تفسير الآية (أفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ ويَتلُوهُ شَاهِدٌ مِنهُ)
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج4/ص131-118
2025-12-09
35
قال الله الحكيم في كتاب الكريم: {أفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ومِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً ورَحْمَةً (كمن ليس على هذه الصفة) أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}[1].
أنّ المقصود من صاحب البيّنة في هذه الآية المباركة هو الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم والشاهد هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. والأحاديث المأثورة عن الخاصّة والعامّة في هذا الحقل جمّة. بل أنّ الأحاديث التي نقلها العامّة بأسنادهم تفوق أحاديث الخاصّة. فقد ذكر العلّامة المحدّث البحرانيّ ثلاثة وعشرين حديثاً من طريق العامّة، وأحد عشر حديثاً عن طريق الخاصّة[2]. ومن الضروريّ هنا أن نبدأ ببحث تفسير للآية قبل الخوض في الأحاديث الواردة.
هذه الآية في سورة هود، وسورة هود من السور المكّيّة. تبدأ السورة بقوله تعالى: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}. إذ تتحدّث هنا عن قرآن محكم، وقرآن مفصّل، أو بكلمة بديلة، قرآن له حقيقة واحدة في العوالم العلويّة، وله سور وآيات وأحكام ومعارف وقضايا مستقلّة بعضها عن بعض في هذا العالم. وتتحدّث الآيات التي تتلو تلك الآية عن الدعوة إلى عبادة الله، والتوبة إليه، وتذكّر بأنّ المرجع إلى الله؛ وتأتى الآية الخامسة لتتحدث عن الذين يثنون صدورهم من كفّار قريش ليعرضوا عن ذلك. وفي الآيات التي تتلوها حديث عن إرادة الله وقيّوميّته وخالقيّته، وعن المعاد وبعث الناس من بعد الموت، وإنكار المنكرين. وأحوال المؤمنين في الصمود والاستقامة، وحالات غيرهم في التلوّن، والارتياب النفسيّ، واليأس، وكفران النعمة، والفخر، والفرح الذي ليس في موضعه.
ثمّ نصل إلى الآية الحادية عشرة التي تخاطب النبيّ فتقول: فلعلّك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه مَلَك (فلا تحزن من هذه الكلمات) أنّما أنت نذير (من عواقب الشرك والظلم الوخيمة) والله على كلّ شيء وكيل. وتتحدّث الآية التي تتبعها عمّا يقوله المشركون بأنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم قد افترى هذا القرآن: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وأدعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. يا رسول الله فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنّما انزل بعلم الله وأن لا إله إلّا هو فهل أنتم مسلمون؟
ثمّ تتلو ذلك آيتان تتحدّثان عن الثمار التي يقطفها من يريد الحياة الدنيا، وبعدهما نلتقي قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ (وبصيرة باطنيّة الهيّة) مِنْ رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ومِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً ورَحْمَةً (مصدّقاً لدعواه وشبيهاً له في بيانه ودعوته، كمن ليس كذلك؟) أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.
ولمّا كانت الآيات السابقة قد بيّنت إنكار المشركين لأحقّيّة القرآن فأنّ هذه الآية ناظرة إلى تلك الآيات، وهي في مقام الاستدلال وإقامة البرهان على لزوم الإيمان بالقرآن المجيد، والاستفهام هنا إنكاري.
وينبغي أن نرى هنا ما هو القصد من البيّنة، وما معنى يَتْلُو، وشَاهِد.
وقد جاءت البيّنة في بعض الآيات القرآنيّة بمعنى الحجّة كقوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}[3]، وجاءت في بعضها الآخر بمعنى الآية والمعجزة كقوله تعالى: {قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ}[4]. ووردت في آيات اخرى بمعنى البصيرة الخاصّة والنور المخصوص الذي منحه الله الأنبياء كما جاء في قوله تعالى على لسان نبيّه نوح عليه السلام: {يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}[5]. وذكرت في آيات من الكتاب العزيز على أنّها مطلق البصيرة الإلهيّة والنور الباطنيّ، كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ}[6]. وهذا المعنى هو الذي تقصده الآية التي هي مدار بحثنا، لأنّه تعالى يقول بعدها بصيغة الجمع: {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.
والواضح هو أنّ جميع المؤمنين ليست لهم بصيرة النبوّة الخاصّة وإن كان القصد من صاحب البيّنة هو رسول الله وفقاً لموضوعها، بَيدَ أنّه لمّا كان هذا القسم من الآية تمهيداً لما يليه، وهو قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}، فالقصد من البيّنة، إذن، هي تلك البصيرة الإلهيّة المطلقة التي أفاض الله بها على نبيّه الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم. وليس القصد منها هو القرآن، لأنّها لا تنسجم مع ما يليها، وهو قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ.
ويستفاد ممّا تقدّم أنّه لا يصحّ كلام البعض في أنّ صاحب البيّنة المقصود في هذه الآية هو رسول الله خاصّة على وجه العموم، لترتّب قوله في صيغة الجمع {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} على ذلك، وقد اخذ هذا اللفظ من مفاد قوله: {فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}.
وكذلك لا يصحّ قول بعضهم أنّ المراد هنا أصحاب رسول الله، لأنّ النبيّ نفسه له بيّنة. فتنطبق الآية عليه على وجه الحصر لا على وجه العموم ويريد الله أن يقول له: أنت الذي لك بيّنة إلهيّة وشاهد خارجيّ ومن قبلك كتاب موسى مصدّقاً لك، ينبغي لك أن تؤمن بالقرآن، ولا يعتريك الشكّ فيه، ولا يضيق صدرك من قول المشركين الذين طلبوا منك إنزال كنز أو مجيء مَلَك، وعليك أن تقوم بالتبليغ وإرشاد الناس بقدم راسخة وإرادة لا تلين.
وأيضاً لا يستقيم قول من قال أنّ المراد بالبيّنة هنا القرآن أو حجّة العقل، لأنّ هذه مقدّمة إلى القرآن والأمر بالتمسّك به. أي أن الذي له بصيرة باطنيّة ونور إلهيّ يؤمن بالقرآن، وأنت يا رسولنا الذي لك مثل هذه البيّنة أيضاً لا تشكّ في القرآن. ولا معنى أن يُؤْمَرَ مَن كان عنده القرآن بالإيمان به، ويُحَذَّر من الشكّ فيه.
وأمّا حجّة العقل، فلمّا كانت البيّنة التي عند النبيّ أقوى من الحجّة العقليّة، لذلك لا معنى أن نقصر هذه البيّنة القائمة في وجود خاتم النبيّين على دليل العقل. وأمّا القصد من كلمة {يَتْلُو} فأنّه التتابع لا القراءة والتلاوة لأنّه من غير الصحيح أن نقول: أنّ ذلك الشاهد يقرأ النبيّ أو يقرأ نور بصيرته؛ وقلنا أنّ البيّنة هي ليست القرآن حتى تصحّ تلاوته.
وأمّا القصد من كلمة شاهِد، فالواضح أنّه أداء الشهادة لا تحمّلها لأنّ تحمّلها لا يكون حجّة على المشركين بل الحجّة عليهم، وبل المفضي إلى تقوية الرسول وتأييد بصيرته الإلهِيّة ونوره الربّانيّ هو أداء الشهادة؛ لذلك فأنّ الشاهد هنا هو الذي أقرّ بأحقّيّة رسالة النبيّ، ودعم رسالته ببصيرته الإلهيّة، وآمن به. لأنّ شهادة الإنسان صاحب اليقين والبصيرة تكتسح كلّ شكّ وشبهة، وتُذهب كلّ خوف من الوحدة والوحشة، ولعلّ الأشخاص الذين يتركون وحدهم في أمر أو جانب يتضعضعون أمام المحن الصعبة والأحداث المؤلمة، على عكس ما لو أعانهم أحد في سرّه وأسندهم ولم يتركهم وحدهم في الميدان، فأنّ الوحشة تزول والقلب ينشط في مثل هذه الحالة.
وهنا أيضاً يقول تعالى حيال تهجّم المشركين ومواجهتهم العنيفة: يا أيّها النبيّ أنّ من كانت له بيّنة إلهيّة وأعانه شاهد خارجيّ، فهو يؤمن بالقرآن، ولا يشكّ ولا يتضعضع. ولا ريب أنّ هذا الشخص هو عليّ بن أبي طالب الذي أسلم منذ اليوم الأوّل للنبوّة، وأعان النبيّ في تحمّل أعباء الرسالة، ومواجهة الصعوبات التي كانت تعترض طريقها، ولبّى دعوته عند ما أمره الله بإنذار عشيرته الأقربين في قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[7]. وقام وحده في حديث العشيرة، وكان مؤازراً ومعيناً ووزيراً للنبيّ في جميع المشاكل التي واجهتها النبوّة والمصاعب الناجمة عن حمل مهمّة الرسالة الثقيلة. وفي ضوء ما قيل فأنّ الذي تنطبق عليه الآية على وجه الحصر هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
[1] الآية 17، من السورة 11: هود.
[2] «غاية المرام» من ص 359 إلى 361.
[3] الآية 42، من السورة 8: الأنفال.
[4] الآية 73، من السورة 7: الأعراف.
[5] الآية 28، من السورة 11: هود.
[6] الآية 14، من السورة 47: محمّد.
[7] الآية 214، من السورة 26: الشعراء
الاكثر قراءة في مقالات قرآنية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة