الواقعية العلمية
المؤلف:
بريجيته فالكينبورج
المصدر:
ميتافيزيقا الجسيمات
الجزء والصفحة:
ص35
2025-10-09
219
تعتبر الواقعية هي وجهة النظر التي يتبناها معظم الفيزيائيين فيما يخص الكيانات الفيزيائية. وهم يفترضون أنهم يبحثون قوى ومجالات مغناطيسية وجسيمات دون ذ رية حقيقية من قبيل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. كما يفترضون مقدمًا أن هذه الكيانات موجودة في الطبيعة داخل معمل الفيزياء وخارجه على حد سواء. وهي في اعتقادهم العلل الحقيقية ومكونات الظواهر الطبيعية والتجريبية، حتى إن كانت النظرية الفيزيائية تصف هذه الكيانات بلغة رياضية تجريدية. يتبنى الفيزيائيون واقعية لا تقبل الشك بشأن الجسيمات دون الذرية حين يقومون بالكشف عن مسارات الجسيمات وتحليلها في تجارب التشتت لفيزياء الطاقة العالية، وحين يفترضون أن هذا الكشف نتيجة للآثار الكهرومغناطيسية على الأجهزة الإلكترونية في تجاربهم. لم تعد فيزياء الجسيمات تبحث في التساؤل عما إذا كانت الجسيمات دون الذرية توجد أم لا، ولكن أي أنواع الجسيمات موجود، وما المكونات الأساسية للمادة والقوى. وعلى سبيل المثال لم يكن من الواضح ما بين عامى 1932و 1956ما إذا كانت فرضية النيوترينو لباولي قد تم افتراضها خصيصا من أجل إنقاذ مبدأ بقاء الطاقة في حالة الانحلال الإشعاعي لبيتا أم ما إذا كان ثمة وجود فعلي للنيوترينو. وفي عام 1956تم تأكيد فرضية النيوترينو عن طريق الانحلال الإشعاعي العكسي لبيتا. وبالمثل لم يكن معظم الفيزيائيين فيما بين عامي 1964و 1974يؤمنون بوجود الكواركات. إذ لم يعتقدوا أن ثمة أجزاء مكونة للبروتون والنيوترون لها شحنات كسرية. وفي عام 1974ومع اكتشاف الجسيم الرنيني 1/4، أصبح المجتمع العلمي لفيزياء الجسيمات مقتنعاً أخيرا بوجود الكواركات. واليوم يقوم فيزيائيو الجسيمات يبحث التساؤل حول ما إذا كان ثمة نظراء على درجة من التماثل الفائق مع جسيمات النموذج المعياري الحالي لفيزياء الجسيمات كما يبحثون عن تأثيرات الجسيمات ذات الكتلة ضعيفة التفاعل (WIMPS) مع الأشعة الكونية ذات الطاقة العالية.
لا يؤمن الكثير من فلاسفة العلم بهذا النوع من الواقعية. وهم يسمونها واقعية علمية في مقابل السجال الفلسفي القديم حول واقعية العالم الخارجي والتي كانت محل شك في تأملات ديكارت ومثالية بيركلي على سبيل المثال. لا ينتاب فلاسفة العلم التجريبيين والأداتيين الشك في واقعية العالم الخارجي. وتنحصر شكوكهم في وجود الأشياء الفيزيائية التي لا يمكن أن تكون موضوعا للإدراك الحسي المباشر. وهم يشكون على وجه الخصوص في وجود الجسيمات دون الذرية. وتتمثل أحدث السجالات الفلسفية بشأن الواقعية العلمية في نمطين من الاعتقادات: الاعتقاد في وجود كيانات فيزيائية غير قابلة للملاحظة (واقعية) الكيانات)، والاعتقاد في وجود بنى في العالم قد تناظرها بشكل تقريبي قوانين الفيزياء الرياضية (الواقعية البنيوية). يدافع الواقعي المتحمس عن وجود القوى المجالات والجسيمات دون الذرية وعن القوانين الحقيقية للطبيعة، على حين يهاجم أعداء الواقعية كل ذلك. من الجلي أن معسكر أعداء الواقعية لا يوجه النقد لصورة النظرية في الفيزياء بوصفها كذلك. هم بالأحرى يوجهون انتقاداتهم إلى التأويل الساذج لتلك النتائج بلغة الحياة اليومية، كما لو كانت القوى والجسيمات دون الذرية واضحة ومتجسدة كما هو الحال مع الطاولات والكراسي. وفي واقع الأمر، الحياة اليومية تؤدي إلى سوء فهم فج.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه فى السجال الأخير حول الواقعية العلمية تظهر المشكلات الفلسفية القديمة متخفية في ثياب جديدة. ففي سياق فيزياء القرن العشرين ثارت تساؤلات جديدة سرعان ما أصبحت متداخلة مع موضوعات فلسفية تقليدية عويصة والجذور الثلاثة الأكثر أهمية لهذا السجال هي كما يلي:
إن السجال حول وجهات النظر الأداتية والواقعية بشأن النظريات الفيزيائية هو جد قديم. تعود جذور المعسكر المعادي للواقعية إلى البدايات الأولى للعلم الحديث ؛ أعني مقدمة أوسياندر لكتاب كوبرنيكوس عن دورات الأجسام السماوية". أوصى أوسياندر بعدم الفهم الحرفي النظرية كوبرنيكوس واعتبارها مجرد أداة مفيدة لصياغة النظرية عن طريق توصيف رياضي لا يدعي لنفسه الحقيقة وجد جاليليو نفسه مضطرا للدفاع عن فيزيائه الجديدة ورؤية كوبرنيكوس للعالم في مواجهة الأداتية والأرسطية في القرن السابع عشر. وبعد ثلاثة قرون، وقفت تجريبية ماخ وأداتية دويم في مقابل ذرية بولتزمان وواقعية بلانك. ثم غذت هذا السجال أطروحة كون عن اللا مقياسية ، مفسحة المجال لظهور البنائية الاجتماعية وما يتصل بها من رؤى ما بعد حداثية للعلم. ومن الواضح أن هذه السجالات القديمة والجديدة تتمحور حول ما إذا كانت الرياضيات والفيزياء بوسعها أن تأتينا بخبر عن الطبيعة.
بدأت التجريبية المنطقية رحلة البحث عن معايير لتحديد التخوم بين المعرفة التجريبية والميتافيزيقا. إن البحث عن مثل هذه المعايير أمر متأصل في الخلاف التقليدي بين التجريبية والعقلانية: إن الأبستمولوجيات التجريبية للوك وهيوم اتخذت من الإدراك الحسي محكّاً لنظرياتنا، بينما قد يكون الإدراك الحسي مضللاً وفقا للاتجاهات العقلانية لدى ديكارت وليبنتز وتتمع الرياضيات وحدها بالمصداقية. تعامل الخلاف التقليدي مع التساؤل الأبستمولوجي عن كيفية اكتسابنا للمعرفة الموثوق بها عن العالم الخارجي أو عـن الحقيقة الموضوعية. ومع ذلك، فبخصوص الواقعية العلمية، يتعارض كلا التقليدين الأبستمولوجيين التقليديين مع المنهج التجريبي للفيزياء الحديثة ومع بنية النظريات الفيزيائية على وجه الخصوص.
يتعامل السجال حول تأويلات نظرية الكم مع حقيقة أن قوانين فيزياء ما دون الذرة تتصادم مع الرؤية الكلاسيكية ذات البنية كاملة الحتمية للواقعية. وهنا يثور التساؤل هل تتعامل نظرية الكم بالفعل مع واقعية موضوعية دون ذرية، أم أنها الوقود المحرك للتجريبية والأداتية؟ تتعارض الآثار الكمية النمطية غير الموضعية مع التفسير الكلاسيكي للواقعية الفيزيائية، والذي يمتد بجذوره حقا في الميتافيزيقا التقليدية. إن النقاش حول تأويلات نظرية الكم يرتبط بشكل جوهري بالخلافات التقليدية حول التجريبية أو العقلانية (بالترتيب الأداتية أو الواقعية)، على الرغم من أن موضوعاتهم في الوقت الراهن غالبا ما تكون منفصلة عن بعضها البعض كلما توغلنا أكثر في التخصص الفلسفي. تندرج حاليا كل من هذه الأنواع الثلاثة من المشكلات في فلسفة العلوم في فئة مختلفة عن الأخرى، على الرغم من أنهم يرتبطون فعليا ببعضهم البعض.
ومن أجل تقصي العلاقات بينهم سوف أعطي ملخصا للسجال حول الواقعية العلمية وهو ما سوف يوسع بشكل عمدي من نطاق هذا البحث. سأحاول أن أفض الاشتباك بشأن موضوع السجال بداية من الزعم بوجود عدم انسجام بين الفيزياء والفلسفة أبستمولوجيا، لا تستطيع التجريبية مجاراة مناهج فيزياء القرن العشرين بينما على المستوى الأنطولوجي، لا تتمكن الميتافيزيقا التقليدية من مواكبة بنية نظرية الكم قام مؤسسو التجريبية المنطقية بتجاهل القضية الأولى، المشكلة التقليدية في سعيهم نحو التمييز بين العلم التجريبي والميتافيزيقا. ومع ذلك فقد غض الكثير من المدافعين عن الواقعية العلمية الطرف عن القضية الثانية، المشكلة الجديدة في دفاعهم عن واقعية ما دون الذرة.
اعتمد كارناب ورایشنباخ على نظريات النسبية والكم حينما وجهوا انتقاداتهم لكل المفاهيم القبلية بوصفها ميتافيزيقية. ودافعوا عن نظرية للتحقق في المعنى واقترحوا إعادة تأسيس المحتوى التجريبي للنظريات الفيزيائية لجعلها خالية من أي افتراضات ميتافيزيقية إلا أنهم في سعيهم لذلك تجاهلوا حقيقة أن المناهج التجريبية للفيزياء منذ تجربة جاليليو وحتى الآن قد تشعبت وغيرت بشكل دراماتيكي من فهمنا للمعرفة التجريبية؛ حيث ينحاز استخدام أجهزة الملاحظة والقياس إلى فهم حر وتعميمي للدليل في الملاحظة والتجربة فما يعول عليه في الفيزياء هو نتائج القياسات وليس المعطيات الحسية من هنا أثارت التجريبية المنطقية الأسئلة التالية ما المعرفة التجريبية من وجهة نظر مناهج الفيزياء الحديثة؟ وأين تنتهي حدود العلم التجريبي لتبدأ الميتافيزيقا، وفقا لهذا النمط من المعرفة؟ ونظراً إلى أن ما ثار مؤخرًا من سجال حول الواقعية العلمية نتيجة لهذه الأسئلة الأبستمولوجية، فهو إرث الوضعية المنطقية في القرن العشرين فقرة . وفي واقع الأمر فإن المواقع الأساسية الحالية في هذا السجال هي نتيجة لترسيم الحدود بين ما هو تجريبي في مقابل ما هو ميتافيزيقي بأشكال مختلفة. تعتبر الواقعية الشاملة الساذجة - أن كل البنى الرياضية للنظريات الفيزيائية لها نظير في الواقع. ولا تؤمن البنائية بأي شيء مؤسس على الأدوات الرياضية والأجهزة التقنية.
وفيما بين الموقفين تتعدد مواقف الواقعية النقدية والتجريبية المعتدلة والتجريبية الصريحة فقرة يناضل السجال من أجل التوصل لمعايير أبستمولوجية تساعد في تحديد أي من مفاهيم النظريات الفيزيائية تصف شيئًا واقعيًّا، وأيها ليس كذلك. من الممكن أن نجد معياراً مستقلاً لما نعرف أنه حقيقي، معيار لا يعتمد على نظرياتنا الفيزيائية ولا على معتقداتنا الميتافيزيقية؟ تتم تسوية هذه المسألة في حدود الحوادث الفيزيائية التي تحدث بالفعل وفق أجهزة القياس. وتعد المصادفة هنا السمة المميزة أبستمولوجيا وعند هذه النقطة يأتي دور المشكلات الأنطولوجية (أو الميتافيزيقية) التي أثارتها نظرية الكم. إن الحاجة إلى نظرية الكم من أجل تفسير الحوادث العارضة ونتائج القياسات لفيزياء ما دون الذرة حقيقة أولية، إلا أن نظرية الكم تتعارض مع ذلك النوع من الواقعية الذي طالما تم الدفاع عنه لقرون؛ أعني الواقعية الكلاسيكية. فالمعنى التقليدي للواقعية يتحدد من خلال أشياء فيزيائية لها خصائص محددة كليًّا وقوانين حتمية للطبيعة والميتافيزيقا الداعمة هنا هي فكرة أن الأشياء الفيزيائية هي أشياء أشبه بالجواهر الأرسطية، أو الأفراد، واعتبار القوى العلية كخصائص ديناميكية. تخبرنا نظرية الكم مع ذلك أن الواقعية الفيزيائية ليست مؤلفة من جواهر مثل هذه ونوع الواقعية الذي يوضع تحت التمحيص هنا هو الميتافيزيقا الكامنة خلف الفيزياء الكلاسيكية. ومن أجل رؤية ما يتبقى منها من جانب نظرية الكم، يجب فحص الافتراضات الميتافيزيقة وغير التجريبية في الفيزياء. لقد اتضح أن بعضا منها لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة إلى الفيزياء، حتى إن بدا أن نظرية الكم على خلاف معها . ختاما يتم اقتراح واقعية الخصائص الفيزيائية المؤسسة على مقاييس الكميات الفيزيائية. إنها قوية بما يكفي من أجل دعم المناهج الرياضية والتجريبية للفيزياء، ولكنها أضعف من أن تكون متوافقة مع بنية نظرية الكم .
الاكثر قراءة في ميكانيكا الكم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة