أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-11-2014
1444
التاريخ: 5-11-2014
4972
التاريخ: 5-11-2014
3696
التاريخ: 2-12-2015
2901
|
الوحدة الموضوعية
وممّا يسترعي الانتباه ما تشتمل عليه كل سورة من أهداف خاصة تستهدفها لغرض الإيفاء بها وأداء ما فيها من رسالة بالذات ، الأمر الذي يوجه مصير انتخابها في كيفية لحن الأداء وفي كمّية عدد الآيات ، يُنبئك بذلك اختلاف السور في عدد الآي ، قليلها وكثيرها ، فما لم تستوفِ الهدف لم تكتمل السورة ، قصرت أم طالت ، وهكذا اختلاف لهجاتها من شديدة فمعتدلة وإلى ليّنة خفيفة ، فلابدّ من حكمة مقتضية لهذا التنويع في العدد واللحن ؛ لأنّه من صُنْع عليم حكيم .
هذا مضافاً إلى ما لكل سورة من حسن مطلع ولطف ختام ، فلابدّ أن تحتضن مقاصد هي متلائمة مع هذا البدء والختام ، وبذلك يتمّ حسن الائتلاف والانسجام .
ومِن ثَمّ فمن الضرورة ـ بمقتضى الحكمة ـ أن تشتمل كل سورة على نظام خاصّ يستوعب تمام السورة من مفتتحها حتى نهاية المطاف ، وهذا هو الذي اصطلحوا عليه من الوحدة الموضوعية التي تحتضنها كل سورة بذاتها .
ولسيّد قطب محاولة موفّقة ـ إلى حدّ ما ـ في سبيل الإحاطة بما تشتمل عليه كلّ سورة من أهداف ، يُقدّم فكرة عامة عن السورة بين يدي تفسيرها ، وبياناً إجمالياً عن مقاصد السورة قبل الورود في التفصيل ، ممّا يدلّ على تسلسل طبيعي في كلّ سورة تنتقل خلاله من غرض إلى غرض حتى تنتهي إلى تمام المقصود ، تناسقاً معنوياً رتيباً ، تنبّه له المتأخرون في كلّ سورة بالذات ، ولم يزل العمل مستمراً في البلوغ إلى هذا الهدف البلاغي البديع في جميع السور ، لكن يجب التريّث دون التسرّع ، ونحن في بداية المرحلة ، فلا يكون هناك تكلّف أو تمحّل لا ضرورة إليه .
وقال الأُستاذ المدني : إنّ في كلّ سورة من سور القرآن الكريم روحاً تسري في آياتها ، وتسيطر على مبادئها وأحكامها وتوجيهاتها وأُسلوبها ، قال : ومن الواضح أنّ سور القرآن مع كون كلّ واحد منها ذات طابع خاص ، وروح تسري في نواحيها ـ لا يمكن أن تُعدّ فصولاً أو أبواباً مُقسّمة منسّقة على نمط التآليف التي يُؤلّفها الناس ، ومَن أراد أن يفهمها على ذلك أو أن يُفسّرها على ذلك فإنّه يكون متكلّفاً مشتطاً ، محاولاً أن يُخرج بالقرآن عن أُسلوبه الخاص ، الذي هو التنقّل والمراوحة والتجوّل ، وبثّ العظة في تضاعيف القول ، والوقوف عند العبر لتجليتها ، والتوجّه إلى مغزاها ، وانتهاز الفرصة أينما واتت ، لدعم العقيدة السليمة والمبادئ القويمة .
إنّ هناك فرقاً بين مَن يحاول أن يفعل ذلك ، ومَن يُحاول أن يجعل القارئ يَلمح الروح الساري والبيئة المعنوية الخاصّة التي تجول فيها السورة دون أن يُخرج التنزيل الحكيم عن سنته وأُسلوبه الذي انفرد به ، وكان من أهمّ نواحي الإعجاز فيه ... .
وهذه الطريقة في الدراسة القرآنية أجدى على الناس مِن تتبّع الآيات آية بعد آية ، فإنّ ذلك لا يعطي المنظر العام ، ولا يُساعد على تصوّر عظمة الصورة مجتمعة الملامح ، منضمّة التقاسيم ، كاملة الوضع (1) .
وبعد ، فإليك نماذج من محاولات بُذلت للحصول على تلك الوحدات الموضوعية التي تشتمل عليها كلّ سورة لذاتها بحيث كادت تقرب من نظم التأليف من ديباجة ومقاصد وخاتمة في تبويب رتيب ، حصولاً على قدر الجهد المبذول ، والله من وراء القصد .
سورة الفاتحة : ما يشتمل عليه هذه السورة القصيرة من نظم وترتيب طبيعي ، هو من أبدع النُظم التي تُصوّر موقف العبد تجاه ربّه الكريم ، في ضراعة وخشوع ، مسترحماً مبتهلاً إيّاه تعالى أن يهديه سواء السبيل ويُنعم عليه بأفضل نعمه وآلائه ، في أُسلوب جميل وسبك طريف .
إنّ هذه السورة المباركة انتظمت من ثلاثة مقاطع ، كلّ مقطع مرحلة هي مقدّمة للمرحلة التالية في تدرّج رتيب ، ويتمثّل خلالها أدب العبد الماثل بين يدي مولاه ، تلك مراحل يجتازها في أناقة يريد مسألته ، يمجّده أوّلاً ، ثُمّ ينقطع إليه كما الانقطاع ، وأخيراً يعرض حاجته في أُسلوب لطيف ، ينتقل من الغيبة إلى الخطاب ، وكأنّه كان في حجاب عن وجه سيّده المتفضّل عليه بالإنعام ، ثمّ مَثَل بين يديه وحظي بالحضور .
