أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-04-2015
2013
التاريخ: 2023-12-17
1547
التاريخ: 12-10-2014
1920
التاريخ: 12-10-2014
2642
|
أن علوم القرآن مما لا يستغنى عنها في تفسير القرآن ، وقد رأينا في المباحث السابقة أن الطباطبائي فيما أسس له من مواقف ورؤى قرآنية ، إنما كان نتيجة اهتمامه بعلوم القرآن ، فأثرت في منهجه التفسيري إلى حد أنه ما كان ليستطيع أن يقدم على تفسيره العظيم لولا أنه استوعب هذه العلوم ، ورأى أن فيها ما يوجب على كل مفسر أن يتخذ من القرآن حكماً في قبول أو رفض ما تناهى إليه القوم في كثير من الآراء والنظريات الدينية ، فضلاً عما انتهوا إليه من تفاسير قرآنية تجاوزت المئات ، وهي بدل أن تكشف الكنوز القرآنية والحقائق الدينية نجدها في الكثير مما انتهت إليه قد أعمت الكثير من هذه الحقائق ، وذلك بسبب الإنصراف عن المقاصد ، والإنحياز للمذاهب على نحو ما طالعتنا به الكثير من التفاسير القرآنية ، التي رأى الطباطبائي أنه كان من الممكن ، فيما لو اهتدت إلى المسالك الصحيحة ، أن تتقدّم الكثير في مجال الرؤى الدينية ، ولكنها غفلت عن ذلك فآل بها الأمر إلى أن تكون مجرد مناظرات وتأويلات في اللغة والبلاغة والرواية ، وغير ذلك مما لا بد منه في التفسير ، إلا أنه لا ينبغي أن يكون مقصوداً بذاته ، كما فعل الكثير من المفسرين .
وانطلاقاً من ذلك ، فإن الطباطبائي وجد في علوم القرآن سبيلاً إلى تحقيق الغاية المرجوة ، وقد سبق لنا أن عرضنا لتأثير كل من علم المكي والمدني ، وعلم أسباب النزول على منهج الطباطبائي في التفسير ، وفي هذا المبحث سنبين أثر علم الناسخ والمنسوخ في منهجه نظراً لما لهذا المبحث من أهمية في علوم القرآن ، إذ من دونه تستحيل الأحكام ، وتزلّ الأقدام ، على اعتبار أن الناسخ والمنسوخ له ارتباط وثيق بعلم أسباب النزول ، ويأتي في طليعة العلوم القرآنية التي لا بد من الإحاطة بها للاهتداء إلى ما أمر الله به ونهى عنه . ومن هنا تتبدى لنا خطورة الناسخ والمنسوخ ، ومما روى عن الصادق (عليه السلام) أنه قال لبعض متفقهة أهل الكوفة : أنت فقيه أهل العراق ؟ قال : نعم . قال : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيِّه . فقال له الإمام (عليه السلام) : «أتعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : نعم . قال : لقد ادّعيت علماً ، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهله» (1) .
ومما تجدر ملاحظته في الحديث المتقدم عن الصادق (عليه السلام) أنه سأل عما إذا كان يعرف الناسخ من المنسوخ دون غيره ، رغم أنه (عليه السلام) في أحاديث كثيرة تواترت عنه ضمن كلامه ضرورة معرفة علوم القرآن الناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمحكم والمتشابه . . . وإذا كان لهذا التخصيص من معنى في سؤاله لفقيه أهل العراق ، فهو الإشارة إلى أهمية علم الناسخ والمنسوخ وتقدمه على سائر علوم القرآن الأخرى .
كما نلاحظ أيضاً ، أنه ما من فقيه أو مفسّر ، أو أصولي ، إلا وأعطى هذا العلم أهميته ، فالعلماء يصدّرون كلامهم دائماً بالقول : إنه لا يجوز لأحد أن يفسّر القرآن إلاّ بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ ، مستدلين على ذلك بما قال الإمام علي (عليه السلام) لرجل في جامع الكوفة ، وقد تحلق حوله الناس يسألونه ، وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالخطر ، فقال له الإمام (عليه السلام) أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا . قال (عليه السلام) : هلكت وأهلكت (2) .
وهكذا ، فإن ما سنحاول التعرف إليه في هذا المبحث هو ما أضافه السيد الطباطبائي في علم الناسخ والمنسوخ ، وأثر هذا العلم في منهجه التفسيري ، حيث سبق لنا أن ذكرنا أن لعلوم القرآن دوراً مميزاً وبارزاً في منهج المفسّر ، وهذا ما يبرزه المفسّر في تفسير الآيات المباركة التي تتحدث عن النسخ ، كقوله تعالى : ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة : 106] ، وقوله تعالى : ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ ، وقوله تعالى : ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد : 39] .
وقد لا يكون من المبالغة في شيء القول بأن الطباطبائي أضاف شيئاً جديداً ومميزاً عما ذهب إليه المفسرون في تفسير هذه الآيات المباركة ، وقد تبدى هذا الجديد فيما عرض له المفسّر في معنى الآية والنسخ ، وأن الآيات في إطلاقها تطال كل ما هو تشريعي وتكويني ، هذا فضلاً عما ذهب إليه بقوله أن الآية قد تكون ذات جهة واحدة ، وقد تكون ذات جهات كثيرة ، فإذا ما نسخت في جهة ، فإنه يكون لها من جهاتها الأخرى كل معانيها ، كالآية في القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ، مع ما لهذا المعنى من ارتباط بالسياق القرآني وما يقدمه من مدلولات في إطار الكشف عن المراد بالظاهر من الآيات المباركة ، إلى غير ذلك مما ذهب إليه المفسر في معنى التنافي بين تشريعين وقعا في القرآن ، والنسبة بين الناسخ والمنسوخ ، واختلافها عما بين العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، إضافة إلى ما رآه من اشتمال كل من الناسخ والمنسوخ على المصلحة ، إلى غير ذلك مما جعل من الطباطبائي أصولياً ومفسراً في آن واحد ، خلافاً لما زعمه البعض أن الطباطبائي غلّب الطابع الفلسفي والعرفاني في تفسيره على الطابع الأصولي والفقهي . فإذا صح أن المفسر لم يتطرق إلى المباحث الفقهية ، فذلك مما ذكره بنفسه في مقدمة تفسيره . أما أنه لم يُعطِ علم الأصول حقه ، فذلك مما زعمه آخرون ولم يتثبتوا منه ، وهذا ما سيكون موضع اهتمامنا في هذا المبحث . فنقول : إن الطباطبائي لخص كلامه في تفسير ما تقدم من آيات قرآنية على النحو الآتي :
أولاً : إن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات ، وهذا ما عرضنا له في البحث السابق .
الثاني : إن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ .
ثالثاً : إن الناسخ مشتمل على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة .
رابعاً : إن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته ، وإنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة . . .
خامساً : إن النسبة التي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص ، وبين المطلق والمقيد (3) . . . وقبل أن نعرض لهذه العناوين بشيء من الإيجاز المفيد ، لا بد أن نتحدث عما أجمع عليه الفقهاء فيما يتعلق بشروط النسخ ، لأنه كثيراً ما اشتبه على بعض الباحثين تحديد معنى النسخ ، ولعل ما أشار إليه الخوئي في بيانه كافٍ لتحديد هذا المعنى ، فهو يقول : «النسخ هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه ، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع في الأحكام التكليفية أم الوضعية . . وإنما قيدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجاً ، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان ، وارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها . . . فإن هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمى نسخاً ، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه ، ولا خلاف فيه من أحد . . (4) .
ولتوضيح ذلك يقول السيد الخوئي : إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت :
أحدهما : ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء (5) .
ثانيهما : ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعلياً بسبب فعلية موضوعية خارجاً (6) .
ولا شك في أن المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ في المعنى المتنازع فيه . رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء ، وخالف في هذا اليهود والنصارى ، فادعوا استحالة النسخ . . . هذا فيما يعود إلى معنى النسخ في الاصطلاح . أما فيما يعود إلى شروط النسخ ، فقد أوضح الفقهاء في مجال هذا البحث ، أن من شروط النسخ أن يتحقق الآتي :
أولاً : تحقق التنافي بين تشريعين وقعا في القرآن ، بحيث لا يمكن اجتماعهما في تشريع مستمر ، تنافياً ذاتياً (7) . أما في صورة عدم التنافي بين آيتين ، كما في آية الإنفاق وآية الزكاة ، فلا نسخ أصلاً (8) .
ثانياً : أن يكون التنافي كلياً على الإطلاق لا جزئياً وفي بعض الجوانب ، فإن هذا تخصيص في الحكم العام ، وليس من النسخ في شيء (9) .
ثالثاً : أن لا يكون الحكم السابق محدداً بأمد صريح ، حيث الحكم بنفسه يرتفع عند انتهاء أمره ، من غير حاجة إلى نسخ ، وهذا ما عبر عنه السيد الخوئي بارتفاع الموضوع خارجاً ، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان .
رابعاً : أن يتعلق النسخ بالتشريعات ، إذ لا نسخ فيما يتعلق بالأخبار . . .
وهكذا الإباحة الأصلية ترتفع بحدوث التشريع من غير أن يكون ذلك نسخاً ، حيث تلك الإباحة لم تكن تشريع ، وإنما كانت بحكم العقل الفطري (البراءة العقلية) ، فموضوعها : عدم التشريع فترتفع بالتشريع ، عموماً يمكن القول : إن هذه الشروط مشمولة بما ذكره السيد الخوئي في معنى النسخ وعدمه ، وقد فصلنا القول فيها لمنع الاشتباه ، وتحقيق الغاية من هذا البحث عن السيد الطباطبائي لمعرفة ما إذا كان السيد متمايز عن سواه فيما يعود إلى أثر هذا العلم في منهجه ، وما هو الجديد في رؤيته التفسيرية على علم الناسخ والمنسوخ . ولهذا ، فإن أول ما ينبغي الإشارة إليه هو قول الطباطبائي بأن وضع حكم مؤقت في حين لم تتم مقتضيات الحكم الدائم ثم وضع الحكم الدائم وإبدال الحكم المؤقت به ، شيء ثابت لا إشكال فيه (10) .
إن أهم ما ذهب إلي الطباطبائي في علم الناسخ والمنسوخ ، هو أنه لا يرى أن السنة بنوعيها المتواتر والآحاد تنسخ القرآن (11) ، وهذا الذي يذهب إليه المفسّر وإن لم يكن جديداً ، إلاّ أنه بنى على رؤية تفسيرية جديدة للآيات لم تكن ملحوظة عند قدماء الفقهاء كالشيخ المفيد ، الذي لم يكن يرى أن القرآن ينسخ بالسنة ، بل القرآن ينسخ بعضه بعضاً ، والسنة تنسخ به ، كما تنسخ السنة بمثلها من السنة (12) . . .
فالطباطبائي يرى أن هذا النسخ ، فيما لو قال أحد به ، مخالف للأخبار المتواترة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه والرجوع إليه ، وهذا قول نسب أيضاً للشافعي ، الذي رأى أن كتاب الله إنما ينسخ بالكتاب ، وهكذا السنة لا ينسخها إلاّ سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (13) .
إذاً المقياس عند الطباطبائي لمعرفة الناسخ والمنسوخ هو القرآن الكريم ، لكونه الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو تبيان لكل شيء ، ومن شأن التدبر فيه التحقق من طرفي الناسخ والمنسوخ اللذين يتحقق بهما النسخ ، كما مر معنا في البند الثاني مما عرضه الطباطبائي . فهو يرى في تفسيره ، ووفاقاً لمبتنياته الأصولية ، أن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي ، هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما . وقد ميز الطباطبائي بين الرافع للتنافي الحاصل بين الناسخ والمنسوخ من جهة وبين الرافع للتنافي الحاصل بين العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين من جهة أخرى باعتبار الثاني هو قوة الظهور الموجودة في الخاص والمقيد والمبين بالنسبة لما يقابلها من العام والمطلق والمجمل (14) . . . ولا شك في أن تركيز المفسّر على تمييز الناسخ والمنسوخ عن سائر العلوم الأخرى ، إنما يأتي في سياق اعتباره أن القرآن لا ينسخ بالسنة بنوعيها المتواتر والآحاد ، وأن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى ، فمرة تكون هذه الآية الناسخة ناظرة إلى الحكم المنسوخ ومبينة لرفعه ، ومرة أخرى تكون هذه الآية الناسخة غير ناظرة إلى الحكم المنسوخ ، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة (15) . ولهذا ، نجد المفسّر يعقد فصلاً كاملاً من بحوثه الروائية لتبيان تهافت ما ذهب إليه المفسرون وعلماء الأصول بشأن نسخ قوله تعالى : ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ (16) ، فهو يرى أن ما ذهبوا إليه من قول بأن هذه الآية نسخت بآية المؤمنون : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ ، لا يصلح للنسخ باعتبارها مكية ، وآية المتعة مدنية ، يقول الطباطبائي : «ولا تصلح المكية لنسخ المدنية . . . وأما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث وآية الطلاق . . . ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ ، بل نسبة العام والمخصص ، أو المطلق والمقَيّد . . . نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات والنفي إلى أن العام ناسخ للخاص ، لكن هذا مع ضعفه غير منطبق على مورد الكلام ، وذلك لورود آيات الطلاق ، وهي العام في سورة البقرة ، وهي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة . . . فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال . . .» (17) .
وفي هذا النص ، كما أسلفنا سابقاً ، يظهر المفسّر ، مناقشة مع الأصوليين فيما ذهبوا إليه في معنى النسخ والتخصيص (18) ، ويحصر مراده في الآيات القرآنية ، انسجاماً مع منهجه في التفسير ، ثم يعقّب ذلك بالبحث الروائي ليبين أن النسخ بالسنة مما لا يستقيم لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة ، الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه ، والرجوع إلى الكتاب ، فالسنة ، على ما يبدو ، من كلام المفسر ، مفسرة للكتاب وليست ناسخة له ، وقد ذهب السيد الخوئي ، وغيره من الفقهاء إلى خلاف ذلك ، على اعتبار أن الإجماع القطعي الذي يعني عند الإمامية ، الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم ، الذي هو سنة في أصله (19) .
أما فيما يتعلق بكلام الطباطبائي أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال ومصلحة ، فهذا مما عرض له المفسّر في سياق الحديث عما يكون من تنافٍ بين الناسخ والمنسوخ بحسب الظهور اللفظي ، فتكون الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة ، ولتوضيح موقفه من النسخ نراه يميز ويفرق بين النسخ وبين سائر العناوين الأخرى في عموم وخصوص ومجمل ومبين ، على اعتبار أن الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ هو الحكمة والمصلحة التي يشتمل عليها (20) ، فلا يرى ثمة تعارض أو تناقض فإن قلت : فما تقول : في النسخ الواقع في القرآن وقد نص عليه القرآن نفسه ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ ، وهل النسخ إلا اختلاف النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المعارضة في القول ؟ يجيب الطباطبائي : «النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول وهو ظاهر ، كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر والحكم ، وإنما هو ناشئ من الإختلاف في المصداق من حيث قبول انطباق الحكم يوماً لوجود مصلحته فيه وعدم قبوله الانطباق يوماً آخر لتبدل المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكماً آخر ، ومن أوضح الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومئ إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى : ﴿ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ [النساء : 15] يقول الطباطبائي : انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الأخيرة (21) ، والآيات المنسوخة ، كما يرى الطباطبائي لا تخلو من إيماء إلى النسخ ، كما في قوله تعالى : ﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [البقرة : 109] ، المنسوخ بآية القتال ، وقوله تعالى : ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ [البقرة : 14] ، المنسوخ بآية الجلد ، فقوله تعالى : ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ ، وقوله : ﴿ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ ، لا يخلو من إشعار بأن الحكم مؤقت مؤجل سيلحقه نسخ ، ولا يعني هذا أن ما يفيد الغاية في الآيات المنسوخة هو مبنى النسخ لدى المفسر ، وإنما هو مشعر به وملوح إليه ، إذ إن الغاية تعد من المخصصات الكلامية ، وهذا ما يراه المالكية والشافعية والحنابلة ، أما الحنفية ، فهم لا يعتبرونها مخصصات ، وإنما هي جزء من الكلام متصلة به لا غنى لها عنه ، ولا استقلال لها من دونه (22) .
بهذا أجاب الطباطبائي على ما يعنيه التنافي بين النصوص ، أو على ما إذا اقتضى أحد الدليلين المتساويين في القوة نقيض ما يقتضيه الآخر ، إذ هو يرى أن التعارض هو في الظاهر ، وليس تعارضاً حقيقياً ، لأن كلام الله تعالى منزه عن الإختلاف ، كما قال الله تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [النساء : 82] . فالتعارض عند المفسر ، هو مبنى النسخ ، ويمكن من خلال التدبر في كتاب الله تعالى ، أن يرفع التعارض ، وكما يقول الأوسي في بيان هذا المعنى عند الطباطبائي : إنه في الواقع لا يوجد تعارض حقيقي بين آيات الكتاب ، إذ إن ترتب النسخ على وقوعه دليل على أنه لم يبق بين النصين تعارض حقيقي من حيث أن الحكمين أحدهما منسوخ بالآخر يجب أن يختلف زمن العمل بهما ، فاتحاد الزمان بين الحكمين ، وهو شرط لتحقق التعارض ، مانع من النسخ ، واختلاف الزمن فيهما ، وهو شرط لوقوع النسخ ، مانع من التعارض (23) .
وهكذا ، فإن معنى تحقق المصلحة هو أن ينظر دائماً إلى اختلاف المصاديق من حيث قبول انطباق الحكم أو عدمه ، لأن المصلحة كامنة سواء في النسخ ، أم في المنسوخ ، ولهذا ، نجد أن الطباطبائي يعرض لكيفية التنافي بينهما ، أي بين الناسخ والمنسوخ ، فيرى أنه بحسب الصورة هو منافٍ له ، ويرتفع التناقض بينهما لجهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة ، فإذا توفي نبي وبعث نبي آخر ، وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر ، كان ذلك جرياناً على ما يقتضيه ناموس الطبيعة في الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار وتكامل أفراد الإنسان . وهكذا الحال فيما إذا نسخ حكم ديني بحكم آخر ، فإن هذا النسخ مشتمل على مصلحة الدين ، وكل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت . . . (24) .
وانطلاقاً مما تقدم ، نرى أن المفسر يرد الكثير من دعاوى الناسخ والمنسوخ من خلال القرآن وليس من خلال أي شيء آخر ، لكونه يرى كفاية بالقرآن لقبول أو رد الأخبار ، ومن جملة ما رده كما بين في تفسيره ، دعوى ابن عباس أن قوله تعالى : ﴿ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ ﴾ ، ﴿ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ، منسوخة بقوله تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ ، وقد رد الطباطبائي دعوى النسخ لكون النسبة بين الاثنتين ليست نسبة الناسخة إلى المنسوخة ، مبيناً أن الآية الثانية لا تنافي في مضمونها مضمون الآية الأولى ، فإن الأكل في الآية الأولى المجوزة مقيد بالمعروف ، في حين أن الثانية محرمة بالظلم ، ولا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف ، وتحريم الأكل ظالماً . وعليه ، فإن الآية غير منسوخة (25) .
وهنا تبدو لنا ملاحظة عجيبة ، وهي كيف يمكن أن يطمئن الباحث إلى ما يختزنه التاريخ الإسلامي من روايات بشأن الناسخ والمنسوخ ، طالما أن ابن عباس لم يتمكن من تمييز الناسخ من المنسوخ ، أو أنه لم يعرف كيف يميز بين ما هو معروف ، وما هو ظلم؟ وهذا ما يتهمه به الطباطبائي (26) ، ولعل هذا هو منشأ أن يأخذ الطباطبائي بعلوم القرآن إلى القرآن ، ليكون سبيله الوحيد إلى معرفة الناسخ والمنسوخ ، وغيره مما اختلف فيه بين المسلمين ، والذي لا يزال موضع خلاف بينهم حتى عصرنا الحاضر ، وهو سيبقى إلى أن يرث الله الأرض وما عليها . هذا ملخص عام لما أثبته الطباطبائي فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ، سواء في عالم التكوين ، أم في عالم التشريع . أما فيما يتعلق بصنوف النسخ الأخرى في القرآن ، من قبيل نسخ الحكم والتلاوة معاً ، أو نسخ التلاوة دون الحكم ، وغير ذلك ، فهذا مما لا سبيل إليه عند الطباطبائي ، لكونه يؤسس علومه القرآنية على أساس متين ، وهو قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [النساء : 82] .
فالطباطبائي لا يكترث في تفسيره للقرآن ولا في موقفه الأصولي لما حاول بعض القدامى من أهل الحديث أن يثبتوه في مصنفاتهم بأن هذا النوع من النسخ ، ونعني به نسخ الحكم والتلاوة معاً ، قد وقع في القرآن بأن تسقط منه آية ذات حكم تشريعي ، ولكن الطباطبائي لا يرى ذلك صحيحاً ، وهو مرفوض عنده على اعتبار أن القرآن قد أسقط هذه الدعاوى ، بقوله تعالى : ﴿ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت : 42] . وقد فصل الكلام السيد الخوئي في الرد على هذه المزاعم ، مبيناً أن هذا الأمر شيء غريب ، ولا يمكن الالتزام به ، لأن من شأن الالتزام به القول بتحريف القرآن ، بأن آية ذات حكم تشريعي ، كانت تتلى حتى وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثم نسيت أو سقطت ، وهذا ما تنكره جماعة المسلمين قاطبة ، فضلاً عن الطباطبائي الذي جعل مرجعه في الحكم على هذا كله القرآن الكريم ، فإذا ما قلنا بوقوع ذلك ، فكيف السبيل إلى علوم قرأت لا يداخلها ريب ، أو إلى أحكام شرعية مطمئن إليها . ثم أين هذا كله من قوله تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر : 9] .
هناك صنف آخر من صنوف النسخ ، وهو القول بنسخ التلاوة دون الحكم ، وهذا أيضاً مرفوض عند الطباطبائي ، لكونه على غرار الصنف الأول بلا فرق ، لأن القائل به إنما يتمسك بأخبار آحاد زعمها صحيحة الاسناد ، ساهياً عن أن نسخ آية محكمة لا يمكن إثباته بأخبار آحاد لا تفيد سوى الظن ، وإن الظن لا يُغني عن الحق شيئاً . وكما نعلم أن مفاد هذا النسخ هو سقوط آية من القرآن كانت تقرأ ، وكانت ذات حكم تشريعي ، ثم نسخت ومحيت ، لكن حكمها بقي مستراً غير منسوخ ، وهذا يعني فيما يعنيه ، إذا ما التزم به أن تكون هناك آيات منسية ، ويعمل بها ، وهذا قول صريح أيضاً بتحريف القرآن ، وهذا ما عبر عنه السيد الخوئي القول : «أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد ، كما أن القرآن لا يثبت به ، وذلك لأن الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس وانتشار الخبر عنها ، لا تثبت بخبر الواحد ، فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه ، وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم في القرآن ، وأنها نسخت؟ نعم جاء شخص بآية الرجم وادّعى أنها من القرآن ، لكن المسلمين لم يقبلوا منه ، لأن نقلها كان منحصراً به ، فلم يثبتوها في المصاحف ، لكن المتأخرين التزموا بأنها كانت منسوخة التلاوة باقية الحكم» (27) .
لا شك في أن هذا النوع من النسخ يرفضه الطباطبائي ، ويرى فيه تحريفاً للقرآن ، وقد تحدى الله بعدم وجود الاختلاف فيه ، فالآية تفسّر الآية ، والبعض يبين البعض ، والجملة تصدق الجملة ، ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحة ومن حيث الاتقان والمتانة ، فكيف يمكن إثبات هذا النسخ بخبر جاء من هنا وهناك؟ وعموماً ، فإن السنة بنوعيها المتواتر والآحاد لا تنسخ القرآن (28) ، وفي مطلق الأحوال ، فقد أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ، باعتبار أن الظني لا يقاوم القطعي فيبطله ، على ما أفاد الشاطبي (29) .
____________________________________
|
|
دراسة تحدد أفضل 4 وجبات صحية.. وأخطرها
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تحتفي بذكرى ولادة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
|
|
|