تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
تطور الأفكار الفلسفية منذ ديكارت مقارنة بالوضع الجديد في نظرية الكم
المؤلف:
فرينر هايزنبيرج
المصدر:
الفلسفة ـ ثورة في العلم الحديث
الجزء والصفحة:
ص79
2025-05-26
80
كان العقل البشري في الأعوام الألفين التي أعقبت ذروة الثقافة والعلوم اليونانية في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، مشغولا إلى حد كبير بمشكلات ذات طابع مختلف عن تلك المرحلة السابقة. كان أقوى الدوافع في القرون الأولى للثقافة اليونانية هو واقع العالم المباشر الذي نحيا به وندركه بحواسنا، هذا الواقع كان مفعما بالحياة ولم يكن ثمة سبب وجيه للتشديد على التمييز بين المادة والعقل أو بــين الجسد والنفس، إلا إن المرء يرى بالفعل في فلسفة أفلاطون أن ثمة واقع آخر فعلي بدا أقوى. في ذلك التشبيه البليغ للكهف، شبه أفلاطون رجالا بأنهم سجناء في كهف مقيدون بحيث لا ينظرون إلا في اتجاه واحد فقط. ومن ورائهم نار، وعلى الجدار يرون ظلالهم وظلال الأشياء القابعة خلفهم. ولما كانوا لا يرون سوى الظلال، فقد اعتبروها واقعا ولم يدركوا الأشياء. بيد أن أحد السجناء تمكن من الهرب وخرج من الكهف إلى ضوء الشمس. فهو يرى الأشياء الحقيقية لأول مرة ويدرك أنه كان حتى هذه اللحظة قد انخدع بالظلال. ولأول مرة يعرف الحقيقة ويتذكر في أســـــى حياتــــه الطويلة التي قضاها في الظلام. إن الفيلسوف الحقيقي هو ذاك السجين الذي فر من الكهف إلى نور الحقيقة، فهو الذي يملك معرفة حقيقية. هذا الارتباط المباشر بالحقيقة، أو قل بالإله بالمعنى المسيحي، هو الواقع الجديد الذي بدت قوته تفوق العالم الذي ندركه بحواسنا إن هذا الارتباط المباشر بالإله يحدث داخل النفس البشرية، وليس في العالم، وتلك كانت المشكلة التي شغلت التفكير البشري أكثر من أي شيء آخر خلال ألفي عام، كانت عيون الفلاسفة في هذه الفترة تتجه نحو النفس البشرية وعلاقتها بالإله، وإلى مشكلات الأخلاق وتفسير الوحي وليس للعالم الخارجي. كان هناك في عصر النهضة الإيطالية تغير تدريجي ملحوظ نحو العقل البشري، وهذا أدي في نهاية المطاف إلى إحياء الاهتمام بالطبيعة.
سبق التطور الهائل للعلوم الطبيعية في القرنين السادس عشر والسابع عشر تطور مصاحب للأفكار الفلسفية التي كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقا بالمفاهيم الأساسية للعلوم ، لذا من المفيد أن نبدي ملاحظات حول هذه الأفكار من الموقع الذي بلغه العلم الحديث أخيرا في عصرنا. كان أول الفلاسفة العظام في هذه الحقبة الجديدة هو رينيه ديكارت الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر، كانت أفكاره التي وردت في كتابه " مقال في المنهج " تمثل أهمية كبيرة لتطور التفكير العلمي. فقد حاول، مستندا على الشك والاستدلال المنطقي، أن يجد أساسا جديدا تماما، و أرضية صلبة، كما يعتقد النسق الفلسفي. فقد رفض الوحي باعتباره أساسا في ذاته ولم يقبل، دون نقد، ما ندركه بحواسنا ، لذا يبدأ منهجه من الشك. فهو يلقي بشكوكه علـــى مـــا تخبرنا به حواسنا عن نتائج استدلالاتنا ليقدم في النهاية عبارته الشهيرة " أنا أفكر إذن أنا موجود"، ولا أشك في وجودي ذلك لأنه ينبع من حقيقة أنني أفكر"، بعد إثبات وجود الأنا بهذه الطريقة مضى ليثبت وجود الإله على غرار الفلسفة المدرسية. أما وجود العالم فينبع من حقيقة أن الإله قد زودني بميل فطري قوي للاعتقاد في وجود العالم، ومن المستحيل بالطبع أن يكون الإله قد خدعني.
يختلف أساس فلسفة ديكارت اختلافا جذريًا عن مثيله لدى الفلاسفة اليونانيين القدماء، فنقطة الانطلاق هنا ليست مبدا أوليا أو جوهريا، بل هو محاولة لمعرفة أولية. لقد أدرك ديكارت أن ما نعرفه عن عقولنا أكثر يقينا مما نعرفه عن عالمنا الخارجي. بيد أن نقطة انطلاقه الفعلية تكمن في هذا المثلث: الإله - العالم - الأنـــا حيث يوضح بطريقة محفوفة بالمخاطر أساس الاستدلال الذي يؤيد وجهة نظره. لقد تم التمييز بين المادة والعقل أو بين النفس والجسد هذا التمييز الذي بدأ فـــي فلسفة أفلاطون. تم فصل الإله عن الأنا وعن العالم، بدا الإله في الواقع متعاليا في مرتبة أعلى من العالم والناس فهو يبدو في فلسفة ديكارت مجرد طرف يمكن الرجوع إليه ليحدد العلاقة بين الأنا والعالم. على الرغم من أن الفلسفة اليونانية القديمة حاولت العثور على نظام في التنوع اللانهائي للأشياء والأحداث بالبحث عن مبدأ موحد أولى نجد ديكارت يحاول أن يؤسس النظام من خلال ثنائية أولية بيد أن الأجزاء الثلاثة الناجمة عن الثنائية تفقد قليلا من جوهرها إذا ما أخذنا أي جزء منها بشكل منفصل عن الجزأين الآخرين. إذا كان المرء يستخدم المفاهيم الأولية لديكارت، فمن الضروري أن يكون الإله في العالم وفي الأنا، ومن الضروري أيضا عدم الفصل بين الأنا والعالم. كان ديكارت بطبيعة الحال على علم بضرورة هذا الارتباط غير القابل للجدل، بيد أن تطور الفلسفة والعلوم الطبيعية في الفترة اللاحقة على أساس التناقض بين الشيء المفكر" و "الشيء الممتد حيث تهتم العلوم الطبيعية بالتركيز على الشيء الممتد". من الصعوبة بمكان أن نقدر بشكل مبالغ فيه تأثير الثنائية الديكارتية على الفكر البشري في القرون التالية، إلا إن هذه الثنائية، التي سأقوم بنقدها لاحقا، كانت أساس تطور الفيزياء في عصرنا هذا. بطبيعة الحال سيكون من الخطأ القول أن ديكارت، من خلال منهجه الجديد في الفلسفة، قد أعطى اتجاها جديدا في الفكر البشري، فما قام به حقا هو صياغة اتجاه جديد لأول مرة في التفكير البشري الذي شاهدناه خلال عصر النهضة وحركة الإصلاح الديني في إيطاليا، لقد كان هناك إحياء للاهتمام بالرياضيات التي أعربت عن نفوذها المتزايد للمبادئ الأفلاطونية في الفلسفة والإصرار على الدين الشخصي. إن الاهتمام المتزايد بالرياضيات قد لاقى استحسانا باعتباره نسقا فلسفيًا يبدأ من الاستدلال المنطقي في محاولة عبر هذا المنهج الوصول إلى الصدق باعتباره نتيجة رياضياتية يقينية إن الإصرار على الدين الشخصي فصل الأنا عن علاقتها بالإله وبالعالم. وكان الاهتمام بالجمع بين المعرفة التجريبية والرياضيات كما رأينا في أعمال جاليليو Galileo) ربما يعزي جزئيا إلى إمكانية الوصول بهذه الطريقة، إلى معرفة ما يمكن أن تحتفظ ببقائها بغض النظر عن النزاع اللاهوتي الذى أثارته حركة الإصلاح الديني. يمكن صياغة هذه المعرفة التجريبية دون الحديث عن الإله أو عن أنفسنا، وهي تتحيز للفصل بين المفاهيم الثلاثة الأساسية، الإله، والعالم، والآنا، الفصل بين "الشيء المفكر" و" الشيء الممتد". فــــي هذه الفترة كان ثمة اتفاق واضح بين الرواد في العلوم التجريبية على أن ثمة بعض الحالات لا ينبغي مناقشتها كاسم الإله أو العلة الأولى.
من جهة أخري، كان ثمة صعوبات يسهل رؤيتها بوضوح منذ البداية، فعلى سبيل المثال، الفصل بين الشيء المفكر" و "الشيء الممتد نجد ديكارت قد اضطر إلى وضع كل الحيوانات في جانب "الشيء الممتد" لذا لم تختلف الحيوانات والنباتات جذريا عن الآلات، حيث يتحدد سلوكها كلية وفقا للعلل المادية. ولكن يبدو أنه من الصعوبة بمكان أن ننكر تماما وجود نوع من الروح في الحيوانات، كما يبدو لنا أن المفهوم القديم للروح مثلا في فلسفة توما الأكويني كان أكثر طبيعية وأقل تكلفا مقارنة بالمفهوم الديكارتي للـ الشيء المفكر"، حتى لو كنا على قناعـــة بأن قوانين الفيزياء والكيمياء صحيحة بشكل قاطع فيما يتعلق بالكائنات الحية. من بين النتائج التي ظهرت في وقت متأخر أن ديكارت ،قال بأننا لو اعتبرنا ببساطة أن الحيوانات آلات يصعب ألا نفكر بالطريقة نفسها إزاء البشر، من جهة أخرى، لما كان الشيء المفكر" و"الشيء الممتد تم أخذهما على أنهما مختلفان تماما فــــي جوهرهما، يبدو أنه من الصعوبة أن يؤثر أحدهما في الآخر. لذلك، من أجل الحفاظ على التوازي الكامل بين تجارب العقل والجسد، لا بد من أن يكون العقل ونشاطه محكوما تماما بالقوانين التي تتطابق مع قوانين الفيزياء والكيمياء. هنا يطرح مسألة إمكانية "الإرادة الحرة". واضح أن هذا الوصف كان وصفا اصطناعيًا بعض الشيء، ومن ثم تظهر العيوب الجسيمة في الثنائية الديكارتية.
من جهة أخرى، كانت هذه الثنائية في العلوم الطبيعية ناجحة تماما لعدة قرون، فقد بدأت ميكانيكا نيوتن، وكل الفروع الأخرى للفيزياء الكلاسيكية في تشييد نموذجها من افتراض أن المرء يمكنه أن يصف العالم دون الحديث عن الإله أو ذواتنا، بدت هذه الإمكانية بأنها شرطا ضروريا للعلوم الطبيعية بوجه عام. بيد أن الوضع قد تغير فيما يتعلق بهذه النقطة مع نظرية الكم، وبالتالي يمكن أن نأتي الآن إلى مقارنة النسق الفلسفي لديكارت بالوضع الحالي في الفيزياء الحديثة، وقد تم الإشارة من قبل إلى تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، ويمكننا المضي قدما دون الإشارة إلى ذواتنا باعتبارنا أفرادا، بيد أننا لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الإنسان هو من شكل العلوم الطبيعية. إن العلوم الطبيعية ليست ببساطة مجرد وصف وتفسير للطبيعة، إنها جزء من التفاعل بين الطبيعة وذواتنا، فهي تصف الطبيعة بعد ما تتعرض لمنهجنا في الاستجواب، هذا الاحتمال لم يخطر على بال ديكارت البتة، بيد أنه هذا الاحتمال) يجعل الفصل الحاد بين الأنا والعالم أمرا مستحيلا. فإذا تتبع المرء الصعوبة البالغة التي واجهت حتى العلماء البارزين أمثال آينشتين في فهم تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم وقبولها ، سيجد أن جذورها ترجع إلى الثنائية الديكارتية، هذه الثنائية التي اخترقت بعمق العقل البشري خلال القرون الثلاثة التي أعقبت ديكارت وسيتطلب الأمر زمنا طويلا حتى نستبدل بها موقفا مختلفا إزاء مشكلة الواقع. أما الموقف الذي أدي إلى الثنائية الديكارتية فيما يتعلق بال "الشيء الممتد" هو ما يمكن أن نطلق عليه الواقعية الميتافيزيقية، فالعالم، أي الأشياء الممتدة، موجود ويجب أن نفرق بينه وبين الواقعية العملية، ويمكن وصف مختلف أشكال الواقعية على النحو التالي: فالعبارة التي تقول نحن موضوعيون إذا كنا ندعي أن مضمونها لا يتوقف على الشروط اللازمة للتحقق منها". تفترض الواقعية العملية Practical Realism أن ثمة عبارات يمكن أن تكون موضوعية وأن جزءا كبيرا من خبرتنا في الحياة اليومية يشتمل على مثل هذه العبارات. أما الواقعية الدوجماطيقية Dogmatic Realism فتدعي أنه ليس ثمة عبارات تتعلق بالعالم المادي ولا تكون موضوعية. إن الواقعية العملية تظل دائما جزءا أساسيا من العلوم الطبيعية ومع ذلك تظل الواقعية الدوجماطيقية، كما نرى الآن، ليست شرطا ضروريا للعلوم الطبيعية؛ بيد أنها لعبت في الماضي دورا مهما في تطور العلوم؛ بل في الواقع كان وضع الفيزياء الكلاسيكية هو وضع الواقعية الدوجماطيقية. لقد تعلمنا من نظرية الكم أن العلم الدقيق ممكن دون أساس من الواقعية الدوجماطيقية. عندما انتقد أينشتين نظرية الكم انطلق من منطلق الواقعية الدوجماطيقية. إنه موقف طبيعي للغاية، فكل عالم يقوم بإجراء بحث يشعر بأنه يبحث عن شيء ما له صحة موضوعية، إلا إن عباراته لا تعني الاعتماد على شروط يمكن التحقق منها. أما حقيقة أننا نستطيع تفسير الطبيعة في الفيزياء بقوانين رياضياتية بسيطة، فهي تخبرنا أننا نقابل ملمحا حقيقيا من ملامح الواقع، لا شيئا من اختراعنا نحن بكل ما في هذه الكلمة من معنى. هذا هو موقف آينشتين الذي كان يدور في خلده عندما أخذ الواقعية الدوجماطيقية أساسا الطبيعية، في حين أن نظرية الكم، هي في حد ذاتها، مثالاً لإمكانية تفسير الطبيعية بقوانين رياضياتية بسيطة دون هذا الأساس، قد لا تبدو هذه القوانين بسيطة إلى حد بعيد إذا ما كان ثمة مقارنة بالميكانيكا النيوتونية. ولكن انطلاقا من التعقيد الهائل للظواهر التي ينبغي تفسيرها على سبيل المثال، الطيف الخطي للذرات المعقدة)، فإن النظام الرياضياتى لنظرية الكم بسيط نسبيا. في حقيقة الأمر العلوم الطبيعية ممكنة دون أساس من الواقعية الدوجماطيقية. تخطو الواقعية الميتافيزيقية Metaphysical Realism خطوة أبعد مقارنة بالواقعية الدوجماطيقية بالقول إن الأشياء توجد فعليا، هذه هي الحقيقة التي يحاول ديكارت إثباتها عن طريق الحجة القائلة إن الله لا يمكن أن يخدعنا"، وإن العبارة التي تقول إن الأشياء توجد فعليا تختلف عن عبارة الواقعية الدوجماطيقية لوجود للعلوم كلمة "توجد" التي كانت تعنى في عبارة أخرى أنا أفكر إذن، أنا موجود، ولكن من الصعوبة أن نفهم ما المقصود بهذه النقطة التي لم ترد بعد في أطروحة الواقعية الدوجماطيقية؛ وهذا يقودنا إلى نقد عام لعبارة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، الذي يعتبرها ديكارت الأساس الصلب الذي استطاع من خلاله تشييد نسقه، إنهـا حقيقة أكيدة أن هذه العبارة لها يقين النتيجة الرياضياتية، إذا تم تعريف الكلمات أنا أفكر" و "موجود" بالطريقة المعتادة، أو أن نضعها بشكل أكثر حيطة وفي الوقت ذاته أكثر نقدية، إذا عرفنا الكلمات كما في العبارة التالية. لكن هذا لا يقول لنا شيئا عن مدي ما يمكننا استخدامه من مفاهيم "التفكير" و "الوجود" في العثور على طريقنا. إن السؤال حول مدى إمكانية تطبيق مفاهيمنا هو في النهاية سؤال تجريبي بالمعنى العام.
تم استشعار صعوبة الواقعية الميتافيزيقية بعد ديكارت بوقت قصير وأصبحت نقطة الانطلاق للفلسفة التجريبية، المذهب الحسي والوضعي. يمكن اعتبار ثلاث فلاسفة ممثلين للفلسفة التجريبية المبكرة هم لوك وبيركلي و هيوم. يعتقد لوك Locke على عكس ديكارت أن أساس المعرفة في النهاية هو الخبرة. قد تكون هذه الخبرة إحساسا أو إدراكا حسيًا من خلال عملية تقوم بها عقولنا. إن المعرفة كما يقرر لوك، هي إدراك حسي لتوافق أو عدم توافق فكرتين. أما الخطوة التالية فقد تكفل بها بيركلي Berkeley . إذا كانت معرفتنا بالفعل قد اشتقت من الإدراك الحسي، فليس ثمة معنى أن نقول عبارة إن كل الأشياء توجد فعليا. ذلك إذا كان الإدراك الحسي هو مصدرها فلا يمكن أن تقدم أي اختلاف ما إذا كانت الأشياء موجودة أو غير موجودة. لذلك، فكون الشيء مدركا حسيا يعنـي أنــه موجود امتدت هذه الحجة مع هيوم Hume إلى مذهب شكي متطرف حيث أنكر الاستقراء والسببية وتوصل إلى نتيجة تقوض إذا أخذناها بشكل جدي، أساس العلوم التجريبية. إن نقد الواقعية الميتافيزيقية الذي تم التعبير عنه في الفلسفة التجريبية يوجد ما . پبرره بالتأكيد إذا ما أخذناه على أنه تحذير ضد الاستخدام الساذج لمصطلح "الوجود". من الممكن أن نوجه نقذا بالطريقة نفسها إلى العبارات الوضعية لهذه الفلسفة إن إدركاتنا الحسية ليست حزما أولية من الألوان والأصوات ما ندركه حسيا هو بالفعل ما ندركه حسيا باعتباره شيئا، إن التركيز على كلمة "شيء" من الكلمات التي ستكون موضع شك، إذا ما ربحنا أي شيء من
خلال الادراكات الحسية بديلا عن الأشياء باعتبارها عناصر أولية للواقع. أما الصعوبة الأساسية التي تم الاعتراف بها صراحة من قبل الوضعية الحديثة أن هذا الخط من التفكير يعبر عن نقد ضد الاستخدام الساذج لمصطلحات بعينها مثل "الشيء" و "الإدراك الحسي" و "الوجود" ، وذلك بالمسلمة العامة أن ما إذا كان لجملة ما معنى على الإطلاق، هو أمر لا بد من أن يخضع دائما إلى فحص دقيق ونقدي. تستمد هذه المسلمة والاتجاه القابع خلفها من المنطق الرياضياتي Mathematical Logic). يتم تصوير إجراء العلوم الطبيعية باعتبارها مرفقا مــــن الرموز لهذه الظاهرة. يمكن لهذه الرموز أن تتجمع كما في الرياضيات وفقا لقواعد معينة، بهذه الطريقة يمكن أن تكون عبارات للظواهر ممثلة برموز، ومع ذلك فإن مجموعة الرموز تلك لا تمتثل إلى القواعد ليس لكونها خاطئة بل لكونها لا تحمل أي معنى إن الصعوبة الجلية في هذه الحجة هي عدم وجود أي معيار عام نحكـــم من خلاله على جملة ما بأنها بلا معنى إن الوصول إلى قرار نهائي بهذا الشأن أمر مستحيل فقط عندما تكون الجملة تنتمي لنسق مغلق من المفاهيم والبديهيات، وهذا يعتبر في تطور العلوم الطبيعية الاستثناء لا القاعدة تاريخيا كان تخمين جملة معينة تفتقر إلى المعنى قد أدت في بعض الحالات إلى تقدم مهم؛ لأنها فتحت الطريق إلى إقامة علاقات جديدة كانت مستحيلة إذا كانت للجملة معنى. لقد تم بالفعل مناقشة هذا المثال في نظرية الكم حول معنى الجملة القائلة " في أي مدار يتحرك الإلكترون حول النواة ؟" بيد أن المنهج الوضعي بوجه عام مأخوذ من منطق رياضياتي ضيق جدا في وصف الطبيعة يستخدم بالضرورة كلمات ومفاهيم يتم تعريفها بشكل مبهم. لقد أدت الأطروحة الفلسفية التي تقول بأن كل المعارف ترتكز بشكل نهائي على الخبرة إلى مسلمة تتعلق بالتفسير المنطقي لأية عبارة تتعلق بالطبيعة. قد يبدو أن هذه المسلمة وجدت ما يبررها في مرحلة الفيزياء الكلاسيكية، بيد أننا تعلمنا من نظرية الكم أنه لا يمكن التحقق منها. فعلى سبيل المثال تبدو الكلمتان "موضع الكترون ما و سرعة" إلكترون ما محددتان المعنى تماما ومرتبطتان بشكل محتمل وأنهما في حقيقة الأمر واضحتان المعالم في الإطار الرياضياتي للميكانيكا النيوتونية. بيد أنهما في حقيقة الأمر ليسا كذلك وهذا يتجلى بوضوح في العلاقات اللايقينية. قد يقول قائل إن الموضع في الميكانيكا النيوتونية كان محددا تماما، لكن العلاقة بالطبيعة لم تكن كذلك، وهذا يدل على أننا لا يمكننا البتة أن نعرف مسبقا أي قيود سوف نضعها لتكون قابلة للتطبيق على مفاهيم محددة عند توسيع نطاق معرفتنا بمناطق نائية عن الطبيعة لا يمكن اختراقها إلا باستخدام أدوات معقدة للغاية. لذلك نحن ملزمون في عملية الاختراق أن نستخدم أحيانا مفاهيمنا بطريقــــة غير مبررة ولا تحمل أي معنى والإصرار على مسلمة التفسير المنطقي الكامل سيجعل العلم مستحيلاً. تذكرنا الفيزياء الحديثة هنا بالحكمة القديمة التي تقول: إن المرء الذي يصر على التفوه بخطأ عليه أن يصمت".
جرت محاولة للجمع بين هذين الخطين من التفكير، اللذين بدأ مع ديكارت من ناحية و لوك وباركلي من ناحية أخرى، هذه المحاولة جاءت من فلسفة كانط (مؤسس المثالية الألمانية). أما الجزء المهم من عمله في المقارنة بين نتائج الفيزياء الحديثة كان في كتابه "تقد العقل الخالص"، حيث أثار سؤالاً ما إذا كانت المعرفة تتأسس على الخبرة أم إن ثمة مصادر أخرى، ويصل إلى نتيجة مؤداها أن جزءًا من معرفتنا "قبلية ولا يمكن استنتاجها استقرائيا من الخبرة. لذلك، يميز كانط بين المعرفة "التجريبية والمعرفة القبلية"، وفي الوقت ذاته يميز بين "القضايا التحليلية" التي تشتق ببساطة من المنطق والتنكر لها يؤدي إلى التناقض الذاتي و"القضايا التي ليست تحليلية" يطلق عليها "تركيبية" وفقا لكانط، فما هو، إذن، معيار المعرفة "القبلية؟ يتفق كانط على أن كل معارفنا تبدأ من الخبرة، إلا إنه يضيف أن معارفنا لا تستمد دائما من الخبرة. صحيح أن الخبرة تعلمنا أن شيئا معينا لديه خصائص، ولكنها لا تعلمنا كيف يمكن أن تكون مختلفة. لذلك، إذا كانت قضية ما يتم التفكير فيها جنبا إلى جنب مع ضرورتها لا بد من أن تكون قضية: قبلية "، والخبرة لا تعطي البتة أحكاما عمومية كاملة، فعلى سبيل المثال الجملــــة القائلة: تشرق الشمس كل "صباح" تعني أننا لا نعرف أي استثناء لهذه القاعدة في الماضي ونتوقع أن تحتفظ بهذا مستقبلاً. فإذا ما وضعنا حكما ما ذا عمومية كاملة، ولما كان من المستحيل أن نتصور أي استثناء، فلا بد من أن يكون هذا الحكم " قبليا" حتى لو تعلم الطفل الحساب عن طريق لعب البلى، فإنه ليس في حاجة إلى أن يرجع إلى الخبرة لكي يعرف أن 422 المعرفة التجريبية، في أي جهة أخرى، معرفة تركيبية. ولكن هل من الممكن أن تكون الأحكام التركيبية قبلية؟ يحاول كانط إثبات هذا بإعطاء أمثلة تبدو فيها المعيار السابق قد تحقق. فالمكان والزمان، كما يقول، صورتان قبليتان من الحدس الخالص، ويعطى في حالة المكان هذه الحجج الميتافيزيقية التالية :
- المكان ليس مفهوما تجريبيًا، بل هو مفهوم مجرد ينتج عن خبرات أخرى. إن المكان افتراض مسبق يشير إلى أحاسيس لشيء ما خارجي، والخبرة الخارجية ممكنة فقط من خلال صورة المكان.
- المكان صورة قبلية ضرورية، يكمن خلفه كل الإدراكات الحسية الخارجية، ولا يمكن أن نتصور عدم وجود مكان، على الرغم من أننــا يمكن أن نتصور المكان فارغا من أي شيء.
- المكان ليس مفهوما انتقاليًا أو عاما لعلاقات الأشياء بوجه عام، فهناك مكان واحد فقط، وما نطلق عليه "أماكن" هي أجزاء منه وليست شواهد.
- يظهر المكان هنا على أنه حجم لا نهائي معطى، يحمل داخله كل أجزاء المكان، تختلف هذه العلاقة عن علاقة مفهوم ما بأمثلته، وبالتالي المكان ليس مفهوما، وإنما هو صورة حدسية".
لن نناقش هنا هذه الحجج. إنما نذكرها فقط كأمثلة للنموذج العام للدليل الذي وضعه كانط في ذهنه، أن الحجج التركيبية قبلية.
أما بالنسبة للفيزياء فقد أخذها كانط بوصفها قبلية، إلى جانب المكان والزمان، وقانون السببية ومفهوم الجوهر. وقد حاول في مرحلة متأخرة من عمله أن يضم قانون حفظ المادة، والفعل ورد الفعل، بل وحتى قانون الجاذبية. لا أحد من الفيزيائيين لديه الاستعداد لمتابعة كانط فيما يذهب إليه إذا تم استخدام مصطلح قبلي" بالمعنى المطلق الذي أعطاه إياه كانط . وقد اعتبر كانط الهندسة الإقليدية في الرياضيات قبلية، قبل مقارنة معتقدات كانط بنتائج الفيزياء الحديثة علينا أن تذكر جزءا آخر من عمله والذي يتعين علينا الإشارة إليه في وقت لاحق. إن السؤال المثير للجدل ما إذا كانت الأشياء لها وجود فعلى والذي أدى إلى الفلسفة التجريبية، قد ظهر أيضا في نسق كانط، إلا إن كانط لم يحذو حذو باركلي وهيوم، على الرغم من أن هذا يعد أمرا متسقا منطقيا؛ فإنه احتفظ بمفهوم " الشيء في ذاته" باعتباره مفهوما مختلفا عن المدرك الحسي. هذه الطريقة جعلت ثمة نوعا من الارتباط نأتي الآن لمقارنة معتقدات كانط بالفيزياء الحديثة، يبدو لأول وهلة أن مفهومه المحوري هو الأحكام التركيبية القبلية التي تم تقويض دعائمها عبر مع الواقعية.
اكتشافات القرن العشرين لقد غيرت نظرية النسبية نظرتنا عن المكان والزمان وكشفت، في حقيقة الأمر، عن ملامح جديدة تماما للمكان والزمان، والتي لم نرها في صور كانط القبلية للحدس الخالص. لم يعد قانون السببية يطبق في نظرية الكم، ولم يعد قانون حفظ المادة صحيحا بالنسبة للجسيمات الأولية، الواضح أن كانط لـم يكن يتوقع مثل هذه الاكتشافات الجديدة، ولكن كان على قناعة أن مفاهيمه ستكون الأساس للميتافيزيقا التي يمكن أن نطلق عليها علما، فمن الأهمية بمكان أن نرى إلى أي . حد كانت حجته خاطئة.
لنأخذ قانون السببية Law of Causality مثالاً يقول كانط عندما نلاحظ واقعة ما فإننا نفترض أن واقعة ما أخرى سبقتها ونتجت عنها وفقا لقاعدة ما. هذا بالنسبة لكانط، أساس كل عمل علمي. أما أن نجد دائما هذه الواقعة السابقة ينتج عنها الواقعة الأخرى، هو أمر ليس بذات أهمية في هذه المناقشة. بطبيعة الحال يمكن أن نجد العديد من الأمثلة على ذلك، ولكن إذا لم نتمكن من هذا فليس ثمة ما يمنعنا من طرح سؤال عما تكون هذه الواقعة السابقة وتبحث عنها، لذلك فإن قانون السببية نتاج لمنهج البحث العلمي؛ إنه الشرط الذي يجعل العلم ممكنا، ولما كنا نطبق بالفعل هذا المنهج، فإن قانون السببية قانون قبلي و غير مشتق من الخبرة. ولكن هل هذا صحيح في الفيزياء الذرية؟ دعونا نأخذ بعين الاعتبار ذرة الراديوم والتي يمكن أن ينبعث منها شعاع ألفا. كل ما يمكن قوله هو أن متوسط هذا الانبعاث سيأخذ ما يقرب من ألفي عام. لذلك عندما نلاحظ الانبعاث لا نبحث بالفعل عن الواقعة السابقة للانبعاث التي يجب أن تكون وفق قاعدة ما.
منطقيا يبدو الأمر ممكنا إلى حد ما للبحث عن مثل هذه الواقعة، ولكننا لسنا في حاجة إلى أن نتخوف من حقيقة أن أحدا حتى الآن لم يجد مثل هذه الواقعة، ولكن لماذا تغير المنهج العلمي بالفعل في هذا السؤال الأساسي منذ كانط ؟ ثمة إجابتان محتملتان عن هذا السؤال الأولى أن الخبرة أقنعتنا أن قوانين نظرية الكم صحيحة، وإذا كانت كذلك، فنحن على علم أننا لن نجد واقعة سابقة تعلل الانبعاث في وقت معين. أما الإجابة الثانية: هي أننا على علم بالواقعة السابقة، ولكن ليس بشكل دقيق للغاية، فنحن على علم بالقوى في نواة الذرات التي هي مسؤولة عن انبعاث جسیم ألفا، إلا إن هذه المعرفة تتضمن اللايقين الناجم عن التفاعل بين النواة وبقية العالم. فإذا ما أردنا معرفة سبب انبعاث جسيم ما في وقت محدد علينا أن نعرف البنية الميكروسكوبية للعالم ككل بما فيه أنفسنا، وهذا أمر مستحيل. لذلك، لم تعد حجج كانط المتعلقة بالسمة القبلية لقانون السببية قابلة للتطبيق. يمكن أن نقدم مناقشة مماثلة للسمة القبلية للمكان والزمان باعتبارهما صورتين حدسيتين، وسنصل إلى النتيجة نفسها. إن المفاهيم القبلية التي اعتبرها كانط حقيقة لا تقبل الجدل لم تعد متضمنة في النسق العلمي للفيزياء الحديثة، إلا إنها ما زالت تشكل جزءا أساسيًا من هذا النسق بمعنى مختلف بعض الشيء. أكدنا عند مناقشة تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم أننا نستخدم المفاهيم الكلاسيكية في وصف أدواتنا التجريبية، وبشكل عام في وصف هذا الجزء من العالم الذي لا ينتمي إلى موضوع التجربة إن استخدام هذه المفاهيم، بما في ذلك المكان والزمان والسببية، هو في حقيقة الأمر، شرط لملاحظة الوقائع الذرية، وهي قبلية، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. أما ما لم يستطع كانط التنبؤ به، أن هذه المفاهيم القبلية قد تكون شروطا للعلم وفي الوقت نفسه يكون مجال قابليتها للتطبيق محدودا. عندما نجري تجربة علينا أن نفترض تسلسلاً سببيًا للوقائع التي تؤدي إلى الواقعة الذرية الأداة التجريبية؛ وأخيرا عبر عين الملاحظ؛ وإذا لم نفترض هذا التسلسل السببي فلا يمكن أن نعرف شيئا عن الواقعة الذرية. ما زال يتعين علينا أن نضع في اعتبارنا أن الفيزياء الكلاسيكية والسببية لديهما مجالاً محدوداً من القابلية للتطبيق. كانت المفارقة الجوهرية لنظرية الكم هي أن كانط لم يستطع التنبؤ بها. لقد غيرت الفيزياء الحديثة عبارة كانط المتعلقة بإمكانية الأحكام التجريبية القبلية من عبارة ميتافيزيقية إلى عبارة عملية سيكون للأحكام التركيبية القبلية سمة الصدق النسبي. إذا أعاد المرء تفسير القبلية الكانطية بهذه الطريقة، فإنه ليس هناك سبب يدعونا إلى اعتبار المدركات الحسية بدلا من الأشياء، هي خصائص معطاه. يمكن أن نتحدث، كما هو الحال في الفيزياء الكلاسيكية، عن تلك الوقائع التي لا يمكن ملاحظتها بالطريقة نفسها التي نتحدث بها عن تلك التي يمكن ملاحظتها، لذا، فإن الواقعية العملية هي جزء طبيعي من إعادة التفسير. أما إذا نظرنا إلى المفهوم الكانطي الشيء في ذاته هذه العبارة التي لاحظ فايتسيكر أن لها مثيلاً صوريا في الحقيقة على الرغم من استخدام المفاهيم الكلاسيكية في كل التجارب، وبالتالي فإن السلوك غير الكلاسيكي للأشياء الذرية ممكنا. إن الشيء في ذاته وفقًا للفيزيـــائي الذري، إذا ما استخدم هذا المفهوم أصلاً هو في النهاية بنية رياضياتية؛ بيد أن هذه البنية، خلافا لكانط، يتم استنباطها بشكل غير مباشر من الخبرة. ترتبط القبلية في إعادة التفسير هذا بشكل غير مباشر، بالخبرة بالقدر الذي تم تشكيلها من خلال تطور العقل البشري في الماضي البعيد جدا.
تابع البيولوجي لورنتز Lorentz هذه الحجة ذات مرة مقارنا المفاهيم القبلية بأشكال السلوك في الحيوانات والتي يطلق عليها الأنماط الوراثية أو الفطرية وفي حقيقة الأمر، فإن ما هو مقبول تماما أن المكان والزمان بالنسبة لحيوانات بدائية معينة يختلف عما يطلق عليه كانط حدسنا الخالص" للمكان والزمان. فهذا الأخير ينتمي إلى الجنس البشري وليس للعالم المستقل عن الإنسان. بيد أننا ربما ندخل في مناقشات افتراضية إذا اتبعنا هذه الملاحظة البيولوجية عن "القبلية. لقد ذكرتها هنا مثالا للكيفية التي يمكن أن نفسر بها الحقيقة النسبية في ارتباطها بالقبلية الكانطية.
تم استخدام الفيزياء الحديثة هنا مثالاً، أو يمكننا القول، نموذجا للتحقق من نتائج بعض الأنساق الفلسفية المهمة في الماضي، و التي كان من المفترض أن تسري على مجال أوسع. ربما يمكننا عرض ما تعلمناه من مناقشة فلسفة ديكارت وكانط على النحو التالي: ليس ثمة معنى قاطعا حقا لأي من المفاهيم والكلمات التي الماضي عبر التفاعل بين العالم وذواتنا أعني أننا لا نعرف بالضبط إلى أي مدي سوف يساعدنا في معرفة طريقنا في العالم. كثيرا ما نعرف أننا يمكننا تطبيق هذه المفاهيم والكلمات على مجال أرحب من مجالات الخبرة الداخلية والخارجية، بيد أننا عمليا لا يمكننا بدقة معرفة حدود تطبيقاتها، وهذا صحيح حتى بالنسبة لأكثر المفاهيم بساطة وعمومية مثل الوجود" و "المكان" و "الزمان"، لذا قد يبدو مستحيلاً أن يصل العقل لخالص إلى الحقيقة المطلقة.
ومع ذلك فقد تكون المفاهيم واضحة تماما بالنسبة لعلاقاتها. هذا صحيح فعلاً عندما تصبح المفاهيم جزءا من نسق البديهيات والتعريفات التي يمكن التعبير عنها بنسق رياضياتي. ويجوز لهذه المجموعة من المفاهيم المتصلة أن تنطبق على نطاق واسع من الخبرة وهذا يساعدنا على إيجاد طريقنا داخل هذا المجال. لكن تظل حدود القابلية للتطبيق غير معروفة بوجه عام، أو على الأقل ليس بشكل كامل، حتى لو أدركنا أن تحديد معنى مفهوم ما لا يمكن أن يكون دقيقا بشكل مطلق البتة، فإن ثمة بعض المفاهيم تشكل جزءا متمما للمناهج العملية، لأنها تمثل في الوقت الحاضر النتيجة النهائية لتطور التفكير البشري في الماضي، حتى في الماضي البعيد جدا، قد تكون هذه المفاهيم موروثة وتكون، على أيه حال، أدوات لا غنى عنها لإجراء البحث العلمي في زماننا بهذا المعنى تكون هذه المفاهيم قبلية من الناحية العملية. بيد أننا يمكن العثور مستقبلاً على مزيد من القيود لقابليتها للتطبيق.