أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-10-27
1094
التاريخ: 2024-09-18
500
التاريخ: 2023-10-01
1370
التاريخ: 2024-11-15
478
|
كانت حالة الروسيا قبيل تسلم بطرس الاكبر مقاليد الحكم متأخرة في جميع المجالات الاقتصادية. فالمواصلات فيها سيئة، والحياة الزراعية التي يعمل فيها قطاع واسع من عامة الشعب تكاد تكون بدائية، اما التجارة الخارجية فقد كانت شبه معدومة نظراً للموقع الجغرافي وللحصار الدولي الذي كان مفروضاً على الروسيا من جهات العثمانيين والبولنديين والسويديين. ولهذا فان مواردها الاساسية تنحصر في وفرة الاخشاب وفراء الحيوانات والمواشي وبعض المنتوجات الزراعية.
ولما كان الوضع الاجتماعي يرتبط بالحالة الاقتصادية فقد كان يسود البلاد مجموعة من العادات والتقاليد عمل على تكريسها وتغذيتها الحكام القياصرة والطبقة النبيلة المسيطرة على مقاليد السلطة بدافع الاستئثار بموارد الدولة الاقتصادية. هذا الوضع الاجتماعي كان ينعكس بدوره على مؤسسات الحكم والادارة والجهاز العسكري فانتشرت الرشوة والفساد والفوضى حتى بات الامر يدعو الى وجوب قيام حركة اصلاحية شاملة تقضي على التخلف الموروث.
لم يكن بطرس الأكبر يسير في تطبيق منهاجه الاصلاحي وفق مخطط معين ومرسوم سلفاً. اذ كانت حركته الاصلاحية مدفوعة بالرغبة في زيادة نفوذه وتمكين قبضته على طبقة النبلاء، ثم الاعجاب الشديد نحو كل ما هو اوروبي. ولهذا كان يعوزه التخطيط المنظم والتصميم المدروس والمنهاج الصحيح لتكون اصلاحاته ذات أثر عميق تنبع من الحاجة اليها أكثر مما تنبع من مصلحة شخصية او نزوة آنية.
أكتسب بطرس الأكبر الرغبة في الاصلاح من خلال اطلاعه على الحضارة الاوروبية عندما كان يتردد على الضاحية الالمانية في موسكو، وكذلك مما اكتسبه في طفولته عندما عُهد برعايته الى طائفة من المشرفين الاوروبيين اهمهم السويسري ليفور (Lefort) بالإضافة الى ان بطرس الأكبر قد لمس في رحلته الاولى الى اوروبا (1697) ، عندما ذهب في بعثة دبلوماسية بصورة متخفية الى هولندا وانكلترا و بروسيا، مظاهر الحياة الاجتماعية في هذه المجتمعات المتعددة مطلعاً على فنونها وعاداتها وتقاليدها وجوانب الحياة المدنية والسياسية والاقتصادية من خلال اتصاله بملوكها وعلمائها . ومتجولاً في مصانعها ومعاملها ومطابعها. حتى انه أمضى أكثر ايام رحلته يشاهد اعمال بناء السفن في امستردام ودتفورد (Deptford) محاولاً التعرف على اسرار المهنة. وهكذا عمل بعد عودته على استقدام المهندسين والخبراء والفنيين وعلى ارسال البعثات لاكتساب الخبرة في الفنون البحرية بغية بناء اسطول يعادل في قوته اسطول الهولنديين وانشاء جيش يقارع به خصومه في الداخل والخارج وإقامة جهاز اداري منظم ومتين كأحدث ما تكون عليه النظم الادارية.
ولما كان بطرس الأكبر ينشد في سياسته الخارجية فك الطوق المفروض على الروسيا. فقد نجح في بناء اسطول حربي كبير وعدد كبير من المصانع الحديدية وكذلك في تأسيس جيش قوي احتوى جميع طبقات المجتمع بعد ان فرض الزامية الخدمة العسكرية، وهيّأ له الاموال ومصادر التموين والمعدات اللازمة، وسن له القوانين الصارمة والعقوبات الشديدة للذين يفرون من المعركة او يتركون الجندية.
اما سياسة بطرس الداخلية فقد تركزت حول تقوية قبضته على جميع مؤسسات الحكم، وفعلاً مارس القيصر جميع صلاحيات السيادة المتمثلة بالسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. بالإضافة الى سلطة فرض الضرائب. وبذلك فاق النظام القيصري الذي لم يكن يحده اي قانون جميع نظم الغرب الأوروبي المعاصرة. له ويعود ذلك بطبيعة الحال الى تأخر نمو البورجوازية في الروسيا التي كان باستطاعتها مجابهة الطغيان القيصري، كما يعود الى الروح الوطنية التي كانت مهددة بين فترة وأخرى بالغزو الاجنبي، ثم الى التراث الكنسي الشرقي الذي أكد تفوق السلطة الزمنية، التي تعود الى تفويض الله على السلطة الروحية التي وُجد فيها تعبيره الخالص من قبل في حكم الاباطرة البيزنطيين. وانطلاقاً من تمسك بطرس الأكبر الشديد بجميع السلطات أصدر امراً بإلغاء مجلس الاعيان (Doma) المؤلف من الامراء الاقطاعيين وزعماء العائلات الكبيرة واستبدله بمجلس للشيوخ يأتمر بأوامره مكون من اهم وزراء القصر ومستشاريه وقلص حاشيته بطرد جيوش الخدم والطهاة والموظفين الذين لا لزوم لهم. كما انه عمد الى اضعاف سلطة رجال الدين الذين كانوا يقفون حائلاً دون اتمام برنامجه الاصلاحي. فألغى وظيفة البطريركية سنة 1700 وجعل نفسه رئيساً للكنيسة كما فعل من قبل هنري الثامن ملك انكلترا. وفي سنة 1721 وضع امور الكنيسة تحت اشراف مجلس ديني مقدس (Saint Synode) يمثل فيه الاساقفة والقساوسة ويرأسه موظف علماني يعينه القيصر. كما صادر املاك الكنيسة ووضعها تحت اشراف الدولة واخضع تعيين الاساقