التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
مملكة العبرانيين
المؤلف: سليم حسن
المصدر: موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة: ج9 ص 460 ــ 468
2025-01-21
57
كان من جراء مقاومة الفلسطينيين على وجه خاص إعطاء الفرصة لإنشاء المملكة العبرانية، وهي التي بقيامها يبتدئ تاريخ الأمة العبرانية، وفي عهد العبرانيين نَمَت وترعرعت صفات قومية خاصة بهم، وإن كان قد نقصها المظهر السياسي، وهذه من الظواهر التي تتسم بها القومية الحديثة، ولا نزاع في أن العبرانيين يعدون الأمة الوحيدة بين الأمم السامية القدامى التي حافظت على أخلاقها القومية وشخصيتها، وقد كان الدين بطبيعة الحال من العوامل الكبيرة التي ساعدت على وحدتهم وتماسكهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا.
وقد كان لجيرانهم الأدوميين والمؤابيين والعامونيين ملوك يحكمونهم.
أما الفلسطينيون فكان لهم أسياد حافظوا على اتحاد مفكك، وكان للفينقيين حكومات مدنية، وقد نما بعضها مثل «جبيل» و«صيدا» و«صور»، فأصبحت أممًا قائمة بذواتها، ولكن العبرانيين كان يحكمهم حتى تلك اللحظة قضاة وهم قواد قد ظهروا على حسب مقتضيات الأحوال، وعلى ذلك ذهب شيوخ القوم إلى رئيسهم الديني «صمويل» طالبين إليه «ملكًا يقضي لنا كسائر الشعوب.» (سفر صمويل الأول إصحاح 8 سطر 5)، وقد نصب رجل كان رأسه وكفاه أطول من كل واحد في الناس يدعى «شاؤل»، وهو أول ملك عليهم في حوالي عام 1020ق.م، وهذا الإلهام لم يكن الوحيد الذي أتى من مصدر خارجي، ولكن الملكية نفسها في نظامها كانت قد شكلت شيئًا فشيئًا على نظام الملكيات المجاورة. وعلى أية حال، كان نظامها يختلف في أمرين عن جيرانها بعض الشيء؛ فقد استمر نظام القبائل من حيث الأغراض الإدارية، وكان الملك من جهة أخرى يحكم على حسب ما يمليه لهم «يهوه» كما يوحي به بوساطة القديسين.
وكان أول ملك عبراني نصب عليهم مخيبًا للآمال، بل في الواقع كان الخيبة نفسها؛ فقد كان ضعيف الخَلْق كئيب الطبع، عاش مثل الشيخ البدوي في خيمة في جبعة (تل الفول الحالية)، ولم تمتد مملكته الصغيرة في بادئ الأمر وراء قبيلته التي تدعى «بنيامين»، ومع ذلك فإن انتخابه ملكًا قد أدى إلى ثورة على الرؤساء الفلسطينيين، وبعد حرب طويلة قتل الفلسطينيون ثلاثة من أولاده وجرحوه جرحًا بليغًا، حتى إنه انتحر بعد موقعة جبل جلبوع (يحتمل أن تكون جليون الحالية سميت بهذا الاسم)، وقد مثَّل به الأعداء شر تمثيل؛ إذ إنهم بعد فصل رأسه عن جسمه صلبوا جسمه، وكذلك فعلوا بأجسام أبنائه على سور بلدة «بيت شان»، وبعثوا بدرعه فدية إلى معبد «عشتاروت». (فسفر صموئيل الأول إصحاح 31 سطر 1 – 10) يقول: «وحارب الفلسطينيون إسرائيل، فهرب رجال إسرائيل من أمام الفلسطينيين وسقطوا قتلى في جبل جلبوع، فشد الفلسطينيون وراء شاؤل وبنيه وضرب الفلسطينيون يوناتان وأبيناداب وملكيشوع أبناء شاؤل، واشتدت الحرب على شاؤل فأصابه الرماة رجال القسي فانجرح جدًّا من الرماة، فقال شاؤل لحامل سلاحه: استل سيفك واطعني به؛ لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه؛ لأنه خاف جدًّا، فأخذ شاؤل السيف وسقط عليه، ولما رأى حامل سلاحه أنه قد مات شاؤل سقط هو أيضًا على سيفه ومات معه، فمات شاؤل وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم معًا، ولما رأى رجال إسرائيل الذين في عبر الوادي والذين في عبر الأردن أن رجال إسرائيل قد هربوا وأن شأول وبنيه قد ماتوا تركوا المدن وهربوا، فأتى الفلسطينيون وسكنوا بها».
وفي الغد لما جاء الفلسطينيون ليعروا القتلى وجدوا شاؤل وبنيه الثلاثة ساقطين في جبل جلبوع، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وأرسلوا إلى أرض الفلسطينيين في كل جهة لأجل التبشير في بيت أصنامهم وفي الشعب، ووضعوا سلاحه في بيت عشتاروت، وسمروا جسده على سور بيت شان.
والمؤسس الحقيقي لمملكة العبرانيين هو «داود» (1004–960ق.م)، وهو الذي ارتدى درع شاؤل، وابتدأ مجال ملكه تحت سيادة الفلسطينيين، وانتهى به الأمر أنه أفلح في استقلال بلاده ووسع حدودها إلى درجة لم تبلغها من قبل ولم تصل إليها بعد. وقد افتتح «داود» عهده بسلسلة معارك كان من نتائجها نزع النير الفلسطيني من فوق رقاب العبرانيين، وأصبحت «آدوم» و«موآب» و«عمون» تحت حكمه، والظاهر أن حكمه امتد حتى بلدة «حماة»، (فسفر صموئيل الثاني إصحاح 8 سطر 9-10) يقول: «وسمع توعي ملك «حماة» أن «داود» قد ضرب كل جيش «هدد عزر»، فأرسل «توعي يورام» ابنه إلى الملك «داود» ليسأل عن سلامته ويباركه؛ لأنه حارب «هدد عزر» وضربه؛ لأن «هدد عزر» كانت له حروب مع «توعي» وكان بيده آنية فضة وآنية ذهب وآنية نحاس إلخ».
(وفي سفر صموئيل الثاني إصحاح 12 سطر 26–31) يقول: «وحارب «يوآب» ربة بني «عمون»، وأخذ مدينة المملكة، وأرسل «يوآب» رسلًا إلى «داود» يقول: قد حاربت ربه، وأخذت أيضًا مدينة المياة، فالآن اجمع بقية الشعب وانزل على المدينة وخذها؛ لئلا آخذ أنا المدينة فيدعى باسمي عليها، فجمع «داود» كل الشعب وذهب إلى ربه وحاربها وأخذها وأخذ تاج ملكهم عن رأسه ووزنه وزنة من الذهب من حجر كريم وكان على رأس «داود»، وأخرج غنيمة المدينة كثيرة جدًّا، وأخرج الشعب الذي فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفئوس حديد، وأمرهم في «آتون» الآجر، وهكذا صنع بجميع مدن بني «عمون»، ثم رجع «داود» وجميع الشعب إلى أورشليم».
وقد دخل جيشه المنتصر دمشق وسار في شوارعها. والواقع أن المملكة التي أسسها «داود» كانت أقوى حكومة وطنية، لم يؤسس قط مثلها في فلسطين، على أن عدم اشتمالها لكل الساحل لم يقلل من قيمة الجزء الأول من العبارة التي كتبها «جورج آدم سميث» (راجع Historical Geography p. 58 ) وهي: «إن فلسطين لم تكن يومًا ما قط تابعة لأمة واحدة، ومن المحتمل أنها لن تكون قط بعد».
وقد كان نتيجة فتحه «لآدوم» أن أصبح في قبضته طريق التجارة بين سوريا وبلاد العرب، ولم نسمع بقيام ممالك في هذه البلاد الصغيرة أو في جارتيها الشماليتين: «موآب» و«عمون» بعد القرن الثالث عشر ق.م، وفي القرون السابقة لذلك نلحظ أن فروعًا من الآراميين وبعض «الخبيرو» قد سكنوا بطبيعة الحال في هذا الإقليم الذي كان منذ القرن العشرين قبل الميلاد مسرحًا لجولان البدو، ولا بد أن كل بقايا التحضر الذي كان قبل القرن العشرين ق.م قد قضى عليها «الهكسوس» «والآراميون»، ولم تفلح الكشوف الحديثة حتى الآن في الكشف عن وجود أي بلدة في بلاد «الأردن» من زمن هذا العهد الطويل.
وتدعيم البلاد بتثبيت حدودها وإخضاع جيرانها مكَّن «داود» أن يوجد وحدة مؤقتة من قومه، ويدل الإحصاء الذي عمله لبلاده — وهو من أقدم الإحصاءات التي سجلها لنا التاريخ — على أن عدد السكان بلغ حوالي ثمانمائة ألف نسمة (فسفر صموئيل الثاني إصحاح 24 سطر 9) يقول: «فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك، فكان إسرائيل ثمانمائة ألف رجل ذي بأس مستل السيف، ورجال يهوذا خمسمائة ألف رجل.» (وفي سفر أخبار الأيام الأول إصحاح 21 سطر 5): «فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى داود، فكان كل إسرائيل ألف ألف ومائة ألف رجل مستلي السيف، ويهوذا أربعمائة وسبعين ألف رجل مستلي السيف».
وقد انتخب «أورشليم» عاصمة لملكه، وهي التي انتزعها من «الجوبيسيين Jebusites».، وقد كان موفقًا كل التوفيق في هذا الاختيار؛ وذلك لأن هذه المدينة تقع خارج المستعمرات القبلية الأصلية؛ إذ تكاد تقع على الحدود بين الجزءين: الشمالي والجنوبي للمملكة، وتشرف على واحدة من أهم الطرق الداخلية، وهي الطريق التي تسير شمالًا وجنوبًا على ظهر «وادي الأردن»، ومع ذلك فإنه كان من السهل حمايتها، وفي هذا البلد أقام «داود» مقره الملكي، وهو قصر مؤسس بالحجر وخشب الأرز الذي جلب من «لبنان» وقام ببنائه بناؤون صوريون ونجارون أرسلهم إليه صديقه الملك حيرام (981–947ق.م)؛ إذ في «سفر صموئيل الثاني إصحاح 5 سطر 11» نجد: «وأرسل حيرام ملك صور رسلًا إلى «داود»، وخشب أرز، ونجارين، وبنائين فبنوا لداود بيتًا».
وكانت المودة التي بين إسرائيل و«صور» قائمة على الفائدة المشتركة، فكانت بلدة «صور» فقيرة في المحاصيل الزراعية، في حين أن بلاد «إسرائيل» كان ينقصها التجارة البحرية، وقد أقام «داود» فضلًا عن قصره محرابًا قوميًّا «ليهوه» في العاصمة الجديدة، وبذلك جعل ديانة «يهوه» في العاصمة الجديدة الديانة الرسمية للمملكة المتحدة، وكان «داود» في الواقع في نظر العبرانيين الملك المثالي.
وفي عهد «داود» (رجل الحرب) بدأ الأدب العبراني الذي يعد من أغنى وأشرف المخلفات التي تركها لنا الشرق القديم، فكان «المزكير» — أي: المذكر الذي كان واجبه الرسمي تسجيل الحوادث الهامة وحفظ التواريخ الملكية — قد بدأ يظهر.
وكتابة القوم كانت مستعارة من الفينيقيين (راجع Hitti, History of Syria p. 169)، والظاهر أن الكهنة قد بدئوا فيما بعد تحضير كتب مماثلة خاصة بالسجلات الرسمية، ومن أمثال هذه السجلات أخذ تاريخ المملكة المبكر وامتزج في كتاب «العهد القديم». ومؤرخ هذا العصر كان مهمًّا؛ لأنه قد قدم لنا مادته في صورة ظاهرة تمامًا، فيصف لنا «داود» لا بوصفه ملكًا وحسب، بل كذلك بوصفه رجلًا يكتب كما ينبغي على الرجل المعاصر أن يكتب؛ فالفصلان الأولان من سفر «الملوك الأول» يعدان أول قطعة نثرية في الأدب العبري، أما ترجمته «لداود» في كتاب «صموئيل الثاني» من «فصل 9 إلى 20» فتعد نموذجًا رائعًا في التأليف التاريخي. والواقع أنه لم يُكتَب تاريخٌ مماثل لذلك من قبل قط. ومما يدهش أن المؤرخ المجهول لا تقل كتاباته وبحثه عن المؤرخين المحدثين، وكذلك بدأت المجموعات الشعرية في عهد «داود» تظهر، وقد كان هو نفسه شاعرًا معروفًا، والواقع أن تأثير شعره وموسيقاه كان عظيمًا، لدرجة أنهما تركا أثرًا عميقًا في نفوس أخلافه، حتى إنهم نسبوا إليه تأليف عدة مزامير لا تزال صالحة لكل زمان، وعامة في استمالتها للشعور الإنساني، لدرجة أنها منتشرة حتى الآن بما تنفثه في روح الإنسان وتثير فيه من وجدان فياض.
«سليمان»: خلف «داود» ابنه «سليمان» على عرش الملك (حوالي 960–925ق.م)، وقد وصلت المملكة العبرانية في عهده إلى أوج عظمتها من الرفعة والبذخ. والواقع أن مشروعات «سليمان» التجارية والصناعية ونشاطه الواسع في استخراج المعادن وإقامة المباني ومستوى معيشته المترف لم يكن له مثيل في التاريخ العبراني، وقد عاش في وسط هذه المناظر الممتلئة بالنشاط والعمل عيشة الحاكم المهيمن والملك المنعم في بلاط يعد صورة من البلاط المصري أو الآشوري في عظمته، وقد كان من نتائج حكمه أن اندمج العبرانيون في مجرى الحياة والحضارة الشرقية.
وأقام قصرَ «سليمان» مهندسو عمارة من بلاد «فينيقية» مستعملين الخشب اللبناني كما فعل والده من قبل، وقد استغرق بناء هذا القصر ثلاث عشرة سنة، وكان الجزء الخاص بالملك غنيًّا بخشب الأرز؛ لدرجة أن أصبح يطلق عليه بيت «غابة لبنان»؛ فقد قيل في «سفر الملوك الأول إصحاح 7 سطر 1-2»: «وأما بيته فبناه سليمان في ثلاث عشرة سنة، وأكمل كل بيته وبنى بيت وعر لبنان طوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا، وسمكه ثلاثون ذراعًا على أربعة صفوف من أعمدة أرز وجوائز أرز على الأعمدة».
وأما المعبد الذي أقامه هناك فكان أعظم شأنًا من الوجهة القومية، وموقعه على وجه التخمين هو المكان الذي يغطيه في أيامنا هذه «قبة الصخرة»، وكان تصميمه في الأصل ليكون محرابًا ملكيًّا تابعًا للقصر، وقد استغرق بناؤه سبعة أعوام فقط، ولكنه فيما بعد جعله معبدًا عامًّا للعبرانيين، وكان مهندسو العمارة والبناؤون الذين صمموه وأقاموه من مدينة «صور» واستعملوا في إقامته خشب لبنان، وقد سُخِّر في بنائه ثلاثون ألف عامل من رعاياه بالتناوب، فكانوا يشتغلون شهرًا في «لبنان» مع رجال «حيرام»، وشهرين في بلادهم مزاولين عملهم المعتاد. (سفر الملوك الأول إصحاح 5 من سطر 13 إلخ): «وسخر الملك سليمان من جميع إسرائيل، وكان السخر ثلاثة ألف رجل، فأرسلهم إلى لبنان عشرة آلاف في الشهر بالنوبة، يكونون شهرًا في لبنان، وشهرين في بيوتهم.» إلخ. وكان الخشب الذي يقطع يحمل إلى البحر وينقل على ذوات ألواح ودسر إلى «يافا»، ثم يحمل إلى «أورشليم»، أما زينة هذا المعبد وحلياته فكانت متأثرة بالأشكال الكنعانية المعاصرة، وكذلك كانت شعائره وضحاياه تنعكس فيها العادات الكنعانية، وعبيد المعبد كانوا من الكنعانيين أيضًا، وحتى اسم هيكل (أي معبد) فقد استعير من المفردات الكنعانية، (وكلمة هيكالو مأخوذة من الكلمة السومرية «إجال» أي: «بيت عظيم» ونقلت إلى الكنعانية، وهذه الكلمة مستعملة في معظم لغات العالم القديم والحديث).
والمباني التي أقامها سليمان تشمل تحصينات وثكنات ومستودعات. وتدل الحفائر الحديثة التي عملت في «مجدو» على أن إصطبلاته التي كانت توضع فيها خيل عرباته كانت تحتوي على صفوف مزدوجة من المعالف تكفي لإيواء خمسين وأربعمائة جواد كان قد أحضر بعضها من «سوريا» و«سيليسيا». (كتاب الملوك الأول إصحاح 10 أسطر 26) إلخ: «وجمع سليمان مراكب وفرسانًا، فكان له ألف وأربعمائة مركبة، واثنا عشر ألف فارس، فأقامهم في مدن المراكب ومع الملك في أورشليم.» إلخ.
وأقام «سليمان» بمساعدة صديقه الملك «حيرام» ملك «فينيقيا» أسطولًا من السفن لتجارة البحر الأحمر، وكانت قاعدة الأسطول «أزيون جبر» (موقعها الآن تل الخليفي عند رأس خليج العقبة)، وقد عمل فيها حفائر «نلسن جلوك» عام سنة 1938 (راجع The First Campaign at Tell-el-Kaliefeh, Bull. American School of Oriental Research No. 62 (1938) pp. 3–18) وهذه البلدة قد سميت «عيله» في العهد الروماني.
وقد قام أسطول «سليمان» من هذه الميناء بقيادة ضباط من «صور» في بعوث بحرية حول ساحل بلاد العرب وشرقي إفريقيا (فسفر الملوك الإصحاح 9 سطر 27-28) يقول: «فأرسل حيرام في السفن عبيده النواتي العارفين بالبحر مع عبيد سليمان، فأتوا إلى أوفير، وأخذوا من هناك ذهبًا أربعمائة وَزْنَة وعشرين وزنة، وأتوا بها إلى الملك سليمان.» وكذا في نفس (السفر إصحاح 10 سطر 11): «وكذا سفن حيرام التي حملت ذهبًا من أوفير بخشب الصندل كثيرًا جدًّا وبحجارة كريمة».
وكان الغرض الأصلي من هذه البعوث هو إحضار البخور وخشب الصندل والعاج والذهب والأحجار الثمينة، وذلك في مقابل النحاس والحديد اللذين كانا يكرران في «أزيون-جبر»، وهذه المواد كانت ترسل بطريق البحر أو بالقوافل إلى بلاد العرب والهند، وكانت «أدوم» وكل الجزء الذي يسمى الآن «العرابة» من بلاد سليمان الواقع بين «البحر الميت» وخليج «العقبة» كان غنيًّا بالنحاس والحديد، وقد جعل ذلك ميناء «سليمان» المسماة «أزيون-جبر» مركزًا لصهر المعادن، ولا بد أن القانيين الأهالي هم الذين كانوا أول من جلب الأدوميين وهم رجال «سليمان» لاستخراج المعادن وصناعتها، وكانت القوافل الآتية من بلاد العرب المحملة بالتوابل معرَّضة لدفع ضرائب مقابل مرورها في أملاك «سليمان». وقد اتحدت الأقاصيص على أن تجعل اسم «سليمان» في كل العصور مرادفًا للقوة والبهاء والحكمة، وحتى الجن كانوا يأتمرون بأمره في الأرض وفي الهواء (سورة الأنبياء آية 81، 82): وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ(.
وسورة سبأ آية 12 إلى 14: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
وسورة ص آية 34–40: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ).
وقد جذب فخامةُ بلاطه ملكةً من جنوب بلاد العرب وهي «بلقيس» التي جاء ذكرها في القرآن، وتدَّعي الأسرة المالكة في «الحبشة» أنها من نسل «سليمان» و«بلقيس»؛ ولذلك نجد ضمن ألقاب ملكها الحالي «أسيهودا»، وقد نسب إلى «سليمان» الحكيم عدة أمثال وجد بعضها طريقه إلى القانون؛ غير أن السجلات التاريخية لم تحدثنا عن هذا الموضوع. ويلاحَظ أن المملكة التي ورثها «سليمان» كانت أكبر بكثير من التي تركها لخلفه؛ وذلك لأن «فلسطين» اعترفت في هذا الوقت بالسيادة الفرعونية، هذا إلى أن «جيزر» وهو حصن كنعاني قد استولى عليه الفرعون الذي تزوج «سليمان» من ابنته، ووهب الفرعون هذا الحصن مهرًا لابنته، وهذه الأميرة المصرية كانت واحدة من نساء «سليمان» وحَظِيَّاته اللاتي كان يبلغ عددهن سبعمائة زوجة وثلاثمائة حظية. (سفر الملوك الأول إصحاح 11 سطر 3): «وكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلثمائة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه.» وقد أقام بتأثير من نسائه «المرتفعات» بالقرب من «أورشليم» لعبادة آلهة «صيدا» و«موآب» و«عمون». (سفر الملوك الأول إصحاح 11 من سطر 4 إلى 8): «وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب «داود» أبيه، فذهب سليمان وراء «عشتورت» إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين، وعلم سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تمامًا كداود أبيه، حينئذٍ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه «أورشليم» ولمولك رجس بني عمون، وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن».
وفي نهاية حكم «سليمان» خلص «رزون» الآرامي نفسه وبلاده من العبرانيين، وكان قبل ذلك الأمير «هدد» الأدومي الذي طرده «داود» من إقليمه بعد قتل كل ذكر فيه رجع لمضايقة «سليمان»، وكان «سليمان» يستعين بأعمال السخرة في مشاريعه العامة، وقد كان هذا الإجراء الظالم — مضافًا إليه إسرافه المسرف — السبب الأول لغضب الشعب، مما أدى إلى تقسيم البلاد في عهد خلفه، وكان إلى هذا العهد القومان: الإسرائيلي، واليهودي قد اتحدا مؤقتًا تحت حكم كل من «داود» و«سليمان»، غير أن الحياة الاقتصادية للقَوْمَيْن كانت مختلفة، فكان قوم الشمال رجال زراعة يعيشون على القمح والزيتون والكروم ومحاصيل أخرى مما تنتجه تربتهم الخصبة، أما قوم الجنوب فكان معظمهم رعاة يعيشون في هضاب صالحة لرعي الغنم والقطعان الأخرى. وكانت قبيلة «أفرايم» والقبائل الشمالية الأخرى أكثر تعرضًا للتأثير الكنعاني، وكان هواهم على ما يظهر مع عبادة الوهيم (إيل)، فكانوا يعبدونه ويقيمون له الأحفال والشعائر الشمسية المشتقة من العبادة الكنعانية، أما قبيلتا: «يهودة» و«بنيامين» في الجنوب فكان أهلهم بطبيعة الحال يفضلون «يهوه» الذي كان مركز عبادته معبد «أورشليم»، وكانت عبادته أبسط من عبادة «الوهيم»، وقد كان السبب المباشر في الخلاف والانقسام فيما بينهم اقتصاديًّا.
وعندما تُوُفِّيَ «سليمان» حوالي عام سنة 925 ق.م، وعقدت جمعية ممثلة للاثنتي عشرة قبيلة في «شخم Shechem »؛ ليباركوا ابنه «رحبعام» ملكًا عليهم، سألته الجمعية فيما إذا كان يأخذ على عاتقه ويقسم أنه سيخفف عبء الضرائب عن الأهلين أم لا؟ غير أن جواب هذا الملك الصبي الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره كان طائشًا؛ إذ قال: «إن والدي قد أدبكم بالسياط، وإني أؤدبكم بالعقارب.» (سفر الملوك الأول إصحاح 12 سطر 11). وعندئذ رفضت القبائل العشر الاعتراف به ملكًا عليهم، وأخذوا في انتخاب «يربعام» الأفريمي متكلم الجمعية ملكًا عليهم. وهذه القبائل العشر أُلِّفَت منها مملكة «إسرائيل» التي كانت عاصمتها في أول الأمر «شخم»، ثم «ترزاه»، وفيما بعد «سمارية» (السامرة)، أما القبيلتان الباقيتان وهما قبيلة «يهودا» و«بنيامين»، فقد بقي أهلهما ثابتين على ولائهم لملكهم «رحبعام»، وقد تألفت منهما مملكة «يهودا» وعاصمتها «أورشليم».
ودلت الحوادث على أن هاتين المملكتين كانت تناهض الواحدة منهما الأخرى، وكانتا أحيانًا عدوتين، وكانت كل منهما ترتفع أحيانًا وتنخفض أحيانًا أخرى، وقد كان ميزان القوة يميل تارة نحو«إسرائيل» وطورًا نحو«يهودا»، وقد وضح الميل إلى التفكك الداخلي من التغيرات الأسرية في «إسرائيل»؛ فقد تولى حكمها في مدة قرنين تسعة عشر ملكًا، يضاف إلى ذلك الثورات المتكررة في كلٍّ من المملكتين، وهذه هي العوامل الداخلية التي قضت في آخر الأمر على حياتهما. وكان العبرانيون مثلهم كمثل السوريين الآخرين لم يتعظوا بصفة جدية إلى قول مغنيهم عندما يقول: «ما أجمل وما أحلى للأَخَوَانِ أن يعيشا معًا متحدين!» (راجع سفر المزامير إصحاح 133 سطر 1).