ ما لدينا في خدمتك، لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم، كان يقول لهم: "دعوا الناقة فإنّها مأمورة". وهكذا طوت الناقة الطريق حيًّا بعد حيّ، حتّى وصلت إلى حيّ بني النجّار، الّذين تنتمي إليهم أمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وباعتبارهم أخوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاؤوه وقالوا: يا رسول الله! إنّ لنا بك لقرابة فانزل عندنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "دعوا الناقة فإنّها مأمورة"، فانطلقت الناقة حتّى حطّت رحالها في أكثر أحياء المدينة فقرًا، فمدّ النّاس أعناقهم ليعرفوا مَنْ صاحب الدار الّتي حطّت عندها الناقة، فإذا به أبو أيّوب الأنصاريّ، أفقر أهل المدينة أو أحد أفقرهم. عمد أبو أيّوب الأنصاريّ وعياله الفقراء المعوزون إلى أثاث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنقلوه إلى دارهم، وحلّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ضيفاً عليهم[16]، فيما رُدّ الأعيان والأشراف وأصحاب النفوذ وذوو الأنساب وأمثالهم، أي أنّه حدّد موقعه الاجتماعيّ، فاتّضح من خلال ذلك عدم تعلّق هذا الرجل بالثّروة والنسب القبليّ والزعامات القبلية والانتماء الأُسريّ والعائليّ وعدم ارتباطه بالمتحايلين الوقحين ولن يكون كذلك. فهو صلى الله عليه وآله وسلم حدّد طبيعة سلوكه الاجتماعيّ منذ اللحظة الأولى، وأيًّا من الفئات يُساند، ولأيٍّ من الطبقات ينحاز، ومَنْ هم الّذين سينالون القسط الأوفر من فائدة وجوده. فالجميع كانوا ينتفعون من وجود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتعاليمه، بيد أنّ الأكثر حرمانًا كان أكثر انتفاعًا منه، دافعهم في ذلك هو التعويض عن حرمانهم.
كانت قبال دارة أبي أيّوب الأنصاريّ قطعة أرض متروكة فسأل صلى الله عليه وآله وسلم عن صاحبها، فقيل إنّها ليتيمين، فدفع لهما ثمنها واشتراها ثمّ أمر ببناء مسجد عليها، كان بمثابة مركز سياسيّ عباديّ اجتماعيّ وحكوميّ ومركز يتجمّع فيه النّاس، حيث اقتضت الضرورة بناء مركز يُمثّل المحورية، ومن هنا تمّت المباشرة ببناء المسجد. ولم يطلب صلى الله عليه وآله وسلم قطعة أرض من أحد أو يستوهبها، بل اشتراها بأمواله، ورغم عدم وجود محامٍ عن هذين اليتيمين فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم راعى الدقّة في أداء حقوقهما كاملة تامّةً كالأب والمدافع عنهما. وعندما باشروا ببناء المسجد، كان النبيّ نفسه صلى الله عليه وآله وسلم من أوائل الأشخاص بل أوّل شخص جاء وحمل بالمعول وباشر بحفر أرض المسجد. ولم يكن عمله هذا استعراضيًّا، بل بالفعل باشر بالعمل وكان يتصبّب عرقًا. كان عمله بحيث أنّ بعض الأشخاص الذين جلسوا جانبًا، قالوا: أنجلس والرسول يعمل هكذا؟! فلنذهب ونعمل، فجاؤوا وانهمكوا في العمل حتّى شيّدوا المسجد خلال برهة وجيزة. وبذلك أثبت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك القائد العظيم والمقتدر - أنّه لا يرى أيّ حقّ لشخصه، فإذا ما كان هنالك عمل فلا بدّ أن تكون له مساهمة فيه. بعد ذلك، وضع صلى الله عليه وآله وسلم، الأطر الإدارية والسّياسيّة لذلك النّظام. ولو أنّ المرء ألقى نظرة على التطوّر الّذي خطاه بذكاء وفطنة، لأدرك أيّ عقل وفكر ودقّة وحنكة تقف وراء تلك العزيمة القاطعة والإرادة الصلبة الّتي لا يمكن تحقّقها ظاهرًا إلاّ برفدٍ من الوحي الإلهيّ. وحتّى يومنا هذا، إنّ الّذين يحاولون تتبّع وقائع تلك السنوات العشر خطوةً خطوة يعجزون عن استيعاب أيّ شيء. وإذا ما حاول المرء دراسة كلّ واقعة على حدة فإنّه لا يدرك منها شيئًا، بل عليه أن يُدقّق النّظر ويلحظ تسلسل الأعمال وكيفية إنجاز كلّ تلك المهامّ بتدبيرٍ ووعيٍ وحساباتٍ دقيقة.
تمثّلت الخطوة الأولى في إرساء الوحدة. لم يكن جميع أهل المدينة مسلمين، لقد كان أكثرهم كذلك، إلّا أنّه بقيت فيما بقيت قلّة قليلة منهم غير مسلمة. علاوة على ذلك، كانت ثلاث من القبائل المهمّة لليهود ـ بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة ـ تقطن المدينة، أي في القلاع الخاصّة بهم المحاذية للمدينة. كانت هذه القبائل قد جاءت إلى المدينة قبل قرن أو قرنين من ذلك التاريخ، وقصّة مجيئهم إلى المدينة هي قصّة طويلة لها تفاصيلها. وعند دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان لهؤلاء اليهود ثلاث مزايا:
أوّلها: سيطرتهم على الثروات الأساس في المدينة، وعلى أهمّ مزارعها وتجارتها ومنافعها، وعلى أهمّ صناعاتها الّتي تدرّ الأرباح وهي صناعة الذهب وغيرها. وكان أغلب أهل المدينة يرجعون إليهم لسدّ حوائجهم والاستقراض منهم وتسديد الربا إليهم، أي أنّهم كانوا يقبضون على كلّ شيء من الناحية المالية.
والثانية: تفوّقهم على أهل المدينة من الناحية الثقافيّة، فهم كانوا أصحاب كتاب وعلى اطّلاع على مختلف المعارف والعلوم الدينيّة والمسائل الّتي تجهلها عقول أهل المدينة ذات الطّبيعة شبه البدائيّة. من هنا كانت لهم الهيمنة الفكريّة. وإذا ما أردنا وصفهم وفقًا للمصطلحات المعاصرة فبإمكاننا القول بأنّهم كانوا يُشكّلون طبقة مثقّفة، لذلك كانوا يستحمقون أهل المدينة ويسخرون منهم ويُحقّرونهم. بالطّبع، كانوا يتصاغرون في المواطن التي كانوا يدركون فيها الخطر أو عند الضرورة، غير أنّ التفوّق كان لهم في الحالات الطبيعية.
الثالثة: اتّصالهم بالمناطق النائية عن المدينة، فلم يتقوقعوا داخل حدود المدينة. لقد كانوا يُمثّلون واقعًا قائمًا في المدينة، لذا كان على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يضعهم في الحسبان، فأوجد صلى الله عليه وآله وسلم ميثاقًا جماعيًّا عامًّا. ولدى ورود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة اتّضح أنّ قيادة مجتمعها منحصرةٌ به صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يبرم عقدًا أو يطلب شيئًا من النّاس أو أن يدخل في مباحثات مع أحد، أي إنّ الشّخصيّة والعظمة النبويّة أخضعت الجميع لها بشكلٍ طبيعيّ. لقد تجلّت قيادته وجعلت الجميع يتحرّكون ويُبادرون حول محوريّتها.
لقد كتب النبيّ ميثاقًا، وصار موضع قبول من قِبل الجميع. كان الميثاق شاملًا للتفاعل الاجتماعيّ والمعاملات والنزاعات والديات وعلاقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمعارضيه وموقفه من اليهود ومن غير المسلمين، كلّ ذلك كان مدوّنًا ومفصّلًا ولعلّه قد احتلّ صفحتين أو ثلاث صفحات كبيرة من كتب التّاريخ القديمة الكبرى.
الخطوة الثانية كانت في غاية الأهميّة وهي إشاعة روح الأخوّة. لقد كانت الأرستقراطيّة والعصبيّات الخُرافية والتكبّر القبليّ وانفصال الشّرائح المختلفة للنّاس عن بعضها البعض، أبرز البلاءات الّتي كانت تُعاني منها المجتمعات الجاهليّة العربيّة المتعصّبة يومذاك. وبإشاعته للأخوّة، سحق النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هذه النعرات تحت قدميه. فقد آخى بين رئيس القبيلة وبين من هو في مستوًى دانٍ أو متوسّط. وهؤلاء بدورهم ارتضوا هذه الأخوّة طائعين. ووضع السّادة والأشراف إلى جانب العبيد من المسلمين والعتقاء، وبذلك قضى على العوائق في طريق الوحدة الاجتماعيّة. وعندما أراد صلى الله عليه وآله وسلم اتّخاذ مؤذّن لمسجده، كان ذوو الحناجر الجهوريّة والهندام الجميل والشخصيّات المشهورة، من الكثرة بمكان، لكنّه اختار من دونهم بلالًا الحبشيّ الّذي كان يفتقد إلى الجمال والصوت الحسن والشّرف العائليّ والنَّسبيّ. فالمناط كان الإسلام والإيمان والجهاد والتّضحية في سبيل الله لا غير. لاحظوا كيف أنّه صلى الله عليه وآله وسلم حدّد القيم على صعيد العمل، فقبل أن يترك كلامه بصماته على القلوب، كانت أعماله وسيرته وهديه يؤثّرون في القلوب.
[1] في الجزيرة العربية ــ بين نجد والبحرين ــ التي تحتوي على الكثير من القرى والقلاع والعيون وبساتين النخيل.
[2] بحار الأنوار، ج68، ص 382.
[3] سورة القلم، الآية 4.
[4] بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، ص260، وأصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل النّاس أعقل النّاس" وفسره ابن عباس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج17، ص 309.
[6] سورة العلق، الآية 1.
[7] السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة ـ قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص47.
[8] سورة الأنعام، الآية 125.
[9] نهج البلاغة، ص 418.
[10] سورة الجمعة، الآية 2.
[11] سورة الحجر، الآية 91.
[12] سورة البقرة، الآية 85.
[13] سورة الحديد، الآية 25.
[14] سورة آل عمران، الآية 164.
[15] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج19، ص 110.
[16] م. س، ص121.
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
