تطور الفنون الجميلة
المؤلف:
أ. د. عبد العظيم رمضان
المصدر:
تاريخ أوربا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوربية الى الحرب الباردة
الجزء والصفحة:
ج1 ص 72 ــ 79
2025-12-09
29
كان من الطبيعي بعد أن خفت قبضة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوروبا، مع ظهور طبقة مادية النظرة إلى الحياة
كالطبقة البورجوازية، أن ينعكس ذلك على الفنون، التي كانت في العصور الوسطى موجهة لخدمة الكنيسة والأغراض الدينية بوجه عام، إذ دبت فيها روح علمانية متحررة من تزمت العصور الوسطى، وتمثل ذلك بصفة خاصة في فن الرسم وفن النحت وفن العمارة.
وبالنسبة لفن الرسم فيعتبر الفن الأول لعصر النهضة في إيطاليا، وقد اصطبغ بصبغة دنيوية سافرة، وتحرر من قيود وتزمت العصور الوسطى، وتمثل ذلك في إبراز أجزاء جسم الانسان، وتصوير جمال الوجه والطبيعة. وقد تنافست المدن الإيطالية في هذا القرن، وبرزت فيها اثنتان هما فلورنسة والبندقية.
ويعـتـبـر ليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci (1452 - 1519م) ومايكل أنجلو Michel Angelo زعيما المدرسة الفلورنسية ويتميزان بأن نشاطهما الفني لا يقتصر على الرسم، بل يتعداه إلى بعض الفنون الأخرى.
وبالنسبة لليوناردو دافينشي فقد اشتمل نشاطه على التصوير والنحت والموسيقى والأدب، والهندسة العسكرية، والعلوم الطبيعية، وإن قامت شهرته على فن الرسم.
ومن أشهر صوره (الجيوكندا) La Gioconda المعروفة ايضا باسم موناليزا Monalisa نسبة إلى صاحبتها. وتعتبر الصورة معجزة فنية تمثل سيدة تجلس أمام شرفة رخامية واضعة يدها اليمنى على معصم يدها اليسرى. ومع أن السيدة لا تبدو على
جانب كبير أو قليل من الجمال، كما أن ليوناردو ترك عينيها دون هدب. إلا أن الابتسامة الغامضة التي تكسو وجهها وترتسم على وجنتيها وشفتيها، ظلت موضع سحر وإعجاب الفنانين.
ومن أشهر صور دافينشي أيضا صورة «العاصفة»، وصورة «ميدوسا» Medusa الفتاة الجميلة التي حول «بوسایدون» Poseidon رب البحار شعرها إلى أفاع. ثم صورة العشاء الأخير Last Supper وتصور السيد المسيح جالسا على مائدة كبيرة بين حوارييه الذين يتناولون معه الطعام للمرة الأخيرة، وهي ملأى بالانفعالات التي ترسم على الوجه والأجسام والحركات، لأنها تصور اللحظة التي أنهى فيها المسيح كلامه الحوارييه عن خيانة يهوذا الاسخريوطى له. Iscariota
أما مايكل أنجلو فقد برع أيضا إلى جانب الرسم في النحت وهندسة البناء والشعر الإيطالي، وبلغ فى كل ذلك مستوى رفيعا.
ومن أهم أعماله فى فن الرسم صورة يوم الحساب Last Judgement في قبة كنيسة «سستين» في الفاتيكان، التي استغرق إنجازها ثماني سنوات، وهي تمثل البشر رجالا ونساء وهم يخرجون من القبور، وقد سادهم الاضطراب والفزع لما ينتظرهم من العقاب والمسيح قائم من على عرشه غاضبا لما ارتكبه شعبه من الخطايا. وقد صور مايكل أنجلو أجسام الرجال والنساء كلها عارية.
كذلك من أهم أعمال مايكل أنجلو الفنية صور السقف في كنيسة «سستين» في الفاتيكان التي استغرق انجازها ثماني سنوات، وهي ثلاث مجموعات تاريخية، تناول في المجموعة الأولى «خلق العالم في ثلاث لوحات الاله الأعظم يفصل النور عن الظلام، والإله يخلق الكواكب، والإله يبارك الأرض بمياهها ونباتها. وتناول في المجموعة الثانية خلق آدم، والإغراء والخطيئة. أما المجموعة الثالثة فتناول فيها نوح عليه السلام في ثلاث لوحات هي: تضحية نوح، الطوفان، ونشوة نوح.
هذا فيما يتصل بمدرسة فلورنسا، أما ما يتصل بمدرسة البندقية، فقد اختلفت بسبب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، فقد كانت تحتل مكانة عظيمة في التجارة، وبالتالي نمت فيها طبقة بورجوازية على جانب كبير من الثراء. لذلك امتاز الرسم البندقي بحيوية في اللون، وبعرضه لنواحي الحياة الارستقراطية، وبنزعته الدنيوية الصرفة. وإمام هذه المدرسة هو تزيانوتیتیان Tizano Titian (1490 - 1576م) الذي تتميز صوره لمعاصريه - مثل الإمبراطور شارل الخامس والبابا بول الثالث، وصورة «الأسرة المقدسة» - بالازدهار المادي والعظمة الاجتماعية.
ويعتبر من أعظم رسامي النهضة الفنان «رافايلو سانتزيو» Raffaello Sanzio (1483 - 1520م) الذى جسد بفنه العبقرية الايطالية، ونال حظوة لدى البابا ليو العاشر. ومن أعماله صورة «صلب المسيح» و «تتويج العذراء» و «التجلي» Transfiguration
و«مدرسة أثينا» التي استوحاها من وصف دانتي لها في الكوميديا الإلهية وتمثل الفلاسفة والعلماء الاقدمين وقد وقفوا في أوضاع مختلفة.