قالوا (2) : إنّ العبد إذا افتتح حَمَد مولاه الحقيق بالحمد ـ عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لِما هو فيه بقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة : 2] الدالّ على اختصاصه بالحمد ، وأنّه حقيق به ـ وَجَد من نفسه لا محالة محرّكاً للإقبال عليه ، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله : {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة : 2] ـ الدالّ على أنّه مالك للعالمين ، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته ـ قَوى ذلك المحرّك ، ثمّ انتقل إلى قوله ( الرحمن الرحيم ) الدالّ على أنّه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها ، تضاعفت قوّة ذلك المحرّك ، ثمّ إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام ، وهي قوله : ( مالكِ يومِ الدِّين ) الدالّ على أنّه مالك للأمر كلّه يوم الجزاء ، تناهت قوّته ، وأوجب الإقبال عليه ، وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة : 5] .
وهذا كمال الانقطاع يُبديه العبد لدى مولاه ، يُمهّد بها أسباب الشفاعة ، فيردفها مع عرض حاجته ، بُغية قضائها ونجاحها ، والتوفيق يرافقه لا محالة .
وسورة البقرة ـ وهي أول سورة نزلت بالمدينة ، واكتملت لعدة سنوات ، ونزلت خلالها سور وآيات ـ تراها على طولها ، منتظمة على أُسلوب رتيب : مقدّمة لابدّ منها ، ثمّ دعوة ، وأخيراً تشريع (3) .
أمّا المقدّمة ففي بيان طوائف الناس ومواقفهم تجاه الدعوة ، إمّا متعهد يخضع للحقّ الصريح ، أو معاند يجحد بآيات الله ، أو منافق يراوغ مراوغة الكلاب ، أمّا الشكّ فلا مجال له بعد وضوح الحقّ ووفور دلائله ، وقد نفاه القرآن الكريم ( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ ) .
وقد أعلن الدعوة بتوجيه نداء عامّ إلى كافة الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة : 21] ودعمها بدلائل وبراهين نيّرة ، مستشهداً بسابق حياة الإنسان منذ بدء الخلقة ، وتصرّفاته الغاشمة في الحياة ، ولا سيّما حياة إسرائيل السوداء المليئة بالمخازي والآثام ، وهي الأُمّة الوحيدة التي تعرفها العرب ولهم معها نسب قريب .
ثمّ يأتي دور التشريع ويتقدّمه الحديث عن الكعبة وتشريفها ، وبيان النسخ والإنساء في الشرائع ، فيبتدئ بتحويل القبلة وتشريع الحجّ والجهاد والقتال في سبيل الله ، والصوم والزكاة والاعتكاف ، والنكاح والطلاق والعدد ، والمحيض والرضاع والأَيمان ، والوصية والدَين والربا ، والتجارة الحاضرة وبذلك تنتهي السورة .
هذه هي الصبغة العامّة للسورة ، وفي ضمنها الاستطراق إلى عدة مواضيع بالمناسبة ، كما هي طريقة القرآن في جمعه لشتات الأُمور .
وفي ختام السورة جاء الحديث عن مَلكوت السماوات والأرض ، وعِلمه تعالى بما في الصدور فيحاسب العباد عليه ، وعن إيمان الرسول بما اُنزل إليه ، والمؤمنون على أثره ، وأن لا تكليف بغير المستطاع ، ولابدّ من الاستغفار على الخطايا وطلب فضله تعالى ورحمته في نهاية المطاف .
والمناسبة ظاهرة بعد ذلك التفصيل عن دلائل الدعوة ومعالم التشريع ، وقد جهد الإمام الرازي في بيان النظم القائم بين هذه الآيات الثلاث بالذات وما سبقتها من دلائل التوحيد وتشريع الأحكام ، وذكر في ذلك وجوهاً لا بأس بها نسبياً ، وعقبها بقوله :
ومَن تأمّل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ، ولعلّ الذين قالوا : إنّه معجز بحسب أُسلوبه أرادوا ذلك ، إلاّ أنّي رأيت جمهور المفسّرين معرضينَ عن هذه اللطائف ، غير منتبهين لهذه الأُمور ، ثمّ تمثّل بقول الشاعر :
والـنجمُ تَـستصغرُ الأبـصارُ رؤيـتَهُ والذنبُ للطرفِ لا للنَجمِ في الصِغَرِ (4)
والآيتان الأخيرتان منها قوله تعالى : {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة : 285 ، 286] .
انظر كيف تناسق البدء والختام ، وكيف تجمّعت مواضيع السورة وأهدافها ، ملخّصة في آخر بيان ، ليتأكد أوّلها بآخرها بهذا الشكل البديع .
ولعلّنا في مجال آتٍ نعرض سوراً أُخرى تكشّف لنا وجهُ التناسب القائم فيها في عدد آيها الخاصّ ولحنها الخاصّ إن شاء الله تعالى ، ولا تزال المحاولات دائبة في هذا التكشّف بوجه عامّ ، نسأل الله التوفيق والتسديد .
_________________________
(1) المجتمع الإسلامي كما تنظّمه سورة النساء لمحمّد محمّد المدني : ص5 ـ 7 ( الأهداف : ص7 ) .
(2) الزمخشري في الكشّاف : ج1 ص14 .
(3) المقدمة في ( 20 ) آية ، والدعوة في قريب من ( 124 ) آية ، والتشريع ( 142 ) .
(4) التفسير الكبير ج7 ص127.
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تحتفي بذكرى ولادة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
|
|
|