النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
الإمام الرضا "ع" وولاية العهد
المؤلف:
السيد علي الخامنئي
المصدر:
إنسان بعمر 250 سنة
الجزء والصفحة:
ص411-428
2025-07-20
10
عندما استشهد موسى بن جعفر عليه السلام مسمومًا بعد سنين من الحبس في سجون هارون، سيطر جوٌّ عام من القمع على البلاد الخاضعة للسّلطة العبّاسية. وفي ذلك الجوّ الخانق الّذي وصفه أحد أتباع علي بن موسى عليه السلام، قال محمد بن سنان: "وسيف هارون يُقطِّر الدّم"[1]، كان أكبر إنجاز لإمامنا المعصوم الجليل هو أنّه استطاع أن يحافظ على شجرة التشيّع وسط أعاصير الحوادث، ويمنع من تشتّت وفتور عزم أتباع أبيه الجليل. وبأسلوب التقيّة المدهش استطاع أن يحفظ حياته الّتي هي محور وروح الشّيعة، ليستمرّ في جهاد الإمامة العميق في عهد أكثر خلفاء بني العبّاس قدرةً، وفي زمن الاستقرار والثّبات الكامل لذلك النّظام. لم يتمكّن التاريخ من رسم صورةٍ واضحة عن مرحلة السنوات العشر لحياة الإمام الثامن في زمن هارون، وفيما بعده في مرحلة الحروب الداخليّة الّتي امتدّت لخمس سنوات بين خراسان وبغداد، لكن بالتدبّر يُمكن إدراك أنّ الإمام الثامن في هذه المرحلة أكمل تلك المواجهة الممتدّة لأهل البيت عليهم السلام والّتي استمرّت في كلّ العصور بعد عاشوراء بنفس تلك التوجّهات والأهداف.
وبمجرّد أن حسم المأمون تلك الحرب لمصلحته عام 198 وتحوّل إلى خليفة بلا منازع، كان من أوّل تدابيره التفرّغ لحلّ مشكلة العلويين وجهاد التشيّع. ولأجل هذا الهدف، وضع أمام عينيه تجربة سلفه من الخلفاء.
تجربةٌ أظهرت القدرة والشّموليّة والعمق المتزايد لهذه النّهضة وعجز أجهزة السّلطة عن اقتلاعها أو إيقافها ومحاصرتها. لقد كان يرى أنّ سطوة وهيبة هارون حتّى مع السّجن الطّويل وتسميم الإمام السّابع في السّجن لم تتمكّن من منع الانتفاضات والمواجهات السّياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة والفكريّة للشيعة. ولأنّه لم يكن بمستوى القدرة الّتي كانت لأبيه وسلفه، بالإضافة إلى تأثير الحروب الداخليّة بين العبّاسيين، فقد كان يرى بأن السّلطة العبّاسية مهدّدة بمشكلات كبيرة، ولهذا وجد من الضروريّ أن ينظر بجدّية تامّة إلى خطر نهضة العلويين.
لعلّ المأمون في تقييمه لخطر الشّيعة على جهازه، كان يُفكّر بطريقة واقعيّة. وأغلب الظّن أنّ مدّة الخمس عشرة سنة بعد شهادة الإمام السابع وإلى اليوم الّذي سنحت فيه بالخصوص فرصة السنوات الخمس للحروب الداخليّة، فإنّ تيّار التشيّع تمتّع بالمزيد من الاستعداد على طريق رفع راية الحكومة العلويّة.
وقد كان المأمون يشعر بهذا الخطر بحدسه الذكيّ ويُفكّر بمواجهته، ولهذا بتبع هذا التقييم والتشخيص كانت قصّة دعوة الإمام الثامن من المدينة إلى خراسان واقتراح ولاية العهد الإلزاميّة عليه، وهذه الحادثة الّتي جرت لم يحدث ما يُشبهها، ولم يكن لها في نوعيّتها شبيه ولا نظير في جميع عهود الإمامة الطويلة.
وهنا من الجدير أن نُطالع واقعة ولاية العهد هذه. ففيها واجه الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام تجربةً تاريخيّةً عظيمةً في معرض حربٍ سياسيّةٍ خفيّة تحدّد نتيجتها انتصار أو هزيمة مصير التشيّع. ففي هذه المعركة، نزل الخصم وهو المأمون إلى الميدان بعدّته وعديده. وقد نزل المأمون إلى الميدانٍ متمتّعًا بالدّهاء الواسع والتّدبير القويّ والفهم والدّراية غير المسبوقة، بحيث لو انتصر واستطاع أن يُطبّق خطّته الّتي أعدّها لوصل يقينًا إلى الهدف الّذي لم يتمكّن أيّ واحدٍ من الخلفاء الأمويّين أو العبّاسيّين من تحقيقه منذ السنة الأربعين للهجرة (أي بعد شهادة عليّ بن أبي طالب)، ورغم كلّ جهودهم، وهو عبارة عن اقتلاع شجرة التشيّع وتيّار المعارضة الّذي كان دومًا كشوكةٍ في أعين زعماء الخلافات الطاغوتية.
لكنّ الإمام الثّامن عليه السلام، وبالتّدبير الإلهيّ، تغلّب على المأمون وهزمه في ذلك الميدان السياسيّ الّذي أوجده بنفسه. فلم تكن النتيجة أنّ التشيّع لم يضعف فحسب، بل كانت سنة الـ 201هجري هي سنة ولاية العهد للإمام عليه السلام، من أكثر سنوات تاريخ التشيّع بركةً وثمرةً، وقد بثّت نفسًا جديدًا في جهاد العلويين. كلّ ذلك ببركة التّدبير الإلهيّ للإمام الثامن عليه السلام وأسلوبه الحكيم الّذي أظهره هذا الإمام المعصوم في هذا الامتحان الكبير.
ولأجل أن نُضيء على وجه هذه الحادثة المدهشة نقوم بعرض شرحٍ مختصر لخطّة المأمون وتدبير الإمام في هذه الواقعة.
لقد كان المأمون بدعوته للإمام الثامن عليه السلام إلى خراسان يسعى وراء عدّة مقاصد أساس:
أوّلها، وأهمّها تبديل ساحة المواجهات الثوريّة الحادّة للشّيعة إلى ساحةٍ للنشاط السياسيّ الهادئ البعيد عن الخطر. وكما ذكرت فإنّ الشّيعة كانوا يُمارسون في ظلّ التقيّة مواجهات ونضال لا يعرف التّعب والتوقّف. وهذه المواجهات النضالية، الّتي كانت متلازمة مع خاصّيتين، كان لها تأثيرٌ لا يوصف في القضاء على بساط الخلافة، أحدهما المظلوميّة والأخرى القداسة.
كان الشّيعة وبالاعتماد على هذين العاملين النّافذين يوصلون الفكر الشيعيّ الّذي هو عبارة عن تفسير الإسلام وتبيينه بحسب رؤية أئمّة أهل البيت إلى زوايا قلوب وأذهان مخاطبيهم، وكانوا يجعلون أيّ شخصٍ يمتلك أقلّ استعداد يميل إلى هذا النّوع من الفكر أو مؤمنًا به، وهكذا كانت دائرة التشيّع تتّسع يومًا بعد يوم في العالم الإسلاميّ. وكانت تلك المظلوميّة والقداسة الّتي تنطلق من ركيزة الفكر الشّيعيّ تُنظّم هنا وهناك وفي جميع العصور تلك النّهضات المسلّحة والحركات الثّوريّة ضدّ أجهزة الخلافة.
كان المأمون يريد أن يسلب هذا الجمع المناضل ذاك الخفاء والاستتار دفعةً واحدة، ويجرّ الإمام عليه السلام من ميدان المواجهة الثوريّة إلى ميدان السّياسة، ويوصل بهذه الطّريقة فعاليّة نهضة التشيّع الّتي كانت تتزايد يومًا بعد يوم، على أثر ذلك الاستتار والاختفاء إلى درجة الصفر. وبهذه الطّريقة كان المأمون يسلب جماعة العلويّين هاتين الخاصيّتين المؤثّرتين والنافذتين. لأنّ الجماعة الّتي يكون قائدها شخصيّة مميّزة في جهاز الخلافة ووليّ عهد الملك المطلق العنان في زمانه، والمتصرّف في أمور البلاد ليس مظلومًا وليس مقدّسًا كما يُدّعى. وكان لهذا التدبير القدرة على أمرين:
الأوّل: أن يجعل الفكر الشيعيّ مرادفًا لسائر العقائد والأفكار الّتي لها أتباعٌ في المجتمع ويخرجه من حيثيّة الفكر المخالف لجهاز السّلطة، الّذي وإن كان بنظر الأجهزة ممنوعًا ومبغوضًا، لكنّه كان بنظر النّاس، وخصوصًا الضّعفاء، يمتلك جاذبيّة كبيرة ويُثير التّساؤلات.
والثاني: تخطئة ادّعاء التشيّع حول خلافة الأمويين والعبّاسيين، وإضفاء الشرعيّة على هذه الخلافات. وكان المأمون بهذا العمل يُثبت لجميع الشّيعة بالتزوير، أنّ ادّعاء غصب الخلافة المتسلّطة وعدم شرعيّتها... لأنّه لو كانت الحكومات السّابقة فاقدة للشرعيّة فينبغي أن تكون خلافة المأمون وحكومته الّتي هي وريثة تلك الحكومات غير شرعيّة وغاصبة، ولأنّ عليّ بن موسى الرضا عليه السلام بدخوله في هذا الجهاز وقبوله لولاية عهد المأمون قد اعتبره قانونيًّا ومشروعًا، فيجب أن يكون باقي الخلفاء شرعيّين، وهذا بذاته نقضٌ لجميع ادّعاءات الشّيعة. ولم يكن المأمون بهذا الفعل ينتزع من عليّ بن موسى الرضا عليه السلام شرعيّة حكومته و (حكومة) من سبقه فحسب، بل كان يُدمّر أحد أركان الاعتقاد الشيعيّ بظلم أركان الحكومات السّابقة من أساسها.
إضافة إلى نقض الفكرة السّائدة والمعروفة عن زهد وعدم اهتمام الأئمّة بزخارف الدنيا ومقاماتها، ويُظهر بأنّ الأئمّة يلجؤون إلى الزّهد فقط في الظّروف الّتي لا تصل فيها أيديهم إلى الدّنيا، أي عندما يُمنعون عنها. بينما عندما تفتح أمامهم أبواب جنّة الدّنيا يسرعون نحوها. وحالهم في هذا حال الآخرين. فهم يتنعّمون بالدّنيا إن أقبلت عليهم.
والهدف الثالث للمأمون، هو أن يجعل الإمام المعصوم، الّذي كان ركيزة المعارضة والمواجهة في جهازه الحاكم دومًا، وكذلك بقية القادة العلويين ومن معهم ممّن اجتمع حول الإمام عليه السلاممن أهل الصلاح، يدخلون تحت سيطرة المأمون. وهذا نجاح لم يتمكّن أحد على الإطلاق أن يُحقّقه لا من العبّاسيين ولا من الأمويين.
والهدف الرابع، هو أن يجعل الإمام عليه السلام، الّذي يمتلك العنصر الشعبي، ويُعدّ قبلة الآمال ومرجع النّاس في كلّ أسئلتها وشكاواها، تحت محاصرة أجهزة الحكومة. وبذلك يفقد شيئًا فشيئًا الطّابع الشّعبيّ ويبني حاجزًا بينه وبين النّاس حتّى يضعف بالتّالي الرابط العاطفي بينه وبين الطّبقة الشعبيّة.
الهدف الخامس للمأمون، كان أن يكسب سمعة معنويّة ووجاهة. فمن الطّبيعيّ عندها أن يمدح الجميع ذلك الحاكم الّذي اختار لولاية عهده ابن بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وصاحب الشّخصيّة المقدّسة والمعنويّة، وفي المقابل يحرم إخوته وأبناءه من هذا المنصب. والمعروف دائماً أنّ التقرّب من الصّالحين والمتديّنين من قِبَل طلّاب الدنيا يُذهب ماء وجه الصّالحين ويزيد من ماء وجه أهل الدنيا.
الهدف السادس، كان باعتقاد المأمون أنّ الإمام عليه السلام بتسلّمه لولاية العهد سيتحوّل إلى عاملٍ تبريريّ لجهاز الحكم. فمن البديهيّ أنّ شخصًا كالإمام بما لديه من تقوى وعلم ومقام لا نظير له، وهو في أعين الجميع من أبناء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قام بشرح وتبرير ما يقوم به جهاز الحكومة، سوف يأمن النّظام من أيّ صوتٍ مخالفٍ ولن يطعن به أحد.
وبذلك أيضًا لا يستطيع أحد أن يُنكر شرعية تصرّفات هذا النّظام. فهذا الأمر كان عند المأمون قلعةً منيعةً يمكنه من خلالها أن يُخفي عن الأعين أخطاء الخلافة وقبائحها.
بالإضافة إلى هذه كان للمأمون أهدافٌ أخرى بحسب تصوّره.
وكما يُشاهد فإنّ هذا التدبير كان من العمق والتعقيد لدرجة أنّه لم يكن لأحدٍ غير المأمون القدرة على القيام به، ولهذا السبب، كان أنصار المأمون والمقرّبون غافلين عن أبعاده وجوانبه. ويُستنتج من بعض الوثائق التاريخيّة، أنّ الفضل بن سهل، الوزير والقائد الأعلى، وأكثر الأفراد قربًا من جهاز الخلافة، كان غير مطّلعٍ على حقيقة هذه السّياسة ومحتواها. وذلك حتّى لا تتعرّض أهدافه في هذه الحركة الالتفافيّة إلى أيّة نكسة.
ولأجل ذلك كان المأمون يخترع القصص من أجل توجيه هذا الفعل ودوافعه ويتوسّل بهذا القول وذاك. يجب القول حقًّا أنّ سياسة المأمون كانت تتمتّع بتجربة وعمق لا نظير له، لكنّ الطّرف الآخر الّذي كان في ساحة الصّراع مع المأمون هو الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. وهو نفسه الّذي كان يُحوّل أعمال وخطط المأمون المتصّفة بالدّهاء والمكر والممزوجة بالشيطنة والمعدّة بدقّة وشمولية، إلى أعمال لا فائدة لها ولا تأثير وإلى حركات صبيانيّة. بينما المأمون الّذي بذل هذه الجهود وأنفق من رأسماله الكبير في هذا السبيل، لا أنّه فقط لم يُحقّق أي شيء من الأهداف الّتي كان يسعى إليها، بل إنّ سياسته الّتي اتّبعها انقلبت عليه. فالسّهم الّذي كان يُريد أن يرمي به مقام ومكانة وطروحات الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، أصاب المأمون، بحيث إنّه وبعد مضيّ فترة قصيرة أصبح مضطرًّا لأن يعتبر كلّ تدابيره وإجراءاته الماضية هباءً منثورًا كأنّها شيئاً لم يكن. وفي نهاية المطاف عاد المأمون ليختار نفس الأسلوب الّذي سلكه أسلافه من قبله وهو قتل الإمام عليه السلام. فالمأمون الّذي سعى جاهدًا لتكون صورته حسنة ومقدّسة وليتّصف بأنّه خليفة طاهر عاقل، سقط في النهاية في تلك المزبلة الّتي سقط فيها كلّ الخلفاء السابقين له. أي انجرّ إلى الفساد والفحشاء ووُسمت حياته بالظّلم والكبر.
ويُمكن مشاهدة نماذج من حياة المأمون على مدى 15 عامًا بعد حادثة ولاية العهد تكشف ستار الخداع والتّظاهر عند المأمون. فكان لديه قاضٍ للقضاة، فاسق وفاجر مثل يحيى بن الأكثم. وكان المأمون يُحضر المغنّيات أيضًا إلى قصره، وكان لديه مغنٍّ خاصّ يُدعى ابراهيم بن مهديّ، وقد عاش مرفّهًا مسرفًا حتّى أنّ ستائر دار خلافته في بغداد كانت من الدرّ.
خطّة الإمام الرضا عليه السلام لمواجهة المأمون
بعد هذا العرض لسياسة المأمون، نتعرّض إلى السّياسة والإجراءات الّتي قام بها الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام لمواجهة هذا الواقع:
النقطة الأولى: عندما دُعي الإمام عليه السلام من قِبَل المأمون لينتقل من المدينة إلى خراسان، نشر جوّاً في المدينة يدلّ على انزعاجه وتضايقه من هذه الخطوة، بحيث إنّ كلّ شخص كان حول الإمام عليه السلام تيقّن أنّ المأمون يُضمر سوءً للإمام عليه السلام من خلال إبعاده عن موطنه. ولقد أعرب الإمام للجميع عن سوء ما يرمي إليه المأمون بكلّ الأساليب الممكنة، فقام بذلك عند توديع حرم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعند توديع عائلته وأثناء خروجه من المدينة وفي طوافه حول الكعبة من أجل الوداع، وبكلامه وسلوكه ودعائه وبكائه، كان واضحًا للجميع أنّ هذا السفر هو رحلته الأخيرة ونهاية حياته عليه السلام.
وخلافًا لما كان يتصوّره المأمون وهو أن يُنظر إليه نظرة حسنة، بينما يُنظر إلى الإمام عليه السلام، الّذي قَبِل بطلب المأمون، نظرة سيّئة، نرى أنّ قلوب الجميع، ونتيجةً لردّ الفعل الّذي قام به الإمام عليه السلام في المدينة، ازدادت حقدًا على المأمون منذ اللحظة الأولى لسفر الإمام عليه السلام. فقد أبعد المأمون إمامهم العزيز عليه السلام عنهم بهذا الشكل الظالم ووجّهه إلى مقتله.
النّقطة الثانية: عندما طُرحت ولاية العهد على الإمام في "مَروْ" رفض الإمام عليه السلام هذا الطّرح بشدّة، ولم يقبل حتّى هدّده المأمون صراحةً بالقتل. ولقد انتشر في كلّ مكان رفض الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام لولاية العهد من قبل الخلافة. كما أنّ العاملين في الحكومة، الّذين لم يكونوا على علمٍ بدقائق سياسة وتدابير المأمون، قاموا وعن غباء بنشر رفض الإمام عليه السلام في كلّ مكان. حتّى أنّ الفضل بن سهل صرّح في جمع من العاملين في الحكومة، أنّه لم يرَ على الإطلاق خلافة بهذا القدر من المذلّة، فالمأمون الّذي هو أمير المؤمنين يُقدّم الخلافة أو ولاية العهد لعليّ بن موسى الرضا وهو يردّها عليه رافضًا[2].
ولقد سعى الإمام عليه السلام في كلّ فرصة تُتاح له أن يُبيّن أنّه مجبر على تسلّم هذا المنصب (ولاية العهد) وكان يذكر دائمًا أنّه هُدّد بالقتل حتّى يقبل بولاية العهد. وكان من الطّبيعيّ جدًّا أن يُصبح هذا الحديث، الّذي هو من أعجب الظّواهر السّياسيّة، متناقلًا على الألسن، ومن مدينة إلى مدينة. فكلّ العالم الإسلاميّ في ذلك اليوم وفيما بعد فهم أنّ شخصًا مثل المأمون حارب أخاه الأمين حتّى قتله، لأجل أن يُبعده عن ولاية العهد ووصل به الأمر من شدّة غضبه على أخيه أن قام برفع رأسه وآلافٍ آخرين على الرّماح وطاف بهم من مدينة إلى مدينة. وشخصٌ مثل علي بن موسى الرضا عليه السلام، يظهر وينظر بلا مبالاة إلى ولاية العهد، ولا يقبلها إلّا مكرهًا وتحت التّهديد. وعند المقارنة بين الإمام علي بن موسى الرّضا عليه السلام والمأمون العبّاسي، نرى أن كلّ ما جهد المأمون لتحقيقه ووفّر في سبيله كلّ ما لديه كانت نتيجته عكسيّة بالكامل. هذه هي الخطوة الثانية للإمام عليه السلام.
أمّا النقطة الثّالثة: في سياسته عليه السلام والّتي واجه بها سياسة المأمون، هي أنّه مع كلّ الضّغوطات والتّهديدات الّتي مورست عليه، لم يقبل بولاية العهد إلا بشرط الموافقة على عدم تدخّله في أيّ شأن من شؤون الحكومة من حرب وصلح وعزل ونصب وتدبير وإشراف على الأمور. والمأمون، الّذي كان يعتقد أنّ هذا الشّرط ممكن تحملّه في بداية الأمر، لأنّه يُمكنه بعدها أن يجرّ الإمام عليه السلام إلى ساحة أعمال ونشاطات الحكومة تدريجيًّا، وافق على قبول شرط الإمام عليه السلام الّذي ينصّ على عدم التدخّل بأيّ شيء مهما كان. ومن الواضح أنّ قبول المأمون بهذا الشرط جعل خطّته كمن يكتب على وجه الماء. فأكثر أهدافه الّتي كان يرمي إليها لم تتحقّق. والإمام عليه السلام، الّذي كان يُطلق عليه لقب وليّ العهد وكان قهرًا يستفيد من إمكانات جهاز الحكم، كان دائماً يُقدّم نفسه كأنّه مخالف ومعترض عليه، فهو لم يكن يأمر ولا ينهى، ولا يتصدّى لأيّ مسؤولية ولا يقوم بأيّ عمل للسلطة، ولا يدافع عن الحكومة، ولا يقدّم أيّ تبرير لأعمال النّظام. لذا كان من الواضح أنّ هذا الشخص الّذي يُعتبر عضوًا في النّظام الحاكم والّذي أدخل إليه بقوّة وكان يتنحّى عن كلّ المسؤوليات، لا يُمكن أن يكون شخصًا محبًّا ومدافعًا عن هذا النّظام. ولقد أدرك المأمون جيّدًا هذا الخلل والنّقص، فحاول عدّة مرّات وباستخدام لطائف الحيل أن يحمل الإمام على العمل خلافًا لما تعهّد به سابقًا، فيجرّ الإمام عليه السلام بذلك إلى التدخّل في أعمال الحكومة ويقضي على سياسة الإمام عليه السلام المواجهة والرافضة. لكن الإمام كان في كلّ مرّة يُحبط خطّته بفطنته وبراعته.
وكنموذج على هذا الأمر يذكر معمر بن خلاد نقلًا عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّ المأمون كان يقول للإمام: إذا أمكن أن تكتب شيئًا لأولئك الّذين يسمعون كلامك ويطيعونك حتّى يُخفّفوا من حدّة التوتر والأوضاع المضطربة في مناطق وجودهم، لكنّ الإمام عليه السلام كان يرفض، وكان يُذكّره بشرطه السّابق القاضي بعدم تدخّله مطلقًا في أيّ من الأمور. نموذجٌ آخر مهمٌّ جدًّا وملفتٌ هو حادثة صلاة العيد حيث إنّ المأمون وبحجّة أنّ النّاس يعرفون قدر الإمام عليه السلام وقلوبهم تهفو حبًّا له، طلب من الإمام عليه السلام أن يؤمّ النّاس في صلاة العيد، رفض الإمام عليه السلام في البداية، ولكن، وبعد إصرار المأمون على طلبه، وافق بشرط أن يخرج إلى الصّلاة ويُصلّي بنفس طريقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام. فلمّا استفاد الإمام عليه السلام من هذه المناسبة وانتهزها كفرصة جيدة لصالح مشروعه، ندم المأمون الّذي كان قد أصرّ على ذلك وأرجع الإمام عليه السلام من منتصف الطّريق قبل أن يُصلّي، معرّضًا بفعله هذا سياسة نظامه المخادعة والمتملّقة لضربةٍ أخرى في صراعه مع الإمام عليه السلام[3].
النقطة الرابعة: في سياسة الإمام عليه السلام هي أنّ استفادته الأساس من مسألة ولاية العهد كانت أهم من كلّ ما ذُكر، فبقبوله بولاية العهد استطاع أن ينهض بحركة لا نظير لها في تاريخ حياة الأئمّة (بعد انتهاء خلافة أهل البيت في سنة 40 هجرية حتّى آخر عهود الخلافة الإسلاميّة)، ولقد تمثّل ذلك بظهور دعوة الإمامة الشيعيّة على مستوًى كبير في العالم الإسلاميّ وخرق ستار التقيّة الغليظ في ذاك الزّمان، حيث تمّ إيصال نداء التشيّع إلى أسماع جميع المسلمين، فمنبر الخلافة القويّ جُعل تحت تصرّف الإمام عليه السلام، وقد قام الإمام عليه السلام من خلاله برفع ندائه وإعلان ما كان يُقال طيلة 150 سنة في الخفاء والتقية للخواص والأصحاب المقرّبين، وبالاستفادة من الإمكانات الرائجة في ذلك الزمان الّتي لم تكن إلا تحت سيطرة الخلفاء والمقرّبين منهم في الرّتب العالية، أوصل ذلك النداء إلى أسماع الجميع.
وكذلك أيضاً مناظرات الإمام عليه السلام الّتي جرت بينه وبين جمع من العلماء في محضر المأمون حيث بيّن أمتن الأدلّة على مسألة الإمامة، وهناك أيضًا رسالة جوامع الشّريعة الّتي كتبها الإمام للفضل بن سهل حيث ذكر فيها أمّهات المطالب العقائدية والفقهية للتشيّع، وأيضًا حديث الإمامة المعروف الّذي قد ذكره الإمام عليه السلام في مَرْو لعبد العزيز بن مسلم، إضافة إلى تلك القصائد الكثيرة الّتي نُظّمت في مدح الإمام بمناسبة تسلّمه ولاية العهد، ومنها قصيدتا دِعبل وأبو نوّاس اللتان تُعدّان من أهم القصائد المخلّدة في الشّعر العربيّ. إن كلّ ما ذكرناه من استفادة الإمام عليه السلام من مسألة قبوله بولاية العهد، يدلّ على مدى النّجاح العظيم الّذي حقّقه الإمام عليه السلام في صراعه ضدّ سياسة المأمون.
وفي تلك السنة نجد الخطب حافلة بذكر فضائل أهل البيت في المدينة، ولعلّه في الكثير من الأقطار الإسلاميّة، وذلك عندما وصل خبر ولاية علي بن موسى الرضا عليه السلام. فبعد أنّه لم يكن هناك شخصٌ يجرؤ على ذكر فضائل أهل بيت النبيّ عليهم السلام، وكانوا يُشتمون علنًا على المنابر لسبعين سنة، وما تلاها من سنوات،، فقد رجع في زمان الإمام الرّضا عليه السلام ذكر عظمة وفضائل أهل البيت في كلّ مكان، كما أنّ أصحابهم ازدادوا جرأةً وإقدامًا بعد هذه الحادثة، وتعرّف الأشخاص، الّذين كانوا يجهلون مقام أهل البيت عليهم السلام، عليهم وصاروا يُحبونهم، وأحسّ الأعداء الّذين أخذوا على عاتقهم محاربة أهل البيت بالضّعف والهزيمة. فالمحدّثون والمفكّرون الشّيعة أصبحوا ينشرون معارفهم ــ الّتي لم يكونوا ليجرؤوا قبلًا على ذكرها إلا في الخلوات ــ في حلقات دراسيّة كبيرة وفي المجامع العامّة علنًا.
في حين رأى المأمون أنّه من المفيد فصل الإمام عليه السلام عن النّاس. فهذا الفصل والإبعاد هو في النّهاية وسيلة لقطع العلاقة المعنويّة والعاطفيّة بين الإمام والنّاس. وهذا ما يريده المأمون، ولمواجهة هذه الخطوة لم يكن الإمام عليه السلام يترك أيّ فرصة تُمكّنه من الاتّصال بالنّاس إلّا ويستفيد منها خلال تحرّكه ومسيره. فمع أنّ المأمون كان قد حدّد الطّريق الّتي سيسلكها الإمام من المدينة وصولًا إلى مرْو، بحيث لا يمرّ على المدن المعروفة بحبّها وولائها لأهل البيت مثل قم والكوفة، لكنّ الإمام عليه السلام استفاد من كلّ فرصة في مسيره لإقامة علاقات جديدة بينه وبين النّاس، فأظهر في منطقة الأهواز آيات الإمامة، وفي البصرة الّتي لم يكن أهلها من محبّي الإمام سابقًا، جعلهم من محبّيه ومريديه، وفي نيشابور ذكر حديث السّلسلة الذهبية ليبقى ذكرى خالدة، إضافة إلى ذلك الآيات والمعجزات الّتي أظهرها. وقد اغتنم الفرصة لهداية وإرشاد النّاس في سفره الطّويل هذا. وعندما وصل إلى مرو الّتي هي مركز إقامة الخلافة كان عليه السلام كلّما سنحت له الفرصة وأفلت من رقابة الجهاز الحاكم يُسارع للحضور في جمع النّاس.
والإمام عليه السلام، فضلًا عن أنّه لم يحضّ ثوّار التشيّع على الهدوء أو الصلح مع جهاز الحكومة، بل إنّ القرائن الموجودة تدلّ على أنّ الوضع الجديد للإمام المعصوم كان عاملًا محفّزًا ومشجّعًا لأولئك الّذين أصبحوا، بفعل حماية الإمام ومؤازرته لهم، محلّ احترام وتقدير ليس فقط عند عامّة النّاس بل حتّى عند العاملين وولاة الحكومة في مختلف المدن، بعد أن كانوا ولفتراتٍ طويلة من عمرهم يعيشون في الجبال الوعرة والمناطق النّائية البعيدة. فشخصٌ مثل دعبل الخزاعيّ صاحب البيان الجريء، الذي لم يكن على الإطلاق يمدح أي خليفة أو وزير أو أمير، والذي لم يكن في خدمة الجهاز الحاكم، لا بل لم يسلم من هجائه ونقده أيّ شخصٍ من حاشية الخلافة، وكان لأجل ذلك ملاحقًا دومًا من قبل الأجهزة الحكوميّة، وظلّ لسنوات طوال مهاجرًا ليس له موطن، يحمل داره على كتفه، ويسير من بلدٍ إلى بلد ومن مدينةٍ إلى مدينة، أصبح بإمكانه الآن مع وجود الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أن يصل ويلتقي بمقتداه ومحبوبه بحريّة، وأن يُوصل في فترةٍ قصيرة شعره إلى كلّ أقطار العالم الإسلاميّ، ومن أشهر وأبهى قصائده تلك الّتي تلاها للإمام عليه السلام حيث اشتهر بها، والّتي تبيّن وثيقة الثّورة العلويّة ضدّ الأنظمة الأمويّة الحاكمة. حتّى أنّه وفي طريق عودته من عند الإمام، كان يسمع قطّاع الطّرق يُردّدون تلك القصيدة نفسها. وهذا يدلّ على الانتشار السّريع لشعره.
والآن نعود لنلقي نظرة عامّة على ساحة الصّراع الخفيّ الّذي بدأ المأمون بالإعداد له، ودخل فيه الإمام علي بن موسى الرّضا للأسباب الّتي قد أشرنا إليها. فلنرَ كيف كان الوضع بعد مضيّ سنة على تسلّم الإمام ولاية العهد.
[1] الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص 257.
[2] الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج 2، ص 260، "فما رأيت خلافة قطّ كانت أضيع منها، إنّ أمير المؤمنين يتفصّى منها ويعرضها على عليّ بن موسى الرضا، وعلي بن موسى يرفضها ويأبى".
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 257-258.
الاكثر قراءة في موقفه السياسي وولاية العهد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