أما النحت، فقد ازدهر أيضا على يد طائفة من الفنانين العظام مثل: لورنزو دى تشينو جيبرتي Lorenzio di Cino Ghiberte (1378) - 1455م) الذي حفر الأبواب البرونزية بمعمودية كنيسة فلورنسا قبل مايكل انجلو، ومن أهم روائعه تمثال ليوحنا المعمدان Baptist في كاتدرائية سيينا ، وتمثالان لـ «داود» أحدهما من البرونز والآخر من المرمر. كذلك من أشهر تماثيله ونقوشه تلك التي تمثل الأطفال وقت نومهم أو لعبهم. وتلك التي نحتها لروس وأجسام بعض معاصريه على طبيعتها.
ويعتبر مايكل انجلو من تلاميذ دوناتللو، ولكنه تميز بالابتعاد قليلا عن فن دوناتللو Donatello التقليدي، فقد احتفظ بما تميزت به مدرسة دوناتللو من واقعية يستمدها من الطبيعة، ولكنه مزج بين الشكل الفردي الذي كان هدف هذه المدرسة والشكل المثالي الذي يميز الطابع الإغريقي القديم.
وقد عبر مايكل انجلو بتماثيله العظيمة عن عصر جديد تسوده القوة والحرية. ومن أعماله: تمثال «باخوس» Bacchus و «داود» David و «موسی» Moses والعذراء والطفل Madonna and the Child والأسيران المقيدان
وعلى كل حال، فقد كان يغلب على فن النحت بصفة عامة المظهر الوثنى القديم، نظرا لأن التماثيل الرائعة التي خلفها الرومان كانت لا تزال موجودة في إيطاليا، فكانت هذه التماثيل مصدر إلهام لنحاتي عصر النهضة - مما ساعد على ازدهار فن النحت، وكان وراء حرص الفنانين على إبراز مفاتن الجسم بكل أعضائه دون التقيد بأخلاقيات أو غيرها، فأخرجوا إنتاجاً فنياً مبدعاً.
أما بالنسبة لفن العمارة، فقد انعكس الاتجاه إلى إحياء الدراسات القديمة على نهضة هذا الفن، وكان فن العمارة في أوائل العصور الوسطى متأثراً بطبيعة الحال بنماذج الفن القديم، ثم برز بعد ذلك طراز جديد هو الطراز القوطي Gothic الذي تميز بكثرة الدعائم الطائرة Flying Bettresses والأقبية العالية، وانتشر في بناء الكنائس والكاتدرائيات الضخمة، وقد أدخل هذا الطراز القوطي في إيطاليا في أواخر القرن الثالث عشر بعد إدخال تعديلات عليه تجعله يتفق. مع حالة الطقس في بلادهم. وفي الوقت نفسه فإن المباني قد غلب عليها طابع الدفاع، بسبب الخوف من غزوات البرابرة، وتمثل ذلك في القلاع المحصنة.
ولما جاءت النهضة بدأت في القرن الرابع عشر روح جديدة تدخل في فن العمارة، فأدخلت على الطرز المعمارية الخصائص والرسومات الهندسية التي كان يتبعها الرومان في مبانيهم القديمة، وتمثل ذلك في الرجوع إلى الشكل الكلاسيكي الذي يتميز بالعمود والعتب، أي الجزء المحمول على العامود مباشرة ويليه الإفريز ثم الكورنيش، كما تمثل في استعمال السقف المسطح الذي استعمله الإغريق والرومان والعمود والقوس.
وقد تدفقت عمارة النهضة من مركزها في إيطاليا إلى خارجها، فملأت أوروبا بمبان وقصور رحبة لم تنشأ لأغراض الدفاع بقدر ما أنشئت لمتعة أصحابها، وحل المنزل الريفي محل القلعة الحصينة، وأخذت مباني المدينة تزحف خارج أسوارها.
على أن فن العمارة لم يكن في عصر النهضة مقيدا تماما بالنظريات الكلاسيكية، أو تقليدا أعمى للنماذج الرومانية، وانما تعدلت قوالب الماضي لتتمشى مع أساليب الحياة الجديدة، ولتلائم رخاء الحياة وترفها.
وفي المراحل المتأخرة من عصر النهضة أصبحت الضخامة أهم ما يميز فن العمارة، والتي تعرف بالعصر الباروكي Baroque . وتمثل ذلك في كنيسة القديس بطرس الجديدة في روما، التي وضع أسسها البابا يوليوس الثانى فى 18 أبريل 1506م بعد أن تصدعت الكنيسة القديمة التي أقامها قسطنطين الكبير وتقرر هدمها. وقد اشترك فى بناء الكنيسة الجديدة أفذاذ المهندسين المعماريين والفنانين أمثال برامانتی Bramante وبيروتزى Peruzzi ورافايللو ومايكل انجلو، وتعتبر من عجائب الدنيا وهي تتسع لحوالي 60 ألف شخص.
ومن أعلام العمارة الرواد في عصر النهضة فيليبو برونیللیسکي Fillippo Brunelleschi (1377 - 1446م) وهو فلورنسي المولد، وقد عاد بفن البناء إلى الشكل الكلاسيكي الذي يتميز كما ذكرنا بالعامود والعتب، أو العامود والقوس، وبتطبيق هذا الشكل القديم على الأبنية المعاصرة شاع نموذج العمود الذي ينتهي بالتاج.
وقد انتشر البناء الجديد فى فلورنسا إلى بقية أنحاء إيطاليا في النصف الأول من القرن الخامس عشر، حتى احتلت روما والبندقية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر مكانة فلورنسا، وقد وصل فن البناء درجة الكمال عند مايكل أنجلو.
الاكثر قراءة في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة