أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-05-26
941
التاريخ: 2-06-2015
1859
التاريخ: 2024-08-07
436
التاريخ: 10-10-2014
2185
|
لقد بدأت القصةُ على النحو الآتي :
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}
{إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا }
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى }
بعد هذه البداية القصصية واصل النص حديثه عن موسى (عليه السلام) وفق تسلسل زمني هو : تكليمُ موسى (عليه السلام) ، وإصدار الأمر إليه بالذهاب إلى فرعون .
إلى هنا فإن القصة تأخذ تسلسلها الزمني . . .
لكن النص يقطع سلسلة الأحداث ، ويرتد بنا إلى أحداث ما قبل البحث عن النار ، إلى الأحداث الاُولى من حياة موسى (عليه السلام) أحداث إلقائه في التابوت مع إشارة عابرة إلى نجاته من اليم ، وقتله للنفس ، ولبثه في مدين .
ثم يعود النص من جديد إلى النقطة التي قطعها ويواصلُ سرد الأحداث المتصلة بموسى (عليه السلام) وعلاقته بفرعون .
إن هذا التقطيع لأجزاء القصة ، وكسر وحدتها الزمنية من خلال الاسترجاع والاستباق ينطوي على أسرار فنية يتعين الوقوف عندها ، لملاحظة الصلة بين أهداف القصة وطرائق صياغتها .
* * *
لقد بدأت القصةُ من حيث خُتمت حياة عادية لموسى (عليه السلام) حياة يحياها سائرُ البشر دون أن يُوشحها حادث خطير له تميزه العبادي .
وبالرغم من أن طفولة موسى (عليه السلام) قد اقترنت مع واقعة التابوت الذي سنتعرض لتفصيلاتها بعد قليل . . . بالرغم من هذه الواقعة التي يُوشحها المعجز ، وبعض الحوادث أو المواقف المرتبطه بعصاه وسواها إلا أن حياة موسى (عليه السلام) مضت في حركتها العادية لحين انتهائها بواقعة البحث عن النار . وهي الواقعةُ التي بدأت القصةُ بها .
وتتمثل بساطةُ أو عاديةُ هذه الواقعة التي خُتمت بها حياةُ موسى (عليه السلام) في اصطحابه إمرأته ـ بعد أن غادر مَدْيَن ـ حيث جاءها الطلق ، وحيث احتاج إلى النار للتدفئة أو للاستدلال بها على الطريق ، بعد أن كانت الرحلة في ليل مظلم أضل موسى (عليه السلام)فيها الطريق .
هذه الواقعة المتسمة بما هو عادي ومألوف من حياة البشر ، قد خُتمت بها حياةُ موسى (عليه السلام) في شطرها الأول ، لكنما قد بُدئ بها في القصة ، لتكون فصلاً بين حياة عادية وحياة خطيرة تنتظر موسى (عليه السلام) ، ألا وهي : حياة النهوض بمهمة لرسالة .
وفعلاً ما أن بدأ النص بسرد واقعة البحث عن النار ، حتى وصلها بحادثة التكليم : تكليم السماء لموسى :
﴿فَلَما أَتاها ]أي : النار التي يبحث عنها[ نُودِي : يا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ. . .﴾
إذن خُتمت حياه عادية ، وبدأت حياة خطيرة من خلال حادثة البحث عن النار .
هذه الخاتمةُ خاتمةُ حياة عادية وهذه البدايةُ بدايةُ حياة خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتناول نصاً فنياً يتحدث بلُغة القصة عن شخصية موسى (عليه السلام) ، حيث تجيء صياغة هذه الخاتمة وهذه البداية من الحياة ، بداية قصصية لها دلالتها الفنية في السرد القصصي .
هذه البداية القصصيةُ إذن لها مغزاها الفني مادامت تُحسسُنا بأنـنا حيال عهد جديد له خطورته التي ما بعدها من خطورة ، ألا وهي : الاضطلاع برسالة السماء .
إنها حين تبدأ بما هو خاتمة لحياة عادية ، إنما تُلفت أنظارنا إلى ما هو إعلان لحياة غير عادية .
ومما لا شك فيه ، أن حادثة النهوض بالرسالة كان من الممكن أن تجيء هي البداية القصصية مادامت تشكل أهم حادث في رحلة الكائن الآدمي . إلا أن سبقها بحادثة البحث عن النار أكسب القصة بُعداً فنياً له خطورته ، حيث افصحت هذه البدايةُ عن انتهاء المرحلة العادية من حياة موسى ، وحيث أفصحت ـ وهذا بُعد فني آخر ـ عن أن معطيات السماء التي لا حدود لها قد استثمرت نشاطا عادياً ـ من حيث مستواه العبادي ـ لتهيئ للشخصية نشاطا غير اعتيادي مادامت الشخصيةُ المذكورة قد التزمت بمبادئ السماء في سلوكها المألوف ، ومنه : العنايةُ بكائن آخر من خلال البحث عن النار لأهله .
لقد بدأت قصة موسى (عليه السلام) بواقعة البحث عن النار ، حيث أوضحنا أهمية مثل هذه البداية القصصية التي تمثل خاتمة لحياة عادية ، وبداية لحياة جديدة أوكلتها السماء إلى موسى (عليه السلام)ليضطلع بمهمة الرسالة .
وها هي الحياة الجديدة ترسمها القصةُ لنا على النحو الآتي :
{فلما أتاها ]أي : النار[ نُودي : يا مُوسى}
{إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المُقدس طُوى}
{وأنا اخترتُك فاستمع لما يُوحى﴾
{إنني أنا اللهُ لا إله إلا أنا فاعبُدني وأقم الصلاة لذكري}
{إن الساعة آتية أكادُ أُخفيها لتُجزى كُل نفس بما تسعى}
{فلا يصُدنك عنها من لا يُؤمنُ بها واتبع هواهُ فتردى}
لقد ذهب موسى باحثا عن النار بُغية الدفء لأهله ، وبغية الاهتداء بها عندما ضل طريقة .
ولم يدُر بخلده أن هذه الرحلة نحو الدفء والاضاءة ستفاجئُه بحدث خطير كل الخطورة ، حيث تعوضه عن الدفء والاضاءة الفرديتين بدفء وإضاءة اجتماعيتين يضطلع من خلالهما بأكبر مهمة خلافية على الأرض ، في حينه قد اختارتها السماء لصفوة من البشر ، هم : الأنبياء والرسل .
هذه المهمة العبادية قد أوكلتها السماءُ لموسى على نحو له خطورته الكبيرة أيضا من حيث طريقة الإيكال ، فيما تحدثت السماء مباشرة مع موسى وكلمته تكليما دون واسطة .
وتقول النصوص المفسرة : إن النداء قد سُمع من الشجرة التي كان قد توجه نحوها عبر بحثه عن النار ، وإن النار كانت تتوقد أعلى الشجرة ، فيما يُسمعُ أيضا تسبيحُ الملائكة ، وفيما يُرى نور عظيم . . . وتُضيف بعض النصوص المفسرة ، إلى أن الخُضرة لم تكن لتطفئ النار ، ولا النار لتطفئ الخضرة . . . حيث تساهم مثلُ هذه البيئة المعجزة في ترسيخ اليقين لدى موسى بحقيقة الموقف المفاجئ .
هذه البيئةُ الإعجازيةُ : النورُ ، الخُضرةُ ، تسبيحُ الملائكة ، . . . إلى آخره ، قد أردفها النص ببيئة معجزة نسجتها السماء من ممتلكات موسى نفسه . . . من أشيائه التي يصحبُها ، بل من الأشياء التي لم يتوقع أن تكون بصُحبته . . . من الأشياء التي لم يتوقع أنها كانت من ممتلكاته . . .
إنها : العصا ، واليد . . .
ولكن أية عصا ؟ وأية يد ؟
لنقرأ النص القصصي :
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}
{قال : هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}
{ وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}
{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}
{قال : أَلْقِهَا يَا مُوسَى}
{ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}
{قال : خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى}
إن النور ، والخضرة ، وتسبيح الملائكة ، والعصا . . . وقد انقلبت حية تسعى . . .
ثم اليد وقد أضاءت مثل الشمس أو القمر أو أشد إضاءة . . . مُضافا إلى نداء السماء ذاتها وما يحف به من رهبة وجلال . . . كل ذلك يُشكل بيئة قصصية مشحونة بعناصر الجمال المُدهش ، والمُثير ، والمُعجز . . . فيما يتحسسها المُتلقي بوضوح ، حيث تُشيع فيه أحاسيس الجمال والفن . . . في ذات الآن الذي تُشيع فيه مشاعرُ الجلال والرهبة . . . وفي ذات الآن الذي ترفده بأفكار وقيم ومعان عن الحياة ووظيفتها العبادية ، ودعم السماء لأوليائها . . . إلى آخره .
إن هذه البيئة القصصية تزداد نصوعا في أذهاننا حينما تمدنا التفاسيرُ المأثورةُ بمزيد من التفاصيل عنها ، حيث اختزلها النص وترك للمُتلقي بأن يمارس عملية الكشف بنفسه ، ليُثري بذلك عُنصر الإمتاع الفني لديه .
إن عنصر الإمتاع الفني نتحسسه بوضوح في تفصيلات البيئة القصصية المذكورة بأكملها . . .
فالعصا مثلا تقول القصةُ عنها : إنها كانت مُتوكئاً يعتمد عليه موسى في مشيه .
كما كانت وسيلة يخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمُهُ . فضلا عن إنها كانت وسيلة يعتمد عليها في حاجات اُخرى .
ولقد أبهم النص القصصي من جانب تفصيلات هذه الرحلة التي يقوم بها موسى . . . كما أبهم أهدافها مُكتفيا من ذلك بالإشارة إلى أنه مُسافر فحسب . ثم أبرز من بيئة السفر بعض عناصرها ، ومنها : العصا .
وحتى العصا أبرز بعضا من وظائفها . . . وأبهم البعض الآخر ، حيث أبرز مهمتها في التوكؤ عليها مشيا ، وفي الخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم . . . ثم أبهم النص وظائف العصا الاُخرى ، ولمها في فقرة مُركزة هي : ﴿مآربُ اُخرى﴾ يحققها موسى من هذه العصا .
وهكذا سائر مفردات البيئة الاُخرى التي أبرز النص القصصي بعض تفصيلاتها من جانب وحذف البعض منها من جانب آخر ، ثم أبهم البعض منها من جانب ثالث .
ومما لا شك فيه أن لكل إبهام أو اختزال أو حذف من هذه العناصر سببا فنيا يستهدفه النص القصصي ، يستطيع المتلقي بأدنى تأمل أن يستكشف ذلك إذا توفرت لديه ذائقة فنية في حقل الأدب القصصي أو مطلق الأعمال الأدبية التي تتطلب توفر مثل هذه الذائقة الفنية ، حتى يتحسس المتلقي خطورة هذه الأعمال ، وما تستبطنه من أهداف فكرية يتضخم تأثيرها ـ دون أدنى شك ـ من خلال لُغة الفن .
قلنا : إن النص القصصي قد أبرز من بيئة القصة عنصر العصا . وأبرز بعضا من وظائفها متمثلة في التوكؤ عليها ، وفي خبط ورق الشجر بها لترعاه غنمُه . ثم أبهم وظائفها الاُخرى مكتفيا من ذلك ، بقوله ـ على لسان موسى (عليه السلام) ـ :
{ولي فيها مآربُ اُخرى}
ويحسن بنا الآن أن نتعرف على هذا العنصر البيئي وما يواكبه من الأسرار الفنية وراء عمليات الاختزال والإبهام والتفصيل للعصا .
* * *
إن أول تفصيل ذكرته القصةُ عن العصا ، هو أنها كانت وسيلة يعتمد عليها في رحلته المجهولة . ولقد أبهم النص أهداف هذه الرحلة التي قام بها موسى (عليه السلام) .
وبين من خلال البداية القصصية التي تحدثنا عنها سابقا ، أن النص كان في صدد التمهيد لإبراز قضية النهوض برسالة السماء ، وليس في صدد الحديث عن حياة موسى السابقة ، إلا بما له صلة بأفكار القصة لاحقا .
ومن هنا ينتفي المُسوغ للحديث عن الرحلة من حيث بداياتها ، حيث ينحصر المسوغ في تحديد بعض معطياتها التي تحدثنا عنها متمثلة في البحث عن النار بغية التدفئة لزوجته التي داهمها الطلق ، وبغية الإفادة منها في تحديد معالم الطريق .
وحيث قد انتفى المسوغُ لذكر الرحلة التي قام بها موسى إلا في نطاقها المحدد المذكور . . . حينئذ ينتفي المسوغ لتفصيلاتها وتبقى الحاجةُ من ثم إلى رموز فنية تتحدث عن وجود رحلة فحسب ، وليس عن تفصيلات لهذه الرحلة .
من هنا جاءت العصا لتُشير من خلال رموزها الفنية إلى مستويات هذه الرحلة ، حيث نستكشف فنيا أن هذه الرحلة طويلة المدى ، بدليل أن موسى (عليه السلام) يحتاج من خلالها إلى عصا يتوكأ عليها في مشيه لمسافة طويلة ، وإلا لانتفت الحاجةُ إليها في المسافات القصيرة عادة .
ومما يدعم ذلك أيضا ، هو أن الوظيفة الثانية للعصا تكشف عن طول الرحلة واستمراريتها . فالوظيفة الثانيةُ للعصا تتمثل في أنها قد استخدمت للهش بها على الغنم : يخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم .
وهذا يعني أن موسى (عليه السلام) قد صحب الغنم .
واصطحاب الغنم لا يتحقق إلا في رحلة طويلة ذات استمرار .
مضافا إلى ذلك فإن الوظيفة الثالثة التي أبهمها النص ، تكشف بدورها عن طول الرحلة واستمراريتها .
فقد قال النص ـ على لسان موسى ـ عن الوظيفة الثالثة للعصا :
{ولي فيها مآربُ اُخرى}
فلقد أبهم النص هذه المآرب الاُخرى للعصا ، لكن التفسير المأثور أوضح جانبا من هذه الحاجات ، حيث نقل لنا أن موسى كان يحمل عليها زاده .
وواضح أيضا أن حمل الزاد لا يتحقق إلا لمُسافر . وأشارت التفاسير إلى بعض الظواهر الإعجازية التي رافقت العصا حتى قبل هبوط الرسالة على موسى ، حيث ذكرت أن موسى كان يضرب بها الأرض فيخرج منها ما يأكله ، ويركزها فيخرج منها ما يشربه .
وأضافت النصوصُ المفسرةُ إلى ذلك ، إلى أ نه كان يحارب بها السباع ، ويستضيء بها في الليل ، ويحني بها رؤوس الشجر ، بل وكانت تحدثه وتؤنسه في الدرب .
كل هذه الوظائف للعصا تنم عن أن الرحلة كانت استمرارية تمتد في الليالي والأيام .
* * *
البُعد الآخر لهذه الرحلة ـ فيما نستكشفها من الرموز الفنية للعصا ـ هو أن الرحلة كانت في الصحارى والغابات الصحراوية ، حيث أن مطاردة السباع ، ورعي الأغنام ، وتفجير العيون ، واستخراج الأكل ، لا يتم عادة إلا في الصحارى وغاباتها .
* * *
مما يمكن أن نستخلصه فنيا ـ من العصا ووظائفها وطبيعة شكلها وما واكب ذلك ـ من خلال النصوص المفسرة ، أن العصا من حيث أصلها هي من آس الجنة ، أخرجها آدم (عليه السلام) وتوارثها الأنبياء إلى أن بلغت شُعيبا (عليه السلام) فدفعها إلى موسى .
ومن حيث شكلها تقول النصوص المفسرة : إن طولها كان عشرة أذرع .
وأيا كان الأمر ، فإن العصا بكل رموزها الفنية تمثل من حيث المصدر والوظيفة شريحة من عنصر البيئة الجمالية التي رسمتها القصة .
وقد واكب ذلك ، أن رسم العصا قد اقترن بنمطين من الرسم ، أحدهما : رسمها بملمح مألوف من حيث كونها مجرد عصا يتوكأ عليها ، ويُهش بها على الغنم ، ويحارب بها السباع . . . إلى آخره .
والآخر : رسمُها بملمح مُعجز ، من حيث أصلها : آس الجنة ، ومن حيث مصدرها : توارثها الأنبياء ، ومن حيث وظيفتها : تفجير المياه ، واستنبات الأكل ، وإحناء رؤوس الشجر .
بيد أن هذا الملمح المعجز لم يرسمه النص ، بل تكفلت النصوص المفسرة بتوضيحه .
وهذا على العكس من الملمح المعجز الذي سيواكب رسالة موسى ، حيث يترافق رسم المعجز مع رسم الرسالة .
لقد كانت العصا عصا موسى (عليه السلام) ـ فيما لحظنا ـ ذات وظائف متنوعة ، بعضها
يتصف بما هو مألوف وعادي ، وبعضها يتصف بما هو مُدهش ومعجز .
فالتوكؤ عليها ، والهش بها على الغنم ، ومطاردة السباع بها . . . إلى آخره ، تمثل ما هو مألوف وعادي .
أما تفجير المياه بها ، واستخراج الأكل وإحناء الشجر ، . . . إلى آخره ، فتمثل ما هو مُدهش ومعجز .
بيد أن ما هو مدهش ومعجز من العصا ، إنما يأخذ فاعليته الأشد دهشة واعجازا مع زمان الرسالة بدء من لحظات التكليم تكليم السماء لموسى ، مرورا بقضية موسى مع السحرة ، وانتهاء بالأزمنة اللاحقة لنبوة موسى(عليه السلام) .
ويعنينا الآن من ذلك ، أن نتحدث عن فاعلية العصا في لحظات التكليم ، وهي تمثل المرحلة الثانية من الفعاليات .
يقول النص القصصي ـ بعد أن سألت السماءُ موسى عما في يمينه ، وبعد أن أجابها بأنها عصاه التي يتوكأ عليها ، ويهش بها على الغنم ، وأن له فيها مآرب اُخرى ـ يقول النص بعد ذلك مطالبا موسى بأن يُلقيها في تلك اللحظات لحظات التكليم :
{قال : ألقها يا مُوسى}
{فألقاها فإذا هي حية تسعى}
وطبيعيا فإن ما هو مدهش ومعجز حقا يأخذ فاعليته الشديدة عندما يُفاجأُ موسى بما لم يدُر في حسبانه ، وهو انقلاب العصا إلى حية تسعى . حيث أن عنصر المفاجأة يسهم في تصعيد الدهشة والانبهار . أما إذا ألفت الشخصيةُ ملاحظة المعجز ، فحينئذ يضمر حجم الاستجابة لديها ، وتعوض عنصر التخوف أوالدهشة المقرونة بالتوجس بعنصر آخر ، هو الدهشة المقرونة بما هو عميق ومتغلغل من إيمان الشخصية بقدرات السماء التي لا حدود لتصورها .
من هنا لم يتكرر عنصر التوجس والتخوف لدى موسى ، عندما انقلبت عصاه إلى حية تسعى ، بل تلقف ما صنعه السحرة . . . لم يتكرر لديه هذا التوجس والتخوف بسبب من اُلفته للظاهرة المعجزة وتغلغُل إيمانه بقدرات السماء ، حيث يتحقق ذلك من خلال التأمل المستأني ، وليس من خلال المفاجأة التي تتطلب بعض الوقت ، لحين تحقق فاعليتها .
وهذا ما لحظناه فعلا في طبيعة استجابة موسى عندما فوجئ بانقلاب العصا حية تسعى .
فالنصوص المفسرة تقص لنا بأن موسى (عليه السلام) قد حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، ويمر بالصخرة مثل الخلفة - أي الحامل ـ من الإبل فيلقمها ، وتطعن أنيابه في أصل الشجرة فتجتثها ، وعيناه تتوقدان نارا .
وحيال مثل هذا المرأى المفاجئ ، نجد موسى وقد ولى مدبرا ولم يُعقب ، لكنه بعد لحظات عندما ضمر عنصر المفاجأةُ وسمح الوقتُ له باستعادة توازنه الداخلي . . . عندها تذكر أنـه حيال السماء التي لا حدود لقدراتها العظيمة . . .
وعندها ذكر الله فوقف استحياء منه .
ومع ذلك فإن الخوف الشديد لا يزال يلازمه من المرأى المدهش المُعجز . . .
فالسماء ـ وهي تحيط بكل شيء علما ـ قدرت مبلغ الاستجابة الخائفة لدى موسى ، فشجعته ـ تبعا لذلك ـ مطالبة إياه بعدم الخوف ، مُطمئنة إياه بأن السماء ستعيد الحية إلى حالتها الاُولى : العصا .
{قال : خُذها ولا تخف سنُعيدُها سيرتها الأُولى}
وتقول النصوص المفسرة : إن موسى (عليه السلام) كانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال . فلما أمره سبحانه بأخذها ، أدلى طرف المدرعة على يده . فقال : ما لك يا موسى ؟ أرأيت لو أذن الله بما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟
وعندها أقر موسى بضعفه .
ثم كشف عن يده ووضعها في فم الثعبان ، فإذا هي في ذات الموضع الذي كان يتوكأ ـ من خلاله ـ على عصاه .
إن هذا النمط من الاستجابة يكشف لنا عن طبيعة الخوف الإنساني بعامة ، وإلى أ نه استجابة طبيعية جدا .
بيد أن السماء أرجعت كل شيء إلى مكانه عندما أفهمت موسى (عليه السلام) أنها مالكة لناصية الاُمور كلها ، وإلى أنها لو لم تتدخل في الأمر لما كانت المدرعةُ تغني عن موسى أي شيء .
* * *
وبعامة ، ستأخذ العصا بعد هذه الواقعة مرحلة جديدة من الفعالية ، حيث يطالب النص القصصي مُوسى بأن يذهب إلى فرعون ويحتج عليه بأدلة عقلية وتجريبية ، ومنها تجربة العصا ذاتها ، فضلا عن تجربة اليد البيضاء .
وكما نعرف جميعا فإن العصا لعبت دورا كبيرا في الانقلاب الفكري لدى السحرة أنفسهم وهم طرف المخاصمة في هذا الموقف ، حيث اُلقي السحرةُ ساجدين .
من هنا نفهم القيمة الفنية لرسم ظاهرة العصا التي امتدت بوظائفها منذ الوهلة التي تسلمها موسى من شعيب ، وحتى اللحظة التي أحدثت الانقلاب الفكري العظيم لدى السحرة . . . ممتدة بوظائفها إلى أزمنة لاحقة من حياة موسى .
* * *
وإذ ننتقلُ من رسم البيئة في قصة موسى (عليه السلام) إلى رسم الموقف فيها ، نجد أن القصة في فصلها الأول الذي مُهد له بقضية البحث عن النار ، واستهله بقضية التكليم . . . هذا الفصل قد استهله بموقف هو : اصطفاء موسى للنهوض بالرسالة .
ويلاحظ أن الدلالة العبادية في هذا الموقف قد صاحبها التشددُ على إبراز معاني القداسة والصفاء والطهر والتوجه النقي نحو السماء .
فأول ما طالب النص به ، هو خلع النعل ، ومن ثم الإشارة إلى قداسة الوادي الذي يضم موسى (عليه السلام) .
{فاخلع نعليك إنك بالواد المُقدس طُوى}
ثُم تلا ذلك المُطالبة بالعبادة وممارسة الصلاة ، من خلال التشدد على أحد مستوياتها المتمثلة في إقامتها أي وقت تذكرها فيه .
ثم تبع ذلك الإشارة إلى موعد الساعة وإخفاء الموعد عن الآخرين ، وكونها موعدا لثواب الأعمال وعقابها .
وحين نتابع هذا الموقف نجد أن جواب موسى للسماء ، قد صاحبته أيضا أمثلةُ تلك الدلالات العبادية ، فموسى (عليه السلام) عندما طلب من السماء أن تعينه في النهوض
بالرسالة ، علل هذا الطلب بقوله :
{كي نُسبحك كثيرا ونذكُرك كثيرا}
فالتسبيح والذكر يشكلان دلالات عبادية توازن المطالبة بذكر الله من خلال الصلاة وسواها من الممارسات التي تحمل دلالة الطهر والقداسة والتوجه نحو السماء .
ونتابع هذا الفصل القصصي ، فنجد أن الموقف فيه قد تضمن طلب الدعم من السماء للنهوض بالرسالة ، ليس من خلال نتائجها العبادية فحسب ، بل من خلال وسائلها التي تتطلبها طبيعةُ الموقف السياسي الذي يواجه به طاغية العصر ، فرعون .
{قال : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري}
{واحلُل عُقدة من لساني يفقهُوا قولي}
{واجعل لي وزيرا من أهلي هارُون أخي}
{اشدُد به أزري وأشركهُ في أمري}
إن هذا الحوار حوار موسى مع السماء يتضمن جملة من مُلابسات الموقف ، بما يتطلبه من إعداد نفسي ومادي لمواجهة العدو، مسبوقا بالدعم أساسا .
فقد طلب موسى أولا ، أن تمنحه السماء قدرة الصبر على الشدائد وتيسير المُهمة :
{اشرح لي صدري ويسر لي أمري}
تلا ذلك طلبُه من السماء أن تزيح عنه عُقدة اللسان ، مادام الموقف يتطلب مهارة كلامية ، بُغية إيصال الحقائق إلى العدوبوجهها الأكمل :
{واحلُل عُقدة من لساني يفقهُوا قولي}
تلا ذلك طلبُه من السماء ، أن ترسل معه أخاه هارون ، ليُساعده في تحقيق المُهمة .
أكثر من ذلك طلب موسى من السماء ، أن تجعل من هارون ليس مجرد وزير يستعين به في تحمل المسؤولية ، بل طلب من السماء أن تُحمل هارون مسؤولية النبوة ذاتها . لأن تحميله مسؤولية النبوة يجعله أشد حرصا على تحقيق المُهمة الخلافية :
{أشركهُ في أمري}
وإزاء هذا الطلب حققت السماء لموسى اُمنيته ، قائلة له :
{قد أُوتيت سُؤلك يا مُوسى}
ولسوف نرى أن تحقيق الطلب لموسى يرتبط ليس بما يتطلبه الموقف من الإعداد النفسي والمادي فحسب ، بل بمواقف سابقة ولاحقة تُلقي بعض الإنارة على هذا الجانب .
أما المواقف اللاحقة ، فستتمخض عن طبيعة التعامل الذي سيواجه هارون عندما يخلفه موسى على القوم عشية ذهابه إلى الميقات على النحو الذي سنفصله .
وأما المواقف السابقة ، فتتصل بطبيعة العقدة اللسانية لدى موسى ، حيث يرتبط طلب إزالة هذه العقدة بتعامل فرعون مع موسى في طفولته .
فالنصوص المفسرة تروي لنا : إن فرعون عندما أوتي موسى إليه ـ بعد حادثة إلقائه في اليم ـ أراد قتله عندما عبث موسى بلحية فرعون ، وعندها تدخلت آسية بنت مزاحم في الأمر موضحة لزوجها فرعون أن صنيع موسى بفرعون إنما هو ناجم من كونه طفلا غير مميز .
ولكي تثبت آسية هذه الحقيقة لفرعون ، أتت إليه بجمرة ودرة ، فهم موسى بتناول الدرة لولا أن تدخل جبرئيل فصرف يده نحو الجمرة ، فتناولها ووضعها في فمه فاحترق لسانه وتسبب ذلك في تشكل العقدة لديه .
والمهم أن هذه الواقعة الطفولية قد شكلت جانبا من العطاءات التي ستذكر السماء موسى بها ـ في سلسلة العطاءات التي تسردها هذه القصة وسواها ـ فيما أنقذت موسى من القتل ، بعد أن أنقذته من الغرق في اليم غداة القي في التابوت .
وخارجا عن هذا الموقف ، فإن طلب إزاحة العقدة اللسانية يظل مرتبطا بمواجهة فرعون الذي كان وراء تسبيب العقدة المذكورة . حتى كأن النص القصصي ـ من الواجهة الفنية ـ ينقلنا إلى إجراء موازنة :
بين الذهاب إلى فرعون ، وقد كبر موسى ، واضطلع بأكبر مهمة .
وبين التخلص من فرعون وهو طفل .
حيث تطل النتيجة نصرا على فرعون في الطفولة وفي الكبر ، فضلا عن أن إزالة العقدة اللسانية سيقترن بظاهرة كان فرعون نفسه قد أحدثها ، وهو أمر يتطلب إزاحة تلك العقدة مادامت المواجهة الجديدة مع فرعون نفسه ، حتى كأن النص القصصي ينقلنا من جديد إلى إجراء مقارنة بين مواجهة لفرعون وقد أصبح موسى فصيح اللسان ، وبين تذكر لحادثة كان فرعون وراء إزالة الفصاحة عنه .
ومثل هذه الموازنة لها أهميتها الفنية في حقل البناء القصصي ، كما هو واضح .
لقد بدأت قصة موسى بواقعة البحث عن النار ، حيث تمثل هذه الواقعة آخر مرحلة من حياته الاولى : حياة ما قبل النبوة .
وفي حينه أوضحنا السبب الفني وراء هذه البداية ، وقلنا : إن القصة حينما تبدأ من مرحلة زمنية معينة دون أن تأخذ تسلسلها الموضوعي في الزمان ، فلأن سياق الأفكار التي يستهدفها النص القرآني هوالذي يفرض تقطيع الزمان واختيار المرحلة الملائمة .
والآن نجد أن النص القصصي يرتد بنا إلى الوراء بعد أن بدأ بالقصة من حادثة البحث عن النار ، وبعد أن تابعها بمراحل الزمان الموضوعي حيث سرد لنا بعد حادثة البحث عن النار ، سرد حادثة التكليم في الواد المقدس على النحو الذي فصلنا الحديث عنه .
ولقد لحظنا أن قضية التكليم قد وقف بها النص عند ظاهرة العصا واليد ، ومطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، وجواب موسى بطلب إلى السماء بأن تزيح عقدة لسانه ، وبأن ترسل معه أخاه هارون ، ثم إجابة السماء لطلبه .
هنا قطع النص سلسلة الأحداث ، فبدلا من أن يسرد لنا ذهاب موسى وهارون إلى فرعون ، . . . بدلا من ذلك . . . عاد بنا إلى الأيام الاولى من حياة موسى ، . . .
عاد بنا إلى طفولة موسى ، فشبابه ، فمكوثه في مدين ، فمجيئه إلى الواد المقدس .
أي عاد بنا النص إلى نفس النقطة التي بدأت القصة بها ، بحيث وصل بين مراحل حياته الاولى التي بدأت بحادثة إلقائه في اليم ، وختمت بحادثة بحثه عن النار .
ثم واصل بعد ذلك تكملة ما قطعه من السرد المتصل بقضية ذهاب موسى إلى فرعون .
إن هذا البناء القصصي الذي يقوم على تقطيع الزمن وفق مراحله النفسية وليس وفق تسلسلة الموضوعي ، ينبغي ألا نمر عليه عابرا ، بل يتعين الوقوف عنده والنظر مليا إلى أسراره الفنية .
ينبغي أن نفهم السبب الفني الكامن وراء مثل هذا التقطيع للزمان ، والعود إلى وصل أجزائه بعضها بالآخر . فقد كان من الممكن مثلا ـ كما سنرى في قصة لاحقة ـ أن تبدأ القصة بحياة موسى وفق مراحلها المتسلسلة ، كأن تبدأ بحادثة إلقائه في التابوت ، ثم رجوعه إلى امه ، ثم قتله للنفس ، ثم مكوثه في أهل مدين ، ثم بحثه عن النار . . . وبهذه ، تنتهي سلسلة حياته الاولى .
