أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-11-2016
907
التاريخ: 13-11-2016
1477
التاريخ: 2023-05-01
1203
التاريخ: 13-11-2016
1460
|
لعل الخلاف الأصلي بين الباحثين يكمن في أن الأنباط: قوم عرب، أم آراميون؟ وتتجه الآراء الحديثة إلى أنهم عرب، حتى وإن تبرأ العرب منهم، ربما لأنهم احترافهم مهنا يزدريها العربي الصميم، ويحتقر من يشتغل بها كالزراعة والصناعات اليدوية(1)، وإن كانت بعض المراجع إنما تصف الأنباط بأنهم قوم يكرهون الزراعة ويزدرونها، كما كانوا يأنفون من السكنى في بيوت مستقرة، وقد كانوا رعاة يربون الأغنام وغيرها من الماشية، كما كانوا لا يأمنون وجود الأجانب بينهم، خشية أن يقعوا تحت سيطرتهم، ومن ثم فقد كانوا إذا ما وجدوا غريبًا بينهم قتلوه(2).
وأيًّا ما كان الأمر، فإن العلماء يقدمون كثيرًا من الأدلة على عروبة الأنباط، منها "أولًا" أن أسماءهم- كما ظهرت في النقوش النبطية- إنما هي أسماء عربية خالصة، ومن ذلك نقش "بوتيولي"، على مقربة من نابلي بإيطاليا، حيث نقرأ -ولأول مرة- اسم "علي" الذي شاع بين المسلمين بعد ذلك، كما نقرأ كذلك في نقوش أخرى أسماء عربية -مثل حبيب وسعيد وكهلان وسعد الله ومرة وخلف وتيم الله وعميرة ووهب وحميد وسكينة وجميلة(3)- ومنها "ثانيًا" أن الأنباط إنما كانوا يشاركون العرب في عبادة الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل "دوشرا" "ذو الشرى" واللات والعزى ومناة، ومنها "ثالثًا" أن أثر التحريف العربي في كتاباتهم الآرامية، لا يدع مجالا للشك بأن لغتهم الوطنية، إنما كانت لهجة عربية شمالية، حتى بلغ الأمر من كثرة استعمال الكلمات العربية الصرفة في إحدى الكتابات الأثرية المتأخرة -والتي ترجع إلى حوالي عام 268م- أن النص كله يكاد يكون عربيا(4).
ومنها "رابعًا" أن أسماء ملوكهم -كالحارث وعبادة ومالك وجميلة- أسماء عربية، وليس من شك في أن للأعلام دخل كبير في بيان أصول الأمم(5)، ومنها "خامسًا" أن الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان- وكذا المؤرخ اليهودي يوسف ابن متى- إنما يطلقون على النبط كلمة "العرب"، وعلى أرضهم لفظ "العربية الحجرية" "Arabia Petraea"(6)، ومنها "سادسًا" أن لغتهم الأصلية إنما كانت العربية، وأنهم لم يستعملوا اللغة والكتابة الآرامية إلا في النقوش(7).
وهكذا يتجه كثير من العلماء إلى أن الموطن الأصلي للأنباط، إنما هو بلاد العرب -سواء أكان ذلك في الوسط أو في الجنوب- ومن ثم فإن فريقًا من الباحثين يذهب إلى أنهم قد نزحوا من البوادي إلى أعالي الحجاز، حيث استقروا هناك واشتغلوا بالزراعة والتجارة والإشراف على القوافل التجارية، بينما ذهب فريق آخر إلى أنهم من العربية الجنوبية، ومن ثم فقد كان هذا سببًا في احترافهم للحرف المألوفة في بلاد العرب الجنوبية منذ العهود القديمة(8).
ويرى الدكتور جواد علي أن الأنباط عرب، بل هم أقرب إلى قريش وإلى القبائل الحجازية التي أدركت الإسلام، من العرب الجنوبيين؛ ذلك لأنهم إنما يشاركون قريشًا في كثير من الأسماء، مثل حبيب وسعيد والحارث وقصي وعمرو ومسعود، وفي كثير من عبادة الأصنام كاللات والعزى ومناة -كما أشرنا آنفًا- ولأن خط النبط قريب من خط كتبة الوحي، ولأنهم يتكلمون لهجة قريبة من العربية، بل إن كثيرًا من الكلمات العربية المدونة بالآرامية، من نوع عربية القرآن الكريم(9)، ثم هناك ما جاء في التوراة(10) من أن "نبايوت" -وهو نابت عند
الأخباريين- إنما هو الابن الأكبر لإسماعيل، عليه السلام(11)، وإسماعيل-كما هو معروف- جد العرب العدنانية.
وأخيرًا فهناك الخبر الذي جاء على لسان "ابن عباس"، "نحن معاشر قريش من النبط، من أهل كوثاريا، قيل إن إبراهيم ولد بها، وكان النبط سكانها"(12)، وأما أن "إبراهيم" قد ولد في "كوثاريا" فتلك رواية المصادر العربية(13)، وإن كانت رواية التوراة تذهب إلى أنه ولد في "أور"(14) -سواء أكانت في منطقة الفرات الأدنى، أو في منطقة العراق الأعلى في منطقة الجزيرة بين دجلة والفرات(15)- بل إن هناك رواية أخرى -عربية كذلك- تنسب قريشًا إلى "كوثا" "كوثي" هذه، فقد روى ابن الأعرابي أن رجلا سأل الإمام علي بن أبي طالب –عليه السلام فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش، قال: نحن قوم من كوثى، فقال قوم إنه أراد كوثى التي ولد بها إبراهيم، وتأولوا في هذا قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} (16)، وسواء أصحت هذه الروايات أم داخلها التحريف، فإنها تشير دون شك إلى صلة قريش، أبناء إبراهيم عليه السلام، بالأنباط وبكوثى في العراق، فإذا كان ذلك صحيحًا، فإن الأنباط يصبحون إذن من المجموعة الآرامية التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية بعد الآموريين والكنعانيين -وكانوا بادي ذي بدء- يجوبون أنحاء وادي الجزيرة من ناحية الشمال، ويتحركون إلى الشرق من ناحية العراق، وإلى الغرب من ناحية سورية، حتى بدؤوا يستقرون في العراق الأوسط(17)، ومن المعروف أن هناك من يجعل قوم إبراهيم من هذه المجموعة الآرامية، وفي هذا ما يفيد إلى حد كبير صحة ما ذهبت إليه من المصادر العربية، من وجود قرابة بين القرشيين من ناحية، وبين الأنباط من ناحية أخرى.
ويرى الأستاذ العقاد -طيب الله ثراه- أن مباحث اللغة إنما تقدم لنا البينة الكبرى على قرابة النبطيين لأهل الحجاز؛ ذلك لأن لغة الحجاز لم تتطور من اللغة اليمنية مباشرة، وإنما جاء التطور من العربية القديمة إلى الآشورية إلى الآرامية إلى النبطية إلى القرشية، فتقارب لغة النبط ولغة قريش من هذا السبيل، وكان التقارب بينهما في الزمان والمكان، أو في درجات التطور، ولم يكن تقاربا يقاس بالفراسخ والأميال، وكانت هذه هي البينة الكبرى من مباحث اللغة على قرابة أهل الحجاز من النبطيين، ولم تكن هذه القرابة من اختراع النسابين أو فقهاء الإسلام، ولكنها كانت قرابة الواقع التي حفظتها أسانيد اللغة والثقافة، واستخرجتها من حجارة الأحافير والكشوف الحديثة(18).
هذا وقد أشار من قبل "مارتن شبر نجلنج" إلى ظاهرة انتقال الكتابة النبطية من منطقة مدين إلى الحجاز، وإلى تطور الخط العربي عن الخط النبطي(19)، ومن ثم فإن الكتابة التي نكتب بها اليوم، إنما هي كتابة متطورة عن الخط النبطي، وهذا بدوره متطور عن الخط الآرامي، الذي استعمل في شمال شبه الجزيرة العربية منذ حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، وقد كان منذ القرن السادس قبل الميلاد، خط كثير من دول الشرق الأدنى القديم(20)، وأما أقدم نص عربي وصلنا بالخط النبطي، فهو "نقش النمارة"، الذي يرجع إلى عام 328م، وقد سبق لنا مناقشته بالتفصيل من قبل.
وعلى أي حال، فلقد أخذ النبط الأبجدية التي تلقاها الآراميون عن الفينقيين، ثم طوروها وحولوها من كتابة منفصلة الحروف، إلى كتابة متصلة الحروف، وبهذا أراحوا الكتاب من كتابة كل حرف على حدة، ومن وضع خطوط رأسية، أو نقط لتحديد حدود كل كلمة، أو ترك مسافات بيضاء بين كل كلمة وأخرى، وعنهم أخذ العرب الكتابة التي ما زلنا نستعملها إلى اليوم(21) -كما أشرنا آنفًا-.
على أن هناك من يرى أن الألفاظ العربية التي وجدت في الآرامية النبطية، فضلا عن تشابه الأسماء بين العرب والنبط، إنما كان من أثر الاختلاط بينهما بسبب السكنى والجوار، وليس بسبب روابط جنسية بين الفريقين، ومن ثم فإن الأنباط إنما هم أراميون بالعرب وتأثروا بهم، أو على الأقل، إنما هم أراميون استعربوا بعد حين من الدهر(22).
وعلى أي حال، فإن أقدم معلوماتنا عن النبط، مصدرها مؤلفو العصر الهليستي، ومنهم "ديودور" و"استرابو"، وقد أخذ الأخير معلوماته عن "أثينودورس"، ذلك الفيلسوف الذي ولد وعاش بين النبط(23)، هذا وقد اصطدم الأنباط باليهود مرارا، ولهذا يحدثنا المؤرخ اليهودي "يوسف بن متى" عنهم كثيرًا، وقد كان الأنباط -فيما يرى- يسكنون منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام حتى تنزل إلى البحر الأحمر(24)، كما أنه يرى- وكذا سان جيروم "345-420م"- أن هناك صلة بين اسم "نبايوت" بن إسماعيل، وبين اسم النبط(25)، غير أن يوسف اليهودي لم يهتم بتاريخ الأنباط، إلا إذا كان هذا التاريخ له علاقة بتاريخ قومه اليهود(26).
هذا وقد ترك لنا الأنباط كتابات كثيرة في مواضع متفرقة- كالبتراء والحجر والعلا وتيماء وخيبر، وفي صيدا ودمشق، فضلا عن أماكن أخرى في حوران واللجاة وسيناء والجوف واليمن ومصر وإيطاليا- اهتم العلماء بدراستها ونشرها(27).
وعلى أي حال، فيمكننا القول أن مملكة الأنباط قد وصلت إلى أوج مجدها على أيام "الحارث الرابع" "9ق. م-40م"، وأنها كانت تشمل منطقة واسعة تضم دمشق وسهل البقاع، والأقسام الجنوبية الشرقية من فلسطين، وحوران وأدوم، ومدن العلا وسواحل البحر الأحمر، وبعبارة أخرى، فإنها كانت تضم جنوبي فلسطين وشرق الأردن وسورية الجنوبية الشرقية وشمالي شبه الجزيرة العربية، وأن القسم السوري منها إنما كانت تفصله عن قسم شرقي الأردن منطقة "اتحاد الديكابولس"(28)، وأن وادي السرحان كان يربط ما بين القسمين، وأخيرًا فهناك ما يشير إلى وجود آثار للأنباط في الأقسام الشرقية من دلتا النيل(29).
وقد ظهر الأنباط لأول مرة في القرن السادس قبل الميلاد، كقبائل بدوية في الصحراء الواقعة شرقي الأردن، ثم استمروا كذلك حتى القرن الرابع ق. م، رحلا يعيشون في خيام، ويتكلمون العربية ويكرهون الخمر، ولا يهتمون كثيرًا بالزراعة، وفي القرن التالي تركوا حياة الرعي، واتبعوا حياة الاستقرار، وعملوا في الزراعة والتجارة، وفي أواخر القرن الثاني قبل الميلاد تحولوا إلى مجتمع منظم جدًّا متقدم في الحضارة ومتصل بالتطور والترف، وكان مثالهم هذا مثالا آخر(30) يوضح الحادث الذي كان يتكرر في تاريخ الشرق الأدنى القديم، وهو تحول الرعاة إلى مزارعين ثم إلى تجار في بلاد قليلة الموارد، ولكنها حسنة الموقع بالنسبة إلى تجارة
القوافل التي عوضت قلة مواردها الطبيعية.
____________________________
(1) جواد علي 3/ 17.
(2) F. Altheim and R. Stiehl, Op. Cit., P.283
(3) Corpus Inscriptionum Semiticarum, P.242, 260
(4) ريجيس بلاشير: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي ص56.
وكذا A.J. Jaussen And R. Savignac, Op. Cit., P.172-6
(5) فيليب حتى: المرجع السابق ص81.
(6) جواد علي 2/ 9.
(7) بلاشير: تاريخ الأدب العربي -العصر الجاهلي- بيروت 1956 ص55056.
وكذا R. Dussaud, Les Arabes En Syrie Avant L'islam, Paris, 1907
وكذا E. Dhorme, Op. Cit., P.34
وكذا A. Kammerer, Petra Et La Nabatene, Paris, 1929, P.27
(8) جواد علي 3/ 10.
(9) جواد علي 3/ 14، يحيى نامي: أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام ص7
وكذا G.A. Cooke, Op. Cit., P.18
وكذا E. Littmann, Nabataen Inscriptions From the Southern Hauran, P.17, 24.
(10) تكوين 25: 3، أخبار أيام أول 1: 29.
(11) J. Flavius, Antiquities of the Jews, I, Xii, 4, P.103
وكذا. Hastings, Ere, 9, P.121. ثم قارن: E. Schrader, Klt, P.151:
(12) اللسان 7/ 411.
(13) ياقوت 4/ 487-488، البكري 4/ 1138، ابن الأثير 1/ 94، الطبري 1/ 233، اليعقوبي 1/ 23، ابن خلدون 2/ 35.
(14) تكوين 11: 28، 31، 15: 7، نحميا 9: 78.
(15) انظر عن موطن الخليل عليه السلام، كتابنا "إسرائيل" ص165-171.
(16) البكري 4/ 1139.
(17) كتابنا إسرائيل ص337.
(18) عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص136-137.
(19) Martin Sprengling, The Alphabet, Its Rise And Development From The Sinai
Uje, I, P.198. وكذا Inscriptions, P.52
(20) عبد الرحمن الأنصاري: لمحات من القبائل البائدة في الجزيرة العربية ص89، وانظر: فيليب حتى: تاريخ العرب ص108-109، جرجي زيدان: المرجع السابق ص81، ديتلف نلسن: المرجع السابق ص40-41، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص137.
(21) حسن ظاظا: المرجع السابق ص114.
(22) A.B.W. Kennedy, Petra, Its History and Monuments, London, 1925, P.34
وكذا جواد علي 3/ 10، قاموس الكتاب المقدس 1/ 58.
(23) A.B.W. Kennedy, Op. Cit., P.33
(24) J. Flavius, Antiquities of the Jews, I, 21, 4
(25) جواد علي 3/ 16، وكذا Eb, P.3254
(26) P.K. Hitti, Op. Cit., P.69
(27) A. Musil, Arabia Deserta, P.471
(28) اتحاد الديكابولس: أو "حلف المدن العشر"، والذي تبدأ حيث يتصل مرج ابن عامر بوادي الأردن، ثم تمتد نحو الشرق، وكانت هذه المدن التي كانت تسيطر على تلك المنطقة هي "بيت شان" "بيسان" وبيلا وديون "تل الأشعري" وجرش وفيلادلفيا "ربة عمان= عمان الحالية" وجدرة ورافانا "الرافة في حوران وكناثا "القنوات" وهيبوس "قلعة الحصن جنبو شرق بحيرة طبرية" ودمشق، وقد أضيفت إليها مدن أخرى بعد ذلك، فأصبح العدد ثمانية عشر "فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ص350-351، حسن ظاظا: المرجع السابق ص114، وكذا Pliny, V, 16"
(29) فيليب حتى: المرجع السابق ص422، جواد علي 3/ 15.
وكذا CLERMONT Ganneau, Les Nabatiens En Egypt, In Recveil D'arc:Eol
Ei, 3, P.801. وكذا Orientale, Ii, P.229
(30) المثال الأول هو العبرانيون، انظر: فيليب حتى: المرجع السابق ص221، وكذا كتابنا إسرائيل
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تحتفي بذكرى ولادة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
|
|
|