ازدهرت دولة مدينة لجش بمدنها الأربع إبان الحقبة الزمنية لسلالة لجش الاولى ويطلق على هذه الحقبة بـ (عصر ما قبل سرجون)، كما سميت بعهد ملوك لجش(1)، وتعد هذه السلالة من السلالات المهمة التي حكمت في بلاد الرافدين في عصر فجر السلالات الثالث اذ عكست لنا النصوص المسمارية التي تم العثور عليها خلال التنقيبات الأثرية جوانب مختلفة من التاريخ السياسي والحضاري لهذه السلالة ابان العصر السومري القديم(2).

وقد عاصرت هذه السلالة العديد من السلالات الحاكمة ضمن هذه الحقبة مثل (الوركاء، وكيش، واوما) ومن خلال المدونات التاريخية نعرف ان مؤسس هذه السلالة شخص يدعى (اور نانشه) وان هناك العديد من الحكام تعاقبوا على حكم هذه السلالة(3) وقد تلقب اولئك الحكام بلقب (انسي Ensi) الذي يعني الحاكم  او الأمير او حاكم المدينة المستقلة(4)، وأول من استخدم لقب انسي هو اياناتم  حاكم لجش(5) وكان هذا اللقب شائع الاستعمال في العصر   السومري القديم او عصر دول المدن في بلاد الرافدين وهو اقدم نظام تكون بموجبه كل دولة مستقلة بذاتها لها الهها الحامي وحاكمها الخاص(6)، ويرى بعض المختصين ان اقدم شكل لحكومة دويلة مستقلة كانت عبارة عن جمعية نيابية من المواطنين قوامها مجلس الشيوخ ومجلس لعموم سكان المدينة(7) ويكون الحاكم قد اختاره الاله من بين جموع البشر لحكم البلاد وممارسة السلطة السياسية على الارض ويتم ذلك على وفق نظرية التفويض الالهي وهذا اساس نظرية اصل الحكم في حضارة بلاد الرافدين في جميع ادوار تاريخها(8)، ويعد الحاكم مسؤولا امام الاله عن اعماله وليس لاحد من المحكومين الحق في معارضته وما هو الا وكيل عن الاله الذي يعد هو المالك الحقيقي(9)، وبهذه الطريقة يستمد شرعية حكمه(10)، وعلى هذا الاساس ترجم لقب (انسي - Ensi) بانه (الحاكم باسم الاله)(11) ويكون على راس السلطة في دولة المدينة(12)، وقد اصبح هذا اللقب ذا مدلول سياسي اكثر مما هو ديني حسب ما بينته النصوص المكتشفة في لجش(13).

اما عن كيفية اختيار الحاكم فيظن ان الحاكم كان ينتخب من قبل المواطنين داخل المعبد ثم يصبح الحكم وراثيا(14)، ينتقل من الحاكم بعد موته الى ابنه واحيانا اخرى الى اخيه مثلما حدث عندما توفي (اياناتم Eanatum) اذ خلفه اخوه (اناناتمEnnatum ) وعندما توفي الاخير خلفه ابنه (انتيمينا Eantemena)(15).

وهناك صيغة اخرى لاختيار الحاكم هي ادعاؤه للنسب المقدس (الانتساب للالهة) عن طريق النبوة الرمزية التي تضفي نوعا من القدسية على الحاكم، فقد ورد ان الحاكم (انتيمينا) تغذى من حليب الالهة ننخورساك، وكذلك الحاكم (اياناتم) في صغره تربى في حجر الالهة ننخورساك(16).

لقد اعتقد السكان ان مدينتهم تخضع لسيطرة الهها(17)، فيما عد حكام لجش انفسهم عبيدا للاله (ننجرسو Ningersu) وان مدينتهم ملكا له(18).

لقد ظهرت القاب ادارية اخرى منها لقب (EN) ويعني (الكاهن الاعظم) وقد مارس السلطتين الدينية والدنيوية ولكن سلطته اقتصرت على المدينة الواحدة(19)، وتلقب (لوكال بندا  Lugal Banda) بلقب (EN)(20)، ويذكر ان لقب (EN) ظهر اول مرة في النصوص المسمارية المكتشفة في مدينة الوركاء – الطبقة الرابعة – ولكونه يمثل السلطتين الدينية والدنيوية فانه يعد من ارفع الالقاب الملكية عبر التاريخ السياسي للعراق القديم اذ يشمل لقب الملك (Lugal) ولقب الامير (ENSI)(21).

ولعل اتساع الرقعة الجغرافية لحكم دولة المدينة الى مناطق ابعد من حدودها اضفى على الحاكم (ENSI) صلاحيات واسعة واخذ يلقب نفسه بلقب لوكال (Lugal) ويعني الملك، واخذ يطلق هذا اللقب على اولئك الحكام المستقلين الذين يحكمون اكثر من دويلة مدينة(22).

ان اول ذكر لهذا اللقب ورد في نصوص اور القديمة(23)، وقد اطلق على الحاكم (اياناتم) اذ جاء في احد النصوص ان الالهة منحته ملوكية كيش(24). كما تلقب حكام دولة مدينة (اوما) بهذا اللقب (لوكال) الذي يعني (الرجل العظيم) او ملكا(25)، وقد اختلف حكام الدويلات في استخدام هذا اللقب فبعض الدويلات لم يكن لها (لوكال) كما يوجد في بعض الدويلات الاخرى مصطلحان في وقت واحد(26).

وبهذا فقد اتسعت سلطات حاكم المدينة على حساب سلطات الكهنة وقد ظلوا من الناحية الشكلية ممثلين لمعبوداتهم على الارض وتركوا لقب انسي لولاتهم الفرعيين(27).

وقد يتولى الـ(لوكال) الدور الديني في المناسبات الدينية من اجل احلال الخصب والحصاد للمدينة(28)، وعلى اية حال فان لقب (لوكال) اطلق على الحاكم المستقل كما هو الحال بالنسبة لحكام لجش المستقلين مثل (انتيمينا)(29).

ان الملوكية كنظام سياسي في بلاد الرافدين هي كما اعتقد السكان قد هبطت من السماء على مدينة كيش (Kish) بعد الطوفان لذلك صار لقب (ملك كيش) يرمز الى سلطة شاملة على بلاد سومر(30)، اما قبل الطوفان فكانت مدينة (اريدو Earidu) هي اول مدينة هبطت عليها الملوكية من السماء(31)، وتشير الدلائل الاثرية من اريدو وكيش في عصر فجر السلالات الثاني والثالث ان (انسي ENSI) و (لوكال Lugal) كانا يقيمان في القصر(32)، ومن خلال ذلك يتضح ان الالقاب السياسية التي ظهرت في عصر فجر السلالات بينت شكل النظام السياسي والاداري المتبع في تلك الحقبة الزمنية(33).

__________________________

(1) De Genouillac, Fouilles De Telloh Tome 1, (Paris, 1934), p. 70 .

(2) طه باقر، المقدمة، مصدر سابق، ص 271-272.

(3) سجى مؤيد عبد اللطيف، "قواعد اللغة السومرية في ضوء نصوص سلالة لجش الاولى" اطروحة دكتوراه غير منشورة، (جامعة بغداد، كلية الاداب، قسم الاثار، 2004م)، ص 4.

(4) عبد العزيز صالح، الشرق الادنى القديم، (القاهرة - المطابع الأميرية، 1967)، ج1، ص400. ينظر كذلك:

William M., W. Hallo, Early Mesopotamia Royal Titles, Emprt Emrt, (New Haven, 1957), p 45.

(5) احمد مالك الفتيان، نظام الحكم في العصر الآشوري الحديث، المصدر السابق، ص 100. ينظر كذلك:

William M., W. Hallo, Early Mesopotamia Royal Titles, op.cit, p 39-45. 

(6) فوزي رشيد، الجيش والسلاح في عصر السلالات، بحث ضمن كتاب الجيش والسلاح، (بغداد، 1987)، ج1، ص 72.

(7) جون اوتس، بابل تاريخ مصور، المصدر السابق، ص 39.

(8) طه باقر، المقدمة، ج1، المصدر السابق، ص 315.

(9) ليونارد وولي، بلاد الرافدين مهد الحضارة، المصدر السابق، ص 52.

(10) Henry S. Lucas., "A short History of Civilization", (London, 1943), p. 63.

(11) هنري فرانكفورت، فجر الحضارة في الشرق الأدنى القديم، المصدر السابق، ص 87.

(12) جورج رو، العراق القديم، المصدر السابق، ص 37.

(13) احمد مالك الفتيان، نظام الحكم في العصر الأشوري الحديث، ص 100. ينظر كذلك: جون اوتس، بابل تاريخ مصور، المصدر السابق، ص 26-27. ينظر كذلك: فوزي رشيد، الجيش والسلاح في عصر فجر السلالات، المصدر السابق، ص73.

(14) صموئيل نوح كريمر، "هنا بدا التاريخ"، ترجمة: ناجية المراتي، (بغداد، دار الحرية للطباعة، 1980)، ص 30.

(15) شيبان ثابت الراوي، الطقوس الدينية في بلاد الرافدين حتى نهاية العصر البابلي، المصدر السابق، ص 106.

(16) المصدر نفسه، ص 104-105.

(17) جيمس هنري بريستد، انتصار الحضارة، تاريخ الشرق الأدنى، ترجمة: احمد فخري،(القاهرة، 1964)، ص 180.

(18) جورج رو، العراق القديم، المصدر السابق، ص 128.

(19) جون اوتس، بابل تاريخ مصور، المصدر السابق، ص 26-27.

(20) جين بوترو واخرون، الشرق الادنى الحضارات المبكرة، المصدر السابق، ص 28.

(21) William, W. Hallo, "Early Mesopotamia Royal Titles", op.cit., p.9.

(22) جورج رو، العراق القديم، المصدر السابق، ص 37.

(23) Dates, J., "Babylon", (London, 1970), p. 20

(24) William, W.  Hallo, Early Mesopotamia Royal Titles, op.cit., p 42.

ينظر كذلك: غيث حبيب خليل، بلاد الرافدين في عصر فجر السلالات، المصدر السابق، ص 37 

(25) جين بوترو وأخرون، الشرق الادنى الحضارات المبكرة، المصدر السابق، ص 82.

(26) دياكونوف، ظهور الدولة الاستبدادية في العراق القديم، المصدر السابق، ص 276-277.

(27) عبد العزيز صالح، الشرق الادنى القديم، ج1، المصدر السابق، ص 401.

(28) Diakanoff, I., W., "Early Antiquity", (Chicago, 1991), p. 77.

(29) دياكونوف، ظهور الدولة الاستبدادية في العراق القديم، المصدر السابق، ص 276-277. 

(30) هنري فرانكفورت، فجر الحضارة في الشرق الادنى القديم، المصدر السابق، ص 64-65.

(31) ماجد عبد الله الشمس، الحضارة والميثولوجيا في العراق القديم، (دمشق – دار علاء الدين، 2003)، ص 85.

(32) اكرم عبد كسار، فخار عصر فجر السلالات في ضوء اخر المكتشفات الاثرية، اطروحة دكتوراه غير منشورة، (جامعة بغداد، كلية الاداب، قسم الاثار، 1990)، ص12.

(33) هاري ساكز، عظمة بابل، ترجمة: عامر سليمان، (الموصل، 1979)، ص 273-274. كذلك ينظر:

Sobloff, J.A. and Karlivsky C.G., "The Rise and fall of civilization", (California, 1974), p 74.