أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-03-2015
2262
التاريخ: 25-03-2015
5259
التاريخ: 25-03-2015
1446
التاريخ: 24-09-2015
7983
|
هذا
الباب مما فرعه قدامة أيضاً من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وسماه هذه التسمية، وشرح
تسميته بأن قال: هو أن يريه المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ويعبر
عنه بلفظ هو ردفه وتابعه أي قريب من لفظه قرب الرديف من الردف، مثل قوله تعالى: ( وَاسْتَوَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ) فإن حقيقة ذلك وجلست على هذا المكان، فعدل عن لفظ المعنى
الخاص به إلى لفظ هو ردفه، وإنما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ
الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من قولك جلست أو
قعدت أو غير ذلك من ألفاظ الحقيقة، إذ كان المراد والله أعلم الإخبار ينفي الأسباب
الموجبة خوف أهل السفينة من السفينة في حالتي حركتها وسكونها، وذلك لا يحصل حتى
يفهم السامع أنها جلست جلوساً متمكناً لا يمل فيه يوجب الخوف، ولا يحصل إلا بلفظ
الاستواء دون غيره، وقد جاء في السنة من أمثلة هذا الباب قول النبي صلى الله عليه[وآله]
وسلم حكاية عن بعض النسوة في حديث أم زرع حيث قالت: زوجي رفيع العماد، عظيم
الرماد، قريب البيت من المناد فإنها أرادت مدح زوجها بتمام الخلق والتقدم
على قومه ونهاية الكرم، ولو عبرت عن هذه المعاني بألفاظها لاحتاجت بإزاء كل معنى
لفظاً يخصه، فتكثر الألفاظ، ولا يدل كل لفظ إلا على معناه فقط، وألفاظ الإرداف كل
لفظ منها يدل على جميع ما أرادت من صفات المدح على انفراد، لا، قولها رفيع العماد
يدل على تمام الخلق إذ بناء البيوت على مقادير أجسام الداخلين لها غالباً، ويدل
على عظم قدر صاحبه، إذ لا يقدر على أن يرفع بيته على البيوت إلا من قدره مرتفع على
الأقدار، ويدل على الكرم أيضاً، لأن الوفود والضيفان يعمدون إلى قصد البيوت
المرتفعة دون بيوت الصرم وكذلك عظم الرماد يدل على عظم القدر وعظم الكرم وكثرة
الثروة، ومثله قولها قريب البيت من الناد ليسبق إلى الضيف، لأن
الضيف يقصد النادي، وهو موضع مجمع رجال الحي للحديث، فإذا كان البيت قريباً منه
كان صاحبه إلى الضيف أسبق، ولا تحصل هذه المعاني إلا من لفظ الإرداف، فإن قيل:
فإذا كانت كل لفظة من ألفاظ الإرداف تدل على عدة معان فما الفرق بين الإرداف والإشارة؟
قلت: لفظ الإرداف يتضمن مع الدلالة على المعاني الكثيرة زيادة مدح للمدوح، ووصف
للموصوف، ولفظ الإشارة لا يتضمن إلا الدلالة على كثرة المعاني فقط.
ومن
شواهد هذا الباب الشعرية قول امرئ القيس [طويل]:
ويضحي
فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن
تفضل
فإنه
أراد أن يصف هذه المرأة بأنها مخدومة، لها من يكفيها أمر بيتها، فعبر عن ذلك بلفظ
يدل على أنها موصوفة بالنعمة ودقة البشرة واقتبال الشباب وكثرة الحظوة وعظم
الثروة، فعدل عن لفظ هذا المعنى الذي أراده إلى لفظ هو ردفه حيث قال: [طويل]
ويضحي
فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى .. ...
... ....
لأنها
لا تنام الضحى إلا وهي مخدومة عندها من يكفيها أمر بيتها، فهي لا تباشر الأعمال،
ولذلك تكون منعمة مرفهة غير شظفة ولا ممتهنة، ألا تراه أكد ذلك بقوله: لم
تنتطق عن تفضل أي لم تشد في وسطها نطاقاً على ثوبها الذي تنام فيه كفعل من
يريد أن يعمل عملاً من النساء، ودل قوله:
ويضحي
فتيت المسك فوق فراشها...
على
أنها حظية عند الرجال المثرين، وأنهم في غاية الميل إليها مع القدرة بالثروة على
الاستكثار من حرائر النساء ومن الإماء، إما لإفراط جمالها، أو لسعد جدها، وأنها
ممن يسمح لها من أعلى الطيب وأغلاه بما يبقى فتيته في صبيحة كل ليلة على فراشها،
بعد ما يتصعد منه ويلصق بجسمها. ويعلق بشعرها وبشرتها؛ ولا يعطي قوله: إن هذه
المرأة لها من يخدمها جميع ما يعطيه قوله: نؤوم الضحى فإن هذا اللفظ
مع دلالته على أنها مخدومة يدل على كثرة النوم الذي لا يكون إلا من غلبة الدم
الطبيعي في سن النمو، وطبيعة الدم حارة رطبة، وهي طبع الحياة ومادتها. فيكون اللون
به مشرقاً، والماء في الوجه كثيراً، والأخلاق حسنة، لأجل اعتدال المزاج، ولو ترك
لفظ الإرداف وعبر عما قصده باللفظ الخاص وهو قوله: إنها مخدومة لم تحصل هذه المعاني
التي حصلت من لفظ الإرداف، وكذلك لو قال: إنها من أهل الثروة لم يوف بما أراد من
كونها معشقة للمثرين من الرجال، مع القدرة بالثروة على الاستكثار من النساء، وأنها
ممن يسمح لها بذلك، فوجب العدول عن لفظ المعنى إلى لفظ الإرداف، لدلالته مع
اختصاره على المعاني التي لا يدل عليها لفظ الحقيقة، ولما يتضمن من زيادة الوصف،
وقد انتحل ابن رشيق أحد أسمى هذا الباب وهو التتبيع وأفرده بابا من الإرداف، وزعم
أن غيره واستشهد عليه بشواهد فيها ما لا يمس به ألبتة، وبقيتها لا يعقل الفرق بينه
وبين شواهد الإرداف، وهو يظن أنه قد فرق بينهما منها قول المتنبي [طويل]:
إلى
كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام
وقال:
أعني ابن رشيق دل هذا البيت على الشجاعة بلفظ الإرداف، ودل على الكرم بلفظ التتبيع
يعني أن الإرداف اشتقاقه من الردف فلفظه أقرب إلى لفظ المعنى؛ والتتبيع: من
التتابع، والتابع يكون قريباً ويكون بعيداً. ويعد ذلك على قدامة من أغاليطه وهو
أولى بالغلظ منه، لأن التتبيع وإن كان في نفس الأمر كما ظنه لكنه في هذا الموضع
أراد به التابع القريب بدليل أنه ذكره بلفظ التفعيل الدال على النكتتين، ولو لم
يقصد ذلك لقال: الإتباع دون البعيد فإن الألفاظ إذا كانت من أجل الوضع تدل على
معنيين بحيث لا يتخلص إلى أحدهما دون الآخر إلا بقرينة، كانت حال اقترانها
بالقرائن مخلصة للمعنى الذي تدل عليه القرينة.
وقدامة
أتى بلفظ التتبيع مقترناً بالإرداف، فعلم أنه أراد التابع القريب والرديف تابع
قريب، فلا فرق بينهما في هذا الموضع.
وأما
بيت المتنبي الذي أتى به ابن رشيق ليكون دليلاً له فهو دليل عليه، لأنه عكس ما
فسره به، وذلك أن اللفظ الدال فيه على الكرم هو الذي يجب أن يسمى إردافاً لأنه
أقرب إلى لفظ الكرم، لكونه صرح فيه بلفظ الهبة، واللفظ الدال على الشجاعة بعيد من
لفظ الشجاعة بالنسبة إلى لفظ الكرم، وقدامة رأى الفصحاء قد دلوا تارة على مقاصدهم
بألفاظ قريبة من الألفاظ الموضوعة لتلك المقاصد، وطوراً بألفاظ بعيدة من الألفاظ
الموضوعة لتلك المقاصد فسمي الأول إردافاً، والثاني تمثيلاً، لأن المثل وإن وجد
قريباً من المثل وبعيداً فلا يبلغ قرب التابع القريب ولا الرديف، وسيأتي بيان ذلك
في الباب الذي يلي هذا الباب، والله أعلم.
وأخذ
ابن الأثير يؤيد ما ذكره ابن رشيق بأن قال: وفي الألفاظ ما يدل على المعنى بظاهره،
وفيها ما يدل على المعنى بتأويله، والأول هو الإرداف، والثاني هو التتبيع، ومثال
الأول قول عمر بن أبي ربيعة [طويل]:
بعيدة
مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
وقال:
بعد مهوى القرط يفهم منه طول العنق بغير تأويل، بخلاف قول المتنبي:
إلى
كم ترد الرسل عما أتوا له...
فإن
صدر هذا البيت لا يدل على الشجاعة بظاهره، وإنما يدل عليها بالتأويل.
ولو
رأى ضياء الدين رحمه الله كتابه الذي سماه تزييف النقد، يرد به على قدامة رأى
كتاباً يحلف الحالف صادقاً أنه ما تكلم فيه بحرف واحد إلا وهو مطبق الجفون ليس له
وقت إفاقة ألبتة.
وأما
كلامه في هذا الفصل فما هو عندي بالبعيد من كلامه في هذا الكتاب الذي أشرت إليه.
وأما
قول ضياء الدين رحمه الله تعالى: إن مهوى القرط يدل على طول العنق بغير تأويل، فكل
مميز من بني آدم يعلم أن قولنا: طويلة العنق يفارق قولنا: بعيدة مهوى القرط من جهة
أن الأول علامة لطول العنق، متى سمع فهم منه هذا المعنى، بخلاف قوله: بعيدة مهوى
القرط، فإنه لا يفهم منه معنى طول العنق إلا بالتأويل، وهو أن قرطها إنما كان بعيد
موضع الهبوط لطول عنقها، فدلالة الأول دلالة مطابقة، ودلالة الثاني دلالة التزام،
وكذلك قول المتنبي:
إلى
كم ترد الرسل...
فإنه
أيضاً يدل على الشجاعة بالتأويل، فقد استويا في الدلالة على المعنى بالتأويل، إذ
لا يصلح واحد منهما أن يدل على المعنى بظاهره، فلا فرق بينهما من هذا الوجه، وإنما
الفرق بينهما من جهة القرب والبعد، فإن لفظ بعد مهوى القرط أقرب إلى لفظ طول العنق
من لفظ رد الرسل إلى لفظ الشجاعة، فلا جرم أن الأول يسمى إردافاً، والثاني يسمى
تمثيلاً، لقرب الإرداف من لفظ المعنى، وبعد التمثيل من لفظه، وليس العجب من كون
هذا الموضع أشكل على ابن رشيق، فإنه قد أشكل عليه ما هو أوضح منه، وإنما العجب كيف
يمشي على ضياء الدين رحمه الله مع رجاحة عقله، وثقوب ذهنه، وسلامة حسه والله أعلم.