أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-12-2015
6646
التاريخ: 8-10-2014
1413
التاريخ: 23-11-2014
7394
التاريخ: 3-12-2015
1529
|
من عجائب التنبؤات القرآنية وغرائبها ، تحدّيه اليهود بأبسط الأشياء وأسهلها ومطالبته إيّاهم بما هو ميسور لهم في كلّ وقت وحين ، وفي متناول قدرتهم ، ودائرة استطاعتهم في كل زمان ، ومع ذلك عجزوا عن تكذيبه وانصرفوا عن مخالفته ، وهذا يدل قبل كلّ شيء على أنّ القرآن كلام من بيده القلوب والضمائر.
قال سبحانه : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } ( البقرة : 94 ـ 96)
لما زعم اليهود أنّهم الشعب المختار عند الله ، وأنّ الدار الآخرة خالصة لهم كما تحكي عنه الآية ويدل عليه أيضاً قوله سبحانه : { وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } ( البقرة ـ 80 )
عرض عليهم سبحانه ، رداً على مقالهم ( انّ نعيم الآخرة وقف على الشعب المختار ، وانّ الدار الآخرة خالصة لهم ) أن يتمنّوا الموت جناناً ولساناً وعملاً ، فإنّ الانسان بفطرته إذا خيّر بين العيش الخالص عن التعب والألم ، والعيش الممزوج بألوان العذب والكد ، يختار الأوّل ، ولا ريب أنّ عيش الآخرة هو العيش الخالص عن شائبة التعب ، فلو أنّهم يزعمون أنّهم صادقون في ما يقولون بألسنتهم من أنّ لهم الدار الآخرة ، وأنّهم الاُمّة المختارة من بين شعوب الناس بالحياة الدنيا ، يجب أن لا يكونوا أحرص الناس على الحياة الدنيا ، بل يلزم عليهم تمنّي الموت تمنّياً صادقاً ، تظهر آثاره في حياتهم وتقلبهم بين الناس.
غير أنّ التاريخ والحس يقضيان بخلاف ما يدّعونه ، وأنّهم أحرص الناس على الحياة وكل واحد منهم يودّ لو يعمّر ألف سنة ، وما تمنى ولن يتمنّى أحد منهم الموت أبداً تمنّياً تلوح منه آثار الصدق ، لا أقول إنّهم ما تمنّوا تلفّظاً ولقلقة باللسان ، بل تمنّياً من صميم الروح ، تظهر آثاره على الجوارح والأفعال ، ولذلك قال سبحانه :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } ( الجمعة : 6 ـ 7)
نعم إنّ الزرقاني فسّر الآية على وجه يشمل التمنّي باللسان وقال : « ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم نحن نتمنّى الموت كي تنهض حجّتهم على محمد ويسكتوه ، لكنّهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول : إنّي أتمنّى الموت » (1) ، غير أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية فإنّ التمنّي حالة نفسانية للنفس ، واللفظ الدال عليه معبر عمّا في الضمير ، ولا يطلب القرآن منهم التمنّي الكاذب ولا يدعوهم إليه بل التمنّي الصادق الكاشف عن الإرادة الجدية والطلب الحقيقي له ، مع ظهور آثاره في حياة المتمنّي وسلوكه ...
ثمّ إنّ القرآن تنبّأ بانهزام اليهود في مضمار الحرب والنضال مع النبي والمسلمين قال سبحانه :
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ } ( آل عمران ـ 12)
قال الطبرسي : روى محمد بن يسار عن رجاله : لما أصاب رسول الله قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثلما نزل بقريش يوم بدر ، واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، وقد عرفتم أنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم ، فقالت اليهود : يا محمد لا يغرّنك أنّك لقيت قوماً اغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنّا والله لو قاتلناك لعرفت إنّا نحن الناس فأنزل الله هذه
الآية (2) ، ولقد صدق الخبر ، الخبر ، فغلب النبي على من في الجزيرة من اليهود فضلاً عن خصوص القانطين منهم في المدينة.
ثمّ إنّ في القرآن تنبّؤات بالمستقبل المظلم الأسود الذي لم يزل يواكب بعضها اليهود طيلة أربعة عشر قرناً من نزول القرآن إلى يومنا هذا ، لم ينخرم أي واحد منها أبداً ، وذلك قوله سبحانه : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } ( آل عمران : 111 ـ 112)
وفي هاتين الآيتين تنبّؤات :
1. إنّ هذا الشعب الماكر اللئيم ، لا يمكنه القيام بحرب مواجهة ومقابلة الند للند ، وإنّما يقع ضررهم على المسلمين عن طريق الغدر والمكر.
2. ولو قاتلوا المسلمين لولّوهم الأدبار.
3. ضرب عليهم الذل كضرب السكة على الدينار والخيمة على الانسان ، نعم كتب عليهم الذل والهوان إلاّ إذا تمسّكوا بحبل من الله ودخلوا في عهد منه أو عهد من الناس يستعينون بهم ويستظلّون بظلالهم.
4. ضربت عليهم المسكنة وهي زي الفقر والخوف منه ، وفيهم من يملك آلاف الآلاف وليس فيه غنى النفس ، فهم أشد الشعوب خوفاً من الفقر ، وأشدها طمعاً وشرها في جمع الدنيا ، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال ، ولا يتورّعون عن الجري وراء الدنايا ، بأحط الوسائل.
5. حلول غضب الله عليهم كما يعطيه قوله : { وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ }
والمراد من الضمير المتصل من قوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ ) وإن كان هو أهل الكتاب ، الوارد في الآية المتقدمة ، غير أنّ المقصود منه هم اليهود بلا كلام لما في ذيل الآية التالية من تعليل ضرب الذل والمسكنة عليهم بقتلهم الأنبياء وهو من فعل اليهود.
ويؤيده قوله سبحانه ، في شأن اليهود : { اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } ( البقرة ـ 61 ) وبذلك يظهر أنّ ما يقال من عمومية الآية ، لمطلق أهل الكتاب ، أخذاً بمفاد الضمير المتصل ، الراجع إلى أهل الكتاب ، المذكور في الآية السابقة ، ليس بسديد.
وقد تنبأ سبحانه بقوله : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ } بما جرى بين المسلمين وطوائف من اليهود من « بني النضير وقريضة وقينقاع » فحاربوا المسلمين ولم يثبتوا بل استسلموا ، وهو تنبّؤ صادق شهد به التاريخ الصحيح ، بل يمكن أن يكون تنبّأ بعامة ما جرى بينه وبين اليهود أيام حياته (صلى الله عليه واله وسلم) فهو قد طهّر الجزيرة العربية من هذه العناصر الماكرة ، أعداء الله وأعداء الانسانية في مدة قليلة ولم ينصروا بعد قط.
والمراد من الاستثناء في قوله سبحانه : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } هو الضرر اليسير الذي ليس فيه كبير تأثير من سب باللسان وخوض في النبي ، وقد تحقق المخبر به كما أخبر في تطهير أرض المدينة وما حولها من الطوائف الثلاث الذي اسميناهم ، فلم ينالوا من المسلمين إلاّ سبّاً باللسان أو ضرراً قليلاً كما هو الحال في غزوة خيبر على ما هو مسطور في السير والتاريخ ، ومفاد الآية راجع إلى عصر الرسالة فقط كما أوضحنا ، ويفيده التدبر في الآية وفي الضمائر الواردة فيها من قوله : ( لَن يَضُرُّوكُمْ ... ) (3)
وأما الآية الثانية المتضمّنة لضرب الذلة والمسكنة عليهم فربّما يحتمل اختصاص مفادها بعصر الرسالة غير أنّه محجوج بأمرين :
الأوّل : إنّ المتبادر من قوله سبحانه : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } في كلتا الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول : عجنت طينتهم بالذل والهوان والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل وزمان.
الثاني : انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل والمسكنة عليهم بأمرين : أحدهما : الكفر بآيات الله وهو مشترك بين الجميع. وثانيهما : وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم ، من قتل الأنبياء ولكن اليهود المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع ، صاروا مثلهم « فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً ، فضرب الذلة على جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا ، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة ببعضهم دون بعض ، إذ ليس الهوان أو المسكنة ، إلاّ جزاءً ونكالاً من الله سبحانه بالنسبة إلى هذه الطائفة ، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها ، وبين راض بما ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة ، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما قال سبحانه : { لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ * ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ( آل عمران : 181 ـ 182)
وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا ، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى التاريخ : « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام 587 ق.م وفي سنة 302 ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.
وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير ، فقد أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلاّ الأندلس حيث أحاطهم اُمراء الإسلام بعطف خاص ، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية ، وقد وقع كثير منهم في أيدي القراصنة الذي انتشروا حول الشواطئ فجرّدوهم من أموالهم واتخذوهم عبيداً ارقّاء.
هذا ما عدا الذين ماتوا جوعاً أو اُصيبوا بالطاعون فأهلكهم ثم لجأ ثمانون ألفاً إلى البرتغال ارتكاناً إلى وعد ملكها ، لكن القساوسة الأسبانيين أثاروا الرأي العام في تلك البلاد ضدهم ، وعمدوا إلى اقناع ملك البرتغال بعدم إيوائهم ، فأصدر أمراً يقضي بابعاد جميع اليهود البالغين ، أمّا الأولاد الذين لا تتجاوز سنهم أربعة عشر عاماً فقد انتزعوا من أحضان اُمّهاتهم لكي يربوا وينشأوا على مبادئ الدين المسيحي.
ولم يقتصر الغربيون على طرد اليهود من أسبانيا والبرتغال فقط بل طردوا وشردوا من انجلترا ، فرنسا ، بلجيكا ، هولندا ، ايطاليا ، ألمانيا ، روسيا و ... » (4)
أي ذل وهوان أوضح من هذا الذي صادفوه طيلة القرون الغابرة إلى يومنا هذا ، كل ذلك مضافاً إلى تنفّر الناس عن كل يهودي ماكر ، وإسرائيلي لئيم ، وابتعادهم عنهم في حلّهم وترحالهم ، لما هم عليه من الغدر والمكر والشره والطمع وعدم اندماجهم مع غيرهم وعدم وفائهم للذين استضافوهم وآزروهم ، لما يظنون أنّهم شعب يمتاز على الشعوب التي يعيشون بينها ، وأنّهم يحق لهم اغتصاب حقوق الغير أخذاً بتعاليم التلمود حيث يعبّر عن املاك غير اليهود ب « أنّه كالمال المتروك الذي يحق لليهودي أن يملكه ».
هذا وذاك أوجب بأن يعلن القرآن منذ أربعة عشر قرناً بأنّه سبحانه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة حيث قال سبحانه : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( الأعراف ـ 167)
فقضى الله سبحانه أنّه ليسلّطنّ على بني اسرائيل إلى يوم القيامة من يذيقهم أشد العذاب ، جزاء لهم على أعمالهم ونكالاً بهم ، فكما هو سبحانه سريع الصفح عن ذنب التائب ، فهو أيضاً سريع العقاب.
____________________
1- مناهل العرفان ج 2 ص 276.
2- مجمع البيان ج 1 ص 413.
3- قال الطبرسي ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) لوقوع مخبره على وفق خبره لأنّ يهود المدينة من بني قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قط وانهزموا ( مجمع البيان ج 1 ص 488).
4- راجع لمعرفة تفصيل ذلك كتاب « اليهود في القرآن » 94 ـ 96.