النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
الإمامة في الفكر الشيعي ومراحلها الأربعة
المؤلف:
السيد علي الخامنئي
المصدر:
إنسان بعمر 250 سنة
الجزء والصفحة:
ص75-90
2025-07-07
13
الإمامة هي تلك القمّة للمعنى المنشود من إدارة المجتمع، قِبَال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة من مكامن الضّعف والشّهوة والحميّة في الإنسان ومطامعه. والإسلام يطرح أمام البشريّة نهج الإمامة ووصفتها، أي ذلك الإنسان الطّافح قلبه بفيض الهداية الإلهيّة، العارف بعلوم الدّين المتميّز بفهمه ـ أي الّذي يُجيد تشخيص الطّريق الصّحيح ـ ذو القوّة في عمله ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[1]، ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشّخصيّة، في حين أنّ أرواح النّاس وحياتهم وسعادتهم تُمثّل كلّ ما لديه. وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام عمليًّا أثناء حكمه الّذي استمرّ أقل من خمس سنوات. تلك الفترة الّتي كانت أقل من خمس سنوات، تُمثّل أنموذجًا يُحتذى لن تنساه البشريّة أبدًا، وسيبقى خالدًا وضّاءً لقرونٍ متمادية. وهذه هي ثمرة واقعة الغدير، والدّرس والمغزى والتّفسير المستقى منها.
إنّ كلمة "الإمامة" الّتي تعني في الأصل القيادة بمعناها المطلق، غالبًا ما تُطلق في الفكر الإسلاميّ على مصداقها الخاصّ، وهو القيـادة في الشّؤون الاجتماعيّة والفكريّة والسّياسيّة. وأينما وردت في القرآن مشتقّات لكلمة الإمامة ـ كإمام، وأئمّة ـ يُراد بها هذا المعنى الخاصّ، أي قيادة الأمّة وقدوتها. سواءً القيادة الفكريّة، أم القيادة السّياسيّة، أم الاثنين معًا. وبعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وظهور الانشقاق الفكريّ والسياسيّ بين المسلمين، اتّخذت كلمة الإمامة والإمام مكانة خاصّة، حيث إنّ مسألة القيادة السّياسيّة شكّلت المحور الأساس للاختلاف. وكان لهذه الكلمة في البداية مدلولها السياسيّ أكثر من أيّ مدلولٍ آخر، ثمّ انضمّت إليها بالتدريج معانٍ أخرى، حتّى أصبحت مسألة "الإمامة" تُشكّل في القرن الثاني الهجريّ أهمّ مسائل المدارس الكلاميّة ذات الاتّجاهات الفكريّة المختلفة، وكانت هذه المدارس تطرح أراءها بشأن شروط الإمام وخصائصه، أي شروط الحاكم في المجتمع الإسلاميّ، وهو معنًى سياسيّ للإمامة. في هذه القضيّة، جرت العادة أن يتمّ الحديث عن شروط وخصائص الإمام ـ أي حاكم المجتمع وزعيمه ـ وكان لكلّ فرقة في هذا المجال عقيدة وكلام.
إنّ للإمامة في مدرسة التشيّع ـ الّتي يرى أتباعها أنّها أكثر القضايا الفكريّة الإسلاميّة أصالةً ـ المعنى نفسه أيضًا. وتتلخّص نظريّة هذه المدرسة بشأن الإمام بما يلي:
يجب أن يكون الإمام والزعيم السياسيّ في المجتمع الإسلاميّ منصوبًا من الله، بإعلانٍ من النبيّ، وأن يكون قائدًا فكريًّا ومفسّرًا للقرآن وعالمًا بكلّ دقائق الدّين ورموزه، وأن يكون معصومًا مبرأً من كلّ عيب خَلقيّ وأخلاقيّ وسببيّ، ويجب أن يكون من سلالة طاهرة ونقيّة، ويجب، ويجب...وبذلك فإنّ الإمامة في عُرف مسلمي القرن الأوّل والثاني كانت تعني القيادة السّياسيّة، وفي العرف الخاصّ بأتباع أهل البيت، تعني إضافةً إلى القيادة السّياسيّة، القيادة الفكريّة والأخلاقيّة أيضًا.
فالشّيعة تعترف بإمامة الفرد حين يكون ذلك الفرد متمتّعًا بخصائص هي ــ إضافةً إلى مقدرته على إدارة الأمور الاجتماعيّة ــ مقدرته على التّوجيه والإرشاد والتّعليم في الحقل الفكريّ والدينيّ، والتزكية الأخلاقيّة. وما لم تتوفّر فيه هذه المقدرة لا يمكن أن يُعترف به كإمام بحقّ. وفي نظرهم، لا يكفي حسن الإدارة السّياسيّة والاقتدار العسكريّ والصّلاح وفتح البلدان وأمثالها من الخصائص.
إذًا، بناءً على فهم الشّيعة للإمامة، فإنّ إمام أيّ مجتمع هو تلك القدرة الفائقة الّتي توجّه وتقود الحركة الجمعيّة والفرديّة لأبناء المجتمع وفي الوقت نفسه يكون معلّم الدين والأخلاق والموجّه لحياة النّاس ومساعيهم. ومن هنا، كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إمامًا أيضًا، لأنّه كان القائد الفكريّ والسياسيّ للمجتمع الّذي أقام بنفسه دعائمه. وبعد النبيّ، تحتاج الأمّة إلى إمام يخلفه ويتحمّل عبء مسؤوليّاته، (بما في ذلك المسؤوليّة السّياسيّة). ويعتقد الشّيعة أنّ النبيّ نصّ على خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ تنتقل الإمامة من بعده إلى الأئمّة المعصومين من ولده (ولأجل المزيد من التفاصيل والأدلّة ينبغي الرجوع إلى الكتب المتعلّقة بهذا المجال).
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ تداخل المهامّ الثّلاث للإمامة: القيادة السّياسيّة، والتعليم الدينيّ، والتهذيب الأخلاقيّ والرّوحيّ في الخلافة والحكومة الإسلاميّة ـ حيث جُعلت الإمامة والحكومة الإسلاميّة ذات أبعاد وجوانب ثلاثة، كما بيّنه بعض المفكّرين البارزين في هذا الزّمان تبيانًا صحيحًا ـ ناشئ من عدم وجود تفكيك بين هذه الجوانب الثّلاثة في المشروع الإسلاميّ للحياة البشريّة. فقيادة الأمّة يجب أن تشمل هذه الحقول الثّلاثة أيضًا. وبسبب هذه السّعة وهذه الشموليّة في مفهوم الإمامة لدى الشّيعة، كان لا بدّ أن يُعيَّن الإمام من قِبَل الله سبحانه.
نستنتج ممّا سبق أنّ الإمامة ليست، كما يراها أصحاب النظرة السّطحيّة، مفهومًا مقابلًا لـ "الخلافة" و"الحكومة"، أو منصبًا منحصرًا بالأمور المعنويّة والروحيّة والفكريّة، وإنّما في الفكر الشيعيّ تعني "قيادة الأمّة" في شؤون دنياها وما يرتبط بذلك من تنظيم للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة للنّاس في المجتمع (رئيس الدولة)، وأيضًا في شؤون التّعليم والإرشاد والتّوجيه المعنويّ والروحيّ، وحلّ المشاكل الفكريّة وتبيين الأيديولوجية الإسلاميّة، "القائد الفكريّ".
هذه المسألة الواضحة أضحت، مع الأسف، غريبة على أذهان أكثر المعتقدين بالإمامة، ولذلك نرى أنّ عرض بعض النماذج من مئات الأدلّة القرآنية والحديثيّة، ليس بالأمر الكثير كما يبدو، في هذا المجال: في كتاب "الحجّة" من "الكافي" حديثٌ مفصّل عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام يذكر فيه بالتفصيل ما يرتبط بمعرفة الإمام ووصف الإمام، ويتضمّن معاني عميقة ورائعة.
من ذلك ما ورد بشأن الإمامة من أنّها: "منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقام أمير المؤمنين عليه السلام وميراث الحسن والحسين عليهما السلام، إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي، وفرعه السّامي، بالإمام تمام الصلاة والزّكاة والصيام والحجّ والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف".
وحول الإمام أنّه: "النجم الهادي، والماء العذب، والمنجي من الرّدى، والسّحاب الماطر، ومفزع العباد في الدّاهية، وأمين الله في خلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والدّاعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله، ونظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين"[2].
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق ذكر صراحةً: أنّ كلّ ما كان يُمارسه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مسؤوليّات ومهامّ يتحمّلها الإمام عليّ عليه السلام والأئمّة من ولده أيضًا[3].
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصّادق عليه السلام نرى تأكيدًا على إطاعة "الأوصياء"، وتوضح الرواية[4] أنّ الأوصياء هم أنفسهم الّذين عبّر عنهم القرآن بـ ﴿أُوْلِي الأَمْرِ﴾[5].
إنّ مئات الروايات المتفرّقّة في الأبواب والكتب المختلفة، تُصرّح أنّ مفهوم الإمام والإمامة في الثّقافة الشيعيّة ما هو إلّا القيادة وإدارة شؤون الأمّة المسلمة، وأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم الأصحاب الحقيقيّون للحكومة. وتدلّ جميع (هذه الروايات)، بما لا يُبقي أيّ شكّ أو ترديد، لأيّ باحثٍ منصف، على أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام في ادّعائهم الإمامة ذهبوا إلى ما هو أبعد من المقام الفكريّ والمعنويّ، ليُطالبوا بالحكومة أيضًا كحقٍّ ثابتٍ لهم. ودعوتهم على هذا النطاق الواسع الشامل إنّما هي دعوة لنضالٍ سياسيّ عسكريّ لتسلّم السّلطة.
لو تصوّر أحدٌ أنّه لم يكن للأئمّة من الإمام السجّاد إلى الإمام العسكريّ عليه السلام، سوى ذكر أحكام الدّين ومعارفه، وأنّه لم يكن لهم أيّ نوع من الجهاد السياسيّ بما يتناسب مع زمانهم، فإنّه حتمًا لا يكون قد حقّق غورًا كافيًا في حياة هؤلاء العظماء. فهذا ما يبرز بوضوح من أحوال هؤلاء العظماء. وفي الأساس لا يمكن قبول معنى الإمامة في الإسلام وفي الفلسفة الّتي يطرحها الشّيعة حولها سوى من هذا الطّريق وبما يتناسب معه. وحتّى لو لم يكن لدينا دليلٌ واضحٌ على جهاد الأئمّة، ينبغي أن نعتقد أنّه وإن لم يكن لدينا علم ولم يصلنا، فإنّهم كانوا يجاهدون. ولا يمكن أن نعلم بوجود معنًى للإمامة على هذا النّحو في ثقافة الإسلام ـ ليس فقط في ثقافة التشيّع - وأن نكون معتقدين به وفي الوقت نفسه نقبل مثلًا بأنّ أئمّتنا عليهم السلام، جلسوا في بيوتهم طيلة المئة والخمسين سنة أو أكثر، ووضعوا كفًّا على كف وشغلوا أنفسهم ببيان أحكام القرآن والمعارف الإسلاميّة دون أن يكون لهم أيّ مواجهة سياسيّة، فمثل هذا الشيء ليس صحيحًا بأيّ شكلٍ من الأشكال. بالطبع، عندما نقول إنّ الأئمّة جاهدوا، يجب علينا أن نلتفت إلى أنّ الجهاد يكون في كلّ زمانٍ بشكلٍ خاصّ. فأحيانًا، يكون الجهاد من خلال العمل الثقافيّ، والعلميّ، والسياسيّ، والتنظيميّ، والحزبيّ، وتأسيس المنظّمات، وأحيانًا أخرى من خلال الأعمال الدمويّة والأنشطة العسكريّة والقتال الظاهريّ. وفي كلّ زمانٍ جهادٌ بنحوٍ ما.
من الممكن أن يُشكل البعض قائلًا: كيف كان الأئمّة عليهم السلام يُجاهدون ويُناضلون من أجل الإمساك بالحكومة، في حين أنّهم كانوا يعلمون بعلمهم الإلهيّ بأنّهم لن يصلوا إلى الحكومة؟ فمن المعلوم أنّ حياة الأئمّة عليهم السلام تدلّ على أنّهم لم يتمكّنوا من الوصول إلى الحكومة، ولم يُشكّلوا المجتمع والنّظام الإسلاميّ بحسب ما يرونه وبحسب تكليفهم. لكن كيف يُمكن للأئمّة أن يقوموا بهذا الأمر، مع أنّهم كانوا يعلمون وقد اطّلعوا بواسطة الإلهام الإلهيّ على ذلك؟
والجواب عن هذه الفكرة: إنّ معرفة عدم الوصول إلى الهدف لا تمنع من أداء الوظيفة والتكليف. فعلى سبيل المثال نجد في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه كان يعلم بهزيمة المسلمين في معركة أُحد، وكان يعلم أنّ أولئك الّذين وقفوا على كتف الجبل لن يصمدوا وسوف تُحرّكهم أطماعهم نحو الغنائم. وكذلك عندما ذهب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطّائف من أجل هداية بني ثقيف، ولجأ إليهم من شرّ أهل مكّة، كان يعلم أنّهم سيستقبلونه بالحصى والحجارة، لقد رموه بالحجارة إلى درجة أنّ الدّم سال من ساقيه المباركتين واضطُرّ إلى الرّجوع. والأئمّة عليهم السلام كانوا يعلمون ذلك كلّه. كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم أنّه سوف يستشهد في الواحد والعشرين من شهر رمضان، لكنّه في الوقت نفسه، وقبيل شهر رمضان، أقام معسكرًا كبيرًا خارج الكوفة من أجل أن يُكمل حربه على معاوية. لو كانت معرفة أمير المؤمنين عليه السلام موجبة لأن لا يعمل طبق المسار العاديّ، فلماذا نصب ذاك المخيّم؟! ولماذا جيّش الجيوش فأخرج النّاس إلى خارج الكوفة وجعلهم ينتظرون؟! لماذا؟! ما هي الفائدة؟! إنّ معرفة الأئمّة عليهم السلام بأنّهم لن يصلوا إلى الحكومة لا ينبغي أن تؤدّي إلى إيقاف مساعيهم. بل يجب السّعي والجهاد والقيام بكلّ ما ينبغي كشخصٍ لا يعلم ما ينتظره.
المراحل الأربع لمسيرة الإمامة
ظهرت مسيرة الإمامة منذ اليوم الأوّل لرحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة - واستمرّت حتّى عام وفاة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام - في شهر ربيع الأوّل سنة 260 هـ - وسط مجتمع المسلمين. وطوت المسيرة، خلال هذه السنوات، أربع مراحل بصورة تقريبيّة، وكان لكلّ مرحلة خصائصها بلحاظ مواقف الأئمّة عليهم السلام مقابل القوى السّياسيّة المهيمنة.
المرحلة الأولى: هي مرحلة السكوت، أو مرحلة التّعاون مع الحكّام والسّلطات.
تميّزت هذه المرحلة بأنّ المجتمع الإسلاميّ الحديث الولادة والفتيّ كان محفوفًا بأعداءٍ مقتدرين تربّصوا بالإسلام من الخارج، وبوجود عناصر من جماعات حديثة العهد بالإسلام، لا تتحمّل أن ترى تشتّتًا في المجتمع الإسلاميّ، وكلّ ثغرة في جسد الأمّة كانت تُشكّل تهديدًا لأساس المجتمع الإسلاميّ ووجوده. ومن جانبٍ آخر، لم يكن منحنى انحراف الواقع عن الحقيقة كبيرًا بحيث لم يعد قابلًا للتحمّل بالنسبة لشخص مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ـ الّذي هو أحرص النّاس على سلامة الرّسالة وسلامة المجتمع الإسلاميّ وأكثرهم التزامًا بها - ولعلّ هذه الحالة الّتي حدثت في المجتمع الإسلاميّ، هي الّتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أوصى تلميذه الفذّ بالصبر عند وقوعها[6].
لقد استوعبت هذه المرحلة الّتي امتدت لـ 25 سنة حياة الإمام عليّ عليه السلام منذ وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - عام 11 للهجرة - حتّى تولّيه الخلافة - سنة 35 للهجرة. وقد شرح الإمام موقفه في هذه المرحلة من خلال الكتاب الّذي وجّهه إلى أهالي مصر، عبر مالك الأشتر عندما ولاّه إمارتها، حيث جاء فيه: "فأمسكت يدي، حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلمًا أو هدمًا تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم،... فنهضت في تلك الأحداث"[7].
إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام في هذه السنوات الـ 25 لهذه المرحلة، تحكي عن التدخّل الفعّال والدّعم والعون الناتج من الحرص الكبير على الإسلام ومجتمع المسلمين. إنّ أجوبة وإرشادات هذا الإمام لخلفاء زمانه، فيما يتعلّق بالقضايا السّياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، قد نُقلت في نهج البلاغة وغيرها من كتب الحديث والتّاريخ، وهي شاهدة على عدم تردّده في هذا النهج.
المرحلة الثانية: هي مرحلة تسلّم الحكم ووصول الإمام إلى السّلطة.
وقد استغرقت (هذه المرحلة) أربعة أعوام وتسعة أشهر من خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. وبضعة أشهر من خلافة ولده الحسن عليه السلام. ورغم قصر هذه المرحلة وما اكتنفته من آلام وهموم ومشاكل ومصاعب لا تُحصى ولا تنفكّ عادة عن كلّ حكومة ثوريّة، إلّا أنّها سجّلت أنصع الصفحات وأروعها في تاريخ الحكومة الإسلاميّة، بما قدّمته من طريقة إنسانيّة في التّعامل، ومن عدلٍ مطلق والتزامٍ دقيق بأحكام الإسلام وبأبعاده المختلفة في إدارة المجتمع الإسلاميّ. هذا إلى جانب الحزم والصّراحة والجرأة في التّطبيق واتّخاذ المواقف.
إنّ هذه المرحلة من تاريخ الإمامة كانت النموذج الّذي دعا أئمّة أهل البيت عليهم السلام، خلال القرنين التاليين، إلى تطبيقه في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة وسعوا على طريقه. وكان الشّيعة يذكرون مثل هذه الذكرى العظيمة ويتحسّرون عليها، ويندّدون بالأنظمة الّتي تلتها عند مقارنتها بها. في الوقت نفسه، كانت درسًا وتجربةً ملهمة يمكن أن تدلّ على وضع وأحوال أيّة حكومة ثوريّة وإسلاميّة صرفة داخل مجتمعٍ وجماعةٍ لم تتربَّ أو انجرّت نحو الانحراف، ومنذ ذلك الوقت كانت تُفرض الأساليب والمناهج البعيدة المدى والمتلازمة مع كلّ أنواع التربية الصعبة والحزبيّة الشديدة على الأئمّة اللاحقين.
المرحلة الثالثة: هي الّتي استوعبت السّنوات العشرين بين صلح الإمام الحسن عليه السلام سنة41 هـ، وشهادة الإمام الحسين عليه السلام سنة 61 هـ.
فبعد صلح الإمام الحسن عليه السلام، بدأ نوعٌ من العمل شبه السرّيّ للشّيعة، كان هدفه إعادة القيادة الإسلاميّة إلى عترة النبيّ في الفرصة المناسبة. وهذه الفرصة، ووفق الاستنتاج الطبيعيّ، لم تكن بعيدة المنال وكان تحقّقها مأمولًا بعد انتهاء حياة معاوية الشرّيرة، لهذا، يمكن تسمية المرحلة الثالثة بـ "مرحلة السّعي البنّاء القصير المدى لإيجاد الحكومة والنّظام الإسلاميّ"[8].
المرحلة الرّابعة: وهي مرحلة متابعة ذلك النّهج في برنامجٍ بعيد المدى، في زمنٍ قارب القرنين، شهد انتصاراتٍ وهزائم في مراحل مختلفة، وتلازم مع الانتصار القاطع في مجال العمل الأيديولوجيّ، وامتزج بمئات التكتيكات المتناسبة مع الزّمان، والمزيّنة بآلاف مظاهر الإخلاص والتضحية وعظمة الإنسان الّذي يريده الإسلام.
إنّ أهمّ شيء في حياة الأئمّة عليهم السلام، ممّا لم يتمّ الالتفات إليه بصورةٍ لائقة، هو عنصر الجهاد السياسيّ الحادّ في بداية النصف الثاني من القرن الأوّل للهجرة، حينما امتزجت الخلافة الإسلاميّة وبصورة علنيّة بزخارف السلطنة والملكيّة وتبدّلت الإمامة الإسلاميّة إلى حكومة ملكية جائرة. هناك شدّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام نضالهم السياسيّ بما يتناسب مع الأوضاع والظّروف. وكان الهدف الأكبر لهذا النّضال هو تشكيل النّظام الإسلامي وتأسيس الحكومة على أساس الإمامة. ولا شكّ بأنّ تبيين وتفسير الدّين بحسب الرؤية الخاصّة لأهل بيت الوحي، ورفع التّحريفات والتّفسيرات المغلوطة للمعارف الإسلاميّة والأحكام الدينيّة، كانت أيضًا هدفًا مهمًّا لجهاد أهل البيت عليهم السلام. إلّا أنّه طبق القرآئن الحتميّة، لم يكن جهاد أهل البيت منحصرًا بهذه الأهداف، ولم يكن لديهم هدف أعظم من هدف "تشكيل الحكومة العلويّة" وتأسيس النّظام الإسلاميّ العادل. وإنّ أشدّ الصعاب التي واجهها الأئمّة وأنصارهم، في حياتهم المليئة بالمرارة والإيثار، كانت بسبب امتلاك مثل هذا الهدف، وقد كانوا منذ عهد الإمام السجّاد عليه السلام وبعد واقعة عاشوراء ينهضون لتأمين الأرضيّة المناسبة البعيدة المدى لتحقّق هذا الهدف.
وقد كان التيّار المرتبط بأئمّة أهل البيت عليهم السلام - أي الشّيعة - يُعتبر العدوّ الأكبر والأخطر للأجهزة الحاكمة، في جميع مراحل المائة وأربعين سنة، ما بين واقعة عاشوراء وقضية ولاية العهد للإمام الثامن. ولقد تأمّنت الظّروف والأرضيّة المناسبة في تلك المدّة عدّة مرّات، واقترب نضال التشيّع، الّذي ينبغي تسميته بالنهضة العلويّة، من الانتصارات الكبرى. ولكن في كلّ مرّة كانت تبرز الموانع على طريق النّصر النهائيّ. وفي الأغلب، فإنّ أكبر الضّربات كانت توجّه إلى المحور والمركز الأساس لهذه النهضة، وهو شخص الإمام في كلّ زمان، من خلال سجنه أو قتله. وعندما كان الدّور يصل إلى الإمام اللاحق كان القمع والضّغط والتّشديد يصل إلى حدّ يتطلّب زمانًا أطول من أجل تهيئة وإعداد الأرضيّة المناسبة.
وقد تمكّن الأئمّة من تثبيت التشيّع وسط هذا الإعصار الشديد لهذه الأحداث بكلّ شجاعة وحكمة، كتيّارٍ صغيرٍ لكنّه عميقٌ وقويٌّ وثابتٌ وسط تلك المعابر الشديدة والخطرة. ولم يتمكّن الحكّام الأمويّون والعبّاسيّون من القضاء على تيّار الإمامة بقتلهم الإمام. وقد بقي هذا الخنجر الحادّ دومًا في خاصرة أجهزة الحكم، ويقضّ مضاجعهم بشكل دائم.
[1] سورة مريم، الآية 12.
[2] الكافي، ج1، ص200.
[3] م.ن، ج1، ص 196، نص الحديث: "جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم..وكذلك يجري الأئمة الهدى واحداً بعد واحد... ولقد حملت على مثل حموله...".
[4] م.ن، ج1، ص 189.
[5] سورة النساء، الآية 83.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج28، ص 210. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا علي إن القوم نقضوا أمرك واستبدّوا بها دونك وعصوني فيك فعليك بالصبر حتى يُنزِل الله الأمر، وإنهم سيغدرون بك لا محالة فلا تجعل لهم سبيلاً إلى إذلالك وسفك دمك، فإن الأمّة ستغدر بك بعدي، كذلك أخبرني جبرئيل عليه السلام من ربي تبارك وتعالى".
[7] نهج البلاغة، ص 451.
[8] في هذا المجال قد بحثت وضمن عدّة خطب بشرح وتفصيل وذكر الوثائق والشواهد (الكاتب).
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