وكان من الممكن أيضا أن يواصل النص سرد حياته الجديدة ، بأن يبدأ من حادثة التكليم ، ثم ذهاب موسى إلى فرعون . . . إلى آخره .
أقول : كان من الممكن أن يسرد النص هذه القصة وفق مراحلها المتسلسلة التي ذكرناها ، حيث سيتم مثل هذا السرد في قصة لاحقه . لكننا نتساءل من جديد عن السر الفني الكامن وراء قطع سلسلة الزمن ، بحيث يبدأ النص بحادثة البحث عن النار ويصلها بحادثة التكليم والمطالبة بالذهاب إلى فرعون . ثم يقطع السرد عند هذه النقطة ويعود إلى المراحل الاولى من حياة موسى ـ بعد أن كان قد بدأها باخريات حياته الاولى ـ ثم يعود من جديد إلى متابعة ما قطعه من السرد المتصل بالذهاب إلى فرعون ؟
إن جانبا من الأسرار الفنية وراء هذا التقطيع للزمن ، ووصله من جديد ، قد أوضحناه عند حديثنا عن واقعة البحث عن النار ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه .
هنا ، عندما يقطع النص سلسلة الأحداث ويرتد بنا إلى المراحل الاولى من حياة موسى ، . . . يمكننا أن نستخلص الدلالة الفنية وراء ذلك ، متمثلة في جملة ما تتمثل به أن قطع سلسلة الحدث جاء عند المرحلة التي طلب بها موسى (عليه السلام) من السماء أن تعينه على النهوض بالمهمة التي أوكلتها السماء إليه ، حيث أجابته السماء إلى طلبه ، قائلة له :
{قد أوتيت سؤلك يا موسى}
ولقد ربطنا في حينه بين عقدة اللسان لدى موسى ، وصلة ذلك بحياته الاولى ، وتدخل السماء لإنقاذه من فرعون وهو طفل غير مميز .
هنا يستثمر النص هذا التذكر لعقدة اللسان ، عبر تحقق العطاء الفعلي الذي اغدقته السماء على موسى ، حيث حققت طلبه بإرسال هارون ، وإزالة العقدة اللسانية ، رابطة بين هذا العطاء الفعلي الذي يداعي إلى الذهن ذكريات العطاءات السابقة ، حيث استدعاه ـ في جملة ما استدعاه ـ تذكر العقدة اللسانية وصلتها بإمكان القتل لولم تتدخل السماء فتصرف يد موسى عن الدرة .
إن استثمار هذا التداعي الذهني ، إنما يتم من خلال العطاء الفعلي الذي اغدقته السماء على موسى ، متمثلا في إجابتها لطلبه بإرسال هارون ، وإزالة العقدة اللسانية لديه ، وهو أمر ـ كما قلنا ـ يداعي الذهن إلى العطاء السابق المرتبط بالإنقاذ من القتل وهو طفل غير مميز .
ومن هنا يستثمر النص هذا العطاء المرتبط بحادثة الطفولة ، . . . يستثمره بتذكير عطاءات مماثلة تمت منذ عهد الطفولة أيضا ، حتى امتدت إلى مراحل الشباب ، . . . وحتى امتدت إلى المرحلة الجديدة : مرحلة النبوة .
والآن ، كيف تم السرد القصصي لهذا التذكير بعطاءات السماء من خلال المرحلة السابقة على النبوة ؟
لقد بدأ العود إلى المرحلة الاولى من حياة موسى ـ في هذه القصة ـ على النحو الآتي :
{ولقد مننا عليك مرة أخرى}
{إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى}
{أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم}
{فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له}
{وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني}
{إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله}
{فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن}
{وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا}
{فـلبثت ســنيـن فـي أهـل مـدين}
{ثـم جئت على قدر يا موسـى}
وواضح أن النص حينما عاد بنا إلى الحياة الاولى لموسى ، ربطها بعد ذلك مباشرة بالنقطة التي قطع سلسلة السرد من خلالها ، حيث عاد من جديد إلى حادثة التكليم الذي تمثلها الفقرة الأخيرة :
{ثم جئت على قدر يا موسى}
ونحن بعد أن أوضحنا السر الفني وراء تقطيع الحدث ووصله على النحوالمذكور ، يجدر بنا أن نقف عند هذه المرحلة وملاحظة تفصيلات الحدث فيها .
* * *
لقد سرد لنا النص المرحلة المبكرة من حياة موسى بنحو من التفصيل ، ثم سرد مراحله الراشدة عابرا ، وفصلها في قصة لاحقة نقف عندها إن شاء الله .
وتتمثل هذه المرحلة المبكرة في التذكير بعطاء السماء ، وتدخلها لإنقاذ موسى منذ اللحظة التي ولد فيها .
ومن البين أن التذكير بأول لحظات الحياة ينطوي على أهمية فنية بالغة المدى إذا أخذنا بنظر الاعتبار ـ ما سبق أن ذكرناه ـ من أن النص إنما ارتد بالحدث إلى الزمن السابق ، فلأنه في صدد التذكير بنعم السماء على موسى . والتذكير بهذه النعم منذ لحظات الولادة يعني تحسيس الشخصية بضخامة العطاء ، واستمراريته ، وعدم انقطاعه منذ اللحظة التي يدب فيها على الأرض .
والمهم أن هذا العطاء الذي استهل مع ولادة موسى يتمثل في عملية الإنقاذ من القتل . فالنصوص المفسرة تذكر لنا أن فرعون طاغية عصره ، كان قد قرر قتل بني إسرائيل وهم أطفال . ثم قرر أن يكون ذلك في سنة ، ورفع القتل في سنة .
فولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأطفال ، فانقذته السماء من عملية القتل من خلال الإيحاء إلى امه ـ يقظة أو حلما ـ بأن تصنع تابوتا وتضع فيه موسى وتلقيه في نهر النيل ، حيث يقتاده الموج في نهاية المطاف إلى الساحل . وفعلا هيأت الام هذا التابوت ، وجعلت فيه قطنا ، ووضعت وليدها فيه ، وقذفته في النيل .
وتقول النصوص المفسرة : إن التابوت قد اتجه إلى فرع يتصل ببستان عائد إلى فرعون . وكان فرعون وقتئذ جالسا هناك مع امرأته آسية بنت مزاحم . فلمح التابوت ، وأمر بإخراجه . وما أن فتح التابوت حتى شاهد طفلا من أحسن الناس وجها ، فأحبه فرعون وأمر باحضار النساء اللواتي كن حول داره لكي يرضعنه ، بيد أن موسى ، الطفل الذي كان يبكي بحثا عن اللبن ، قد امتنع عن تناول اللبن من أية واحدة منهن .
وكانت اخت موسى واقفة هناك ، حيث أمرتها امها في اللحظة التي القي فيها موسى في النيل أن تتبعه وتراقب التابوت . ونتيجة لمتابعتها المذكورة استقر بها المطاف عند دار فرعون .
وعندما امتنع الطفل عن تناول اللبن ، قالت اخته حينئذ :
{هل أدلكم على من يكفله}
فوافقوا على ذلك وجيء بامه فعلا ، فتناول اللبن . . .
وبهذا اللقاء تم عودة الطفل إلى الام :
{فرجعناك إلى أمك : كي تقر عينها ولا تحزن}
* * *
وهكذا يسرد لنا النص تفصيلات هذه الواقعة مذكرا موسى بعطاء السماء عليه وعلى امه ، إذ أنقذته من القتل وأقرت عيون والدته به .
بعد هذا التذكير يتابع النص تذكير موسى بعطاءات اخرى ، ومنها : إنقاذه من تبعات القتل الذي تم على يديه ، حيث قتل أحد الأقباط ، فأنجاه الله من إلقاء القبض عليه حتى استقر به المطاف في مدين .
ويختم النص هذا التذكير بالنعم . . . يختمه بوصل شرائح القصة بعضها بالآخر ، حيث تجري السماء حوارا مع موسى على هذا النحو :
{ثم جئت على قدر يا موسى}
وواضح أن النص بهذا الحوار قد اتجه إلى النقطة التي قطع فيها سلسلة الحدث ، ونعني به حادثة التكليم . فقد قطع النص كما لحظنا سابقا سلسلة الحدث المتصل بالتكليم والمطالبة بالذهاب إلى فرعون . . . قطعها بتذكير موسى بنعم السماء عليه .
وارتد بذلك إلى مراحل حياته التي أنتهت إلى حادثة التكليم .
وها هو النص من جديد يعود إلى حيث قطع سلسلة الحدث ، ليتابع السرد وفق تسلسله الزمني الذي يبدأ بمطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، حيث نواجه تفصيلات جديدة في هذا الموقف .
لحظنا كيف أن قصة موسى (عليه السلام) بدأت من وسط الأحداث ، ثم ارتدت إلى البداية ، ثم اتصلت من جديد بوسط الأحداث ، حيث تجسدت في مطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون .
ولحظنا أيضا أن موسى (عليه السلام) طلب من السماء أن تعينه على ذلك من خلال إزالة العقدة من لسانه ، ومؤازرة أخيه هارون ، حيث أجابته السماء إلى طلبه .
هنا يواصل النص القصصي مطالبة السماء من جديد بالذهاب إلى فرعون .
وموسى بدوره يطلب من السماء من جديد ، أن تعينه على ذلك مبديا تخوفه من فرعون وبطشه .
ثم تجيبه السماء من جديد راسمة له طريقة التعامل مع فرعون ، مؤكدة له أنها في عون موسى وأخيه في مهمتهما العبادية .
ولنقرأ نصوص هذا الموقف :
{اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري}
{اذهبا إلى فرعون إنه طغى}
{فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}
{قالا : ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}
{قال : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}
{فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل}
{ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك}
{والسلام على من اتبع الهدى}
ويلاحظ في هذا الموقف أن موسى (عليه السلام) لا يزال مبديا تخوفه من طاغية عصره فرعون بالرغم من أن السماء أجابته إلى طلبه الأول ، حينما توجه إلى السماء بإزالة العقدة من لسانه ، بإرسال أخيه هارون لمؤازرته .
ومن قبل كان قد تخوف من مرأى الثعبان أيضا .
وها هو للمرة الثالثة يبدي تخوفه من فرعون بالرغم من أن السماء تطالبه بألا يني في مهمته .
ولكن مثل هذا التخوف يبدو وكأنه دافع غريزي ـ كما سبقت الإشارة ـ مادام الأمر متصلا ببداية الاضطلاع بالمسؤولية ، وبخاصة أن النص القصصي نفسه قد أضفى على الموقف ما يحسس الشخصية بمناخ الخوف ، من نحو تكراره بأن فرعون قد طغى مثلا .
بل إن إشارة النص إلى مخاطبة فرعون باللغة اللينة يحسس موسى بأنه حيال مهمة محفوفة بالأخطار ، حيث سيواجه طاغية من الصعب أن يخضع لليونة القول .
وفعلا فإن الأحداث اللاحقة ستكشف عن أن فرعون لن يتبع الهدى الذي رسم له . وبأنه سوف يطغى أشد فأشد . . .
على أية حال ، يظل عنصر التخوف في هذا الموقف ، هو سمة ملحوظة يرسمها النص في القصة .
يبدأ الفصل الجديد من قصة موسى بمواجهة فرعون على النحو الآتي ، حيث يحذف النص واقعة الذهاب إلى فرعون . كما يحذف طريقة المواجهة التي بدأها موسى مع فرعون . بل نجده يسرد لنا جواب فرعون :
{قال فمن ربكما يا موسى}
{قال : ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ، ثم هدى}
{قال : فما بال القرون الأولى ؟}
{قال : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}
إن النص القصصي بحذفه طريقة المواجهة ، إنما يحقق نمطا من الاقتصاد في السرد تفرضه طبيعة المواجهة التي تتطلب إعادة لما سبق أن أوضحه الحوار بين السماء وموسى ، فيما طالبت السماء موسى أن يتعامل مع فرعون بلغة لينة وأن يطالبه ببني إسرائيل .
هذه المطالبة لم يعدها النص القصصي تحقيقا للاقتصاد في السرد أولا ، ولأن المواجهة اللينة لا تخضع لطريقة خاصة ، بل تخضع لطبيعة الموقف وما يفرضه من لغة تتناسب مع تركيبة الشخص ، وهو أمر مادام لم يتحدد في صيغة خاصة ، فحينئذ يجيء حذفه ضرورة فنية كما هو بين .
المهم أن النص بدأ برسم جواب فرعون ، ثم استمرار الحوار بين طرفي المواجهة التي تلخصت في التعريف بمبدع الكون ، وتقديره للظواهر ، ومجازاته للسلوك .
وقد قطع النص الحوار بين موسى وفرعون ، . . . وأتم التعريف بمبدع الكون
وعطاءاته على هذا النحو:
{الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا}
{وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى}
{كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى}
{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}
ثم ختم النص هذا الفصل القصصي بالتعقيب الآتي ، ملخصا نتيجة الحوار بينه وبين موسى وهارون:
{ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى}
وبهذا التعقيب يحقق النص مهمة فنية مزدوجة:
إحداها: تحديد موقف فرعون من الأدلة الفكرية التي قدمها موسى في حواره مع فرعون .
والاخرى: التنبؤ بالموقف ذاته في مجالات لاحقة .
حيث سيكذب فرعون وسيأبى ويمارس العناد رفض الحقائق التي واجهها .
والمهم أن التنبؤ بموقف فرعون لاحقا ، إنما سيتحقق من خلال أدلة عملية يقدمها موسى بعد أن قدم أدلته الفكرية في هذا الصدد ، وحيث يجيء الدليل العملي من نقطة التحرش التي بدأها فرعون نفسه ، فيما اتهم موسى بأنه ساحر ، وحينما تحداه بأنه سيجيئه بسحر مثله .
لقد مهد النص القصصي للأحداث اللاحقة من خلال التعقيب القائل عن فرعون:
{ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى}
وها هو النص يقدم نموذجا للتكذيب ، متمثلا في حادثة السحرة التي منحها النص شيئا من التفصيل ، بدأها أولا بتحدي فرعون لموسى:
{قال أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله}
ومع هذا التحدي تبدأ القصة بتقديم تفصيلات جديدة عن البيئة التي ستتحرك من خلالها حادثة السحرة .
فلقد طالب فرعون أولا بأن يتم موعد بين الطرفين لا يتخلف عنه أحد ، وأن يكون المكان مستوي المسافة على الطرفين . قال فرعون مخاطبا موسى:
{فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى}
وأجابه موسى (عليه السلام) إلى طلبه واقترح أن يتم ذلك في يوم قد اعتاد الناس أن يحتفلوا به وتزين أسواقهم فيه ، كما اقترح أن تكون ساعة الاستعراض عند الضحى . قال موسى مجيبا فرعون:
{موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}
ومن الواضح أن كلا من موسى وفرعون ، قد حرص على تحديد الزمان والمكان اللذين يتم التحدي فيهما . إلا أن الفارق بين فرعون وموسى ، أن فرعون كان التوجس والحذر والقلق خلف اقتراحه ، حيث يريد أن يتم الأمر لصالحه بأي ثمن كان . حتى أنه وضع احتمال الخسارة في حسبانه .
كل ذلك يمكننا أن نستخلصه من خلال نمط الاقتراح الذي قدمه .
فقد طالب بضرب موعد بينهما ، مجرد موعد ، دون أن يحدد اليوم أو الساعة ، بل طالب بأن يكون المكان مستويا على الفريقين فحسب .
وهذا الاقتراح الثاني ، يكشف لنا عن مبلغ القلق والحذر اللذين يسيطران على نفسية فرعون . فمطالبته باستواء المكان يعني أ نه يتوجس خيفة من فشل جماعته الذين أعدهم لهذه المهمة ، وانتصار موسى .
وهذا على العكس تماما من موسى .
فموسى حدد الزمان على نحو مضاد تماما للإبهام الذي تعمده فرعون .
فقد طالب موسى بأن يتم الموعد في يوم لا يكاد يبقى فيه أحد في بيته ، بل يخرج الناس كلهم إلى الشوارع والأسواق .
ومن هذا الاقتراح نستكشف مدى اليقين والاطمئنان بنتائج المبارزة لدى موسى . على الضد تماما من مدى القلق والشك لدى فرعون .
أكثر من ذلك ، فإن موسى طالب بأن تكون ساعة البدء بالاستعراض عند الضحى ، وهي ساعة لا يكاد يتخلف عن الحضور فيها أي أحد قد اعتاد مثلا ألا يخرج مبكرا .
وهذا يعني أن موسى كان على مزيد من اليقين والاطمئنان بنتائج المعركة .
إذن ينبغي من خلال هذه المقارنة بين شخصيتي موسى وفرعون ، أن نستكشف الفارق بين شخصية قلقة ، خائفة ، مشككة بقدراتها وإمكاناتها ، وبين شخصية مطمئنة ، موقنة بإمكاناتها التي تستمدها من اليقين بالسماء .
وهذا كله من حيث البعد الفكري للموقف ، وأما من حيث البعد الفني فإن القصة بهذا الرسم للموقف إنما ترسم التنبؤ بالنتائج التي سيسفر الموقف عنها ، أي أنها من الناحية الفنية ستهيئ لأذهاننا حسابا خاصا للموقف ، ألا وهو أن النصر سيكون حليف موسى ، مادام نمط اقتراحه يفصح عن قوة اليقين والاطمئنان والثقة لديه .
وفعلا عندما نتابع حادثة السحرة ، نجد أن النصر كان حليف موسى . وأن الهزيمة كانت لدى فرعون بنحو يتوافق ومدى حجم الشك والخوف لديه .
أكثر من ذلك سيواجهنا النص بمفاجآت لم تدر في حسبان المتلقي .
ونقصد بذلك انقلاب السحرة أنفسهم ، حيث أن القوى التي كان يعتمدها فرعون في صراعه مع موسى (عليه السلام) لم تخسر المعركة فحسب ، بل انقلبت على فرعون نفسه ، وهو أمر أشد إيلاما للذات من الهزيمة التي مني بها فرعون .
وهنا ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى ظاهرة الخوف لدى موسى نفسه .
ففي حادثة السحرة عندما القيت عصي القوم وحبالهم خيل إلى موسى أنها ثعابين تسعى .
{فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}
{فأوجس في نفسه خيفة موسى}
{قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلى . . .}
والفارق بين خوف موسى (عليه السلام) وخوف فرعون ، إن فرعون لم يؤمن بقضيته أساسا . على العكس من موسى فيما كان الخوف من وراء إيمانه بقضيته .
وهذا الفارق الكبير بينهما يفسر لنا خوف موسى من تأثير فرعون على الجمهور وحذره من عدم تحقيق الرسالة التي نهض بها .
بيد أن السماء وهي تجسد الدعم الحي للمؤمنين بها أزاحت عنصر الخوف من موسى وشجعته على المضي في مهمته ، حيث كانت النتيجة فعلا لصالحه على الضد تماما من فرعون ، حيث كانت الهزيمة وانقلاب السحرة عليه أمرا يستدر الرثاء والاشفاق .
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تحتفي بذكرى ولادة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
|
|
|