تجارب في التجديد الحضري
المؤلف:
د. محمد دلف احمد الدليمي
المصدر:
تخطيط المدن والاستدامة الحضرية
الجزء والصفحة:
ص 209 ـ 213
2025-12-03
17
هناك تجارب عالمية وعربية وعراقية عديدة في سياسات التجديد الحضري سنستعرض بعض الامثلة والتي طبقت فيها الاسس والتوجهات التخطيطية للتجديد الحضري لغرض تحقيق الاستدامة الحضرية ومن هذه التجارب:
ـ تجربة فرنسا ، من خلال مشروع الحفاظ على المنطقة القديمة بوسط مدينة باريس الحي اللاتيني وسان جرمان وسان میشیل تحققت عدة نجاحات تخطيطية من خلال عدم الفصل بين النسيج العمراني للحي القديم عن بقية المدينة الحديث من خلال تحقيق التوازن بين المحافظة على المباني التراثية في نسيجها العمراني والسماح بعمل بعض التعديلات البسيطة لاستيعاب بعض الأنشطة المعاصرة بصورة لا تؤثر على المظهر العمراني العام ومن أمثلة ذلك وجود جامعة السوربون ومجموعة من المدارس والمراكز التجارية والمستشفيات ومحطات مترو الأنفاق، مما حافظ على حيوية ونشاط الحي اللاتيني القديم حيث توفرت به كافة الخدمات المعاصرة بصورة متوافقة مع طابعه العمراني والمعماري العام محققا مستوي مرتفع من مستويات الحفاظ المستدام ، اذ إن استمرارية تردد كافة المستويات الثقافية والاجتماعية من سكان باريس على هذا الحي ساهم في استمرارية شعورهم بقيمته التراثية التي لم تقف عائقا أمام اندماجه الوظيفي مع بقية المدينة الحديث .
ـ تجربة تركيا ، من خلال مشروع الحفاظ على عاصمة الحيثيين بالقرب من العاصمة أنقرة : اذ تم ترميم الموقع العمراني والحفاظ على الموروث الحضاري والتاريخي فيه ليصبح الموقع مزارًا سياحيًا Historic landscape مع الاهتمام بتنسيق الموقع المحيط بأسلوب التنسيق التاريخي للموقع ثقافيًا وترفيهيًا من خلال إطلالته على مساحات من العناصر البيئية الخلابة كالغابات والحدائق العامة والخدمات السياحية.
ـ تجربة الولايات المتحدة الامريكية، في بلدة ويليامزبرج بولاية فرجينيا وهي بلدة تاريخية عاصرت أحداثاً هامة خلال مرحلة الاستقلال عن بريطانيا ، ومن أجل إحياء تلك المدينة التاريخية تم دراسة المباني القائمة بها وترميمها و إعادة بناء مبان أخرى كانت قد تهدمت فضلاً عن ذلك تم تحسين الفضاءات العامة والمرافق بالبلدة لاجتذاب الصناع والحرفيين للعيش بها وإحياء الحرف القديمة الخاصة بها كما تم تعيين مرشدين سياحيين لتوجيه الزائرين بالبلدة وقد تم تنظيم ارتداء الصناع والمرشدين للأزياء التاريخية الخاصة بـ ازدهار البلدة كما تم منع دخول السيارات إلى مركز البلدة لحمايته من التلوث والضوضاء وتوفير الخدمات السياحية لزوار البلدة سواء سيرًا على الأقدام أو باستخدام عربات قديمة تجرها الخيول وبذلك تحولت المدينة إلى متحف تاريخي حي يجتذب السياح من داخل البلدة وخارجها.
ـ تجربة جمهورية مصر العربية ، اذ تقوم الجهات ذات العلاقة بالتراث العمراني في مصر باستثمار مواقع المدن التاريخية وذلك بصيانتها وإعادة تأهيلها كما هي عليه ومن المشاريع التي تم تنفيذها مشروع تطوير حي مجمع الأديان بمصر القديمة وتتكون عملية التطوير من إقامة سوق الفسطاط التجاري ، تطوير دار مناسبات جامع عمرو بن العاص فضلاً عن تطوير من الشوارع التي يتكون منها المشروع، ويأتي ذلك من منظور عالمي واهتمام إنساني وتأثير إيجابي في دفع مسار السياحة العالمية باعتبار مصر أرضاً خصبة تنمو بها الديانات السماوية وتتضمن أثاراً إسلامية وقبطية ويهودية وفرعونية مع الاهتمام بالتنمية الاجتماعية والثقافية للحرفيين ولأهالي منطقة المشروع الغرفة التجارية الصناعية بالرياض.
ـ تجربة المملكة الأردنية الهاشمية : تعد الأردن من أهم الدول التي قامت بتوظيف عدد من مواقع التراث العمراني وذلك في إطار توسيع دور القطاع الخاص في المجال الاستثماري للمشاريع السياحية والأثرية وإبراز مكتنزات الأردن الدينية والثقافية والتراثية والحضارية والتاريخية والطبيعية وذلك بوضع استراتيجية الازدهار الاقتصادي من خلال التنمية السياحية المستدامة ومن أشهر المشاريع التي تم تهيئتها وتطويرها مشروع تطوير قلعة الأزرق التي تعد واحدة من منظومة القصور الصحراوية الممتدة داخل البادية الأردنية ، مشروع أم الجمال على الطريق الذي يربط الأردن بالعراق وتضم أم الجمال العديد من الحصون العسكرية ، والمباني السكنية ، والكنائس ، ومشروع البتراء الذي تم تطويره على مراحل منها أعمار وتطوير مركز الزوار وتحسين نظام حركة السياح داخل الموقع ، ومن المشاريع أيضاً مشروع مدينة جرش من خلال تطوير منطقة الحمامات الشرقية وسوق جرش القديم، ومشروع تطوير متحف السلط السياحي ومشروع جبل القلعة في وسط العاصمة عمان وارتباطه بالمدرج الروماني.
ـ تجربة سورية : تعد مدينة حلب من المدن الغنية بالموروث الحضاري والعمراني ، تربط مدينة حلب بين سورية وتركيا ، وهي إحدى أهم المدن المأهولة في العالم وأقدمها، كما أثبتته أعمال الحفريات والتنقيب ، فقد توالت عليها عدة حضارات؛ وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي ، الذي جعل منها مركزاً تجارياً مهماً عبر التاريخ ، ومحطة مهمة في طريق الحرير القادم من أقاصي الصين مما أكسبها أهمية كبيرة من الناحية التجارية والصناعية. تحولت مدينة حلب القديمة إلى موقع تراثي عالمي عام 1986م ، اذ يتوسط مدينة حلب قلعتها الشهيرة، الواقعة على تل طبيعي يرتفع عن مستوى سطح الأرض بنحو 38 متراً تقريباً، ويعود تاريخ بناء القلعة إلى الألف الثاني قبل الميلاد.
أهم أنواع العمارة التاريخية في سورية ، عمارة البيوت التقليدية التي هي أشبه بمتحف يعرف زائره إلى الشكل المعيشي للأسرة العربية في العهود السابقة، فقد قام المعماري العربي بتوظيف عدد من العناصر المعمارية في عمارة البيوت التقليدية ، محققاً الشكل المعيشي المتوازن والمناسب للبيئة المحيطة ، علماً أن عدداً من تلك البيوت التي تعود إلى العهد العثماني في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين قد نزح عنها سكانها منذ بدايات القرن العشرين، وذلك لأسباب اقتصادية وعمرانية واجتماعية ، ورافق ذلك تخريب بعضها وتهديمها، أو تحويلها إلى مستودعات وورش عمل ، وهذا ما دفع الجهات المسؤولة والمعنية إلى تبني إعادة إحياء مدينة حلب للمحافظة على هويتها التقليدية، مع إعادة توظيف هذه المساكن بالشكل المناسب واللائق دون أي تشويه أو تغيير، وفق برامج مدروسة من قبل الدولة والجهات الإدارية والاستعانة بالخبرات المحلية والعالمية.
نظراً لما يملكه البيت العربي من أهمية تاريخية ومعمارية، فقد قامت مديرية الآثار والمتاحف بترميم البيوت القديمة ذات الاهمية التاريخية والعمرانية في المدينة القديمة ومنها على سبيل المثال بيت أجقباش وتحويله إلى متحف للتقاليد الشعبية ويعود هذا البيت إلى القرن الثامن عشر الميلادي ، وكان يسكن هذا البيت والي مدينة حلب العثماني، ومن أهم أسباب اختيار هذا البيت وتحويله إلى متحف وجود جميع عناصر البيت العربي التقليدي التي يمكن التعرف إليها من خلاله، هذا ويقع البيت (المتحف) في حي الجديدة وضمن أحد الأزقة ، الذي تنتشر فيه عدد من المحلات التجارية.
يتكون البيت من ثلاثة طوابق رئيسة: الطابق السفلي (القبو) : يتم النزول إلى القبو من صحن البيت وعبر درج ضيق، ومنه يتم النزول إلى قبو ثان تحت مستوى القبو الأول وللقبو نوافذ صغيرة مطلة على أرضية صحن البيت للإنارة والتهوية. وبما أن مستواه تحت الأرض فهو مكان مثالي للتوازن الحراري على مدار العام ، ثم الطابق الأرضي قسم المعيشة : للبيت باب رئيس متواضع ينقلنا إلى صحن البيت من خلال درج حجري ضيق، يربط بين المدخل وصحن البيت، محققاً مبدأ العزل والفصل عن المدخل، وهذه سمة مهمة من سمات العمارة الإسلامية ، إذ تتميز البيوت التقليدية بالمدخل المنكسر الذي يساهم في حجب الرؤية عن الداخل.
اما الطابق العلوي (قسم النوم) : او قسم النساء ، فقد تم فصل قسم المعيشة عن قسم النوم لضمان العزل والحرمة ويضم هذا الطابق سطحاً يسمح لوصول اشعة الشمس الى الغرف في فصل الشتاء فضلاً عن الجلوس والمنام في فصل الصيف.
ـ تجربة المملكة العربية السعودية في مكة المكرمة : تميزت العمارة المحلية بمكة المكرمة بأنها ذات طابع متميز وفريد، فقد كانت انعكاساً لتفاعل المؤثرات الدينية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية وطرق البناء المحلية ومواد البناء المتوفرة مع العديد من الملامح المعمارية المختلفة التي قدمت مع العمالة الوافدة والتي استقرت في مكة المكرمة خلال رحلات الحج المتكررة إلى بيت الله الحرام. كما تميزت بقدرتها على الوفاء باحتياجات المجتمع، فهي عمارة وظيفية تستخدم المواد المحلية المتوفرة، كما أنها جاءت بنسب توافقية جيدة مما اكسبها تناسقا كذلك عمارة ذات ابتكار وأصالة وتكوينات معمارية وجمالية رائعة لاتزال تقف وهي وإيقاعاً، كنماذج مبدعة ذات جمال وبساطة تعكس قيم ومبادئ العمارة الإسلامية. لجأت الجهات التخطيطية الى اتباع السبل للمحافظة على التراث العمراني من خلال أعمال الترميم والصيانة باعتبارها أحد الوسائل المتبعة في هذا الاتجاه، وتعتبر المملكة واحدة من الدول التي تملك تراثاً عمرانياً مميزاً جديراً بالمحافظة عليه بعد أن تعرض الكثير منه للاندثار والضياع بتعرض بعض المناطق التاريخية بمرور الزمن لتغيرات حضرية واجتماعية أسهمت في إحداث تدهور في نسيجها الحضري بسبب سوء الاستخدام وفقدان الوعي الحضاري وانهيار الخدمات إضافة إلى زيادة عدد السكان المطرد والذي كان له دور كبير في ذلك.
وأمام هذه التحديات لجأت المملكة إلى وضع برنامج للصيانة والترميم للأماكن التاريخية والمباني ذات القيم الجمالية لإعادة توظيف الكثير منها، حيث تنوعت خطط المحافظة بين الأسلوب الفردي بترميم مبان منفردة، أو بالاتجاه الشامل بالمحافظة على مناطق بأكملها كما هو الحال في جدة القديمة ذات التراث الحضاري والعمراني الفريد حيث شملت عملية الترميم المباني السكنية والتجارية والحرفية والثقافية والدينية والاجتماعية إضافة إلى تجديد شبكة الخدمات والبنية التحتية ، في مكة المكرمة كانت هناك بعض المحاولات للمحافظة على التراث العمراني فيها حتى لا تضيع وسط موجة التطوير الذي تشهده المدينة المقدسة من توسعات في الطرق وشق الأنفاق وغيرها، ولذلك كانت هناك محاولة لتوثيق مجموعة من المباني التقليدية ذات القيم التراثية، وأخيراً وبعد أن كادت هوية مكة المكرمة أن تضيع تدارك المسئولين في الأمانات والبلديات أهمية اتخاذ الإجراءات اللازمة نحو حماية العمارة المحلية فيها، وتبعاً لذلك أصبحت العمارة المحلية في مكة المكرمة شأنها شأن غيرها من مدن المملكة يتجاذبها اتجاهين الأول باسم الحداثة والتحرر من القديم وعدم الالتفات إليه والسعي إلى تقديم إبداع يناسب التطور في جميع المجالات، واتجاه آخر يدعو إلى المحافظة على هذا التراث الفريد حتى لا يضيع وسط موجة التطور والتجديد وذلك بالسعي لتقديم عمارة معاصرة ومنتمية في حدود الامكانات ومعطيات العصر، وقد وجدت هذه المبادرة صدى على المستوى الشعبي وأيضاً على مستوى المعماريين والمخططين بالمكاتب المعمارية الوطنية إلى حد كبير، ولم تكن هذه الدعوة مجرد دعوة للاقتباس من المفردات التشكيلية التراثية مجردة من المضمون أو تظاهراً بالأصالة، ولكنها دعوة إلى قيم وثوابت ومبادئ لا يمكن تجاهلها أو إغفالها، وآخر هذه المحاولات هي محاولة ترميم بعض المباني التقليدية، وكلها محاولات للمحافظة على التراث تحتاج إلى تقويم وتحليل.

الاكثر قراءة في الجغرافية الحضارية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة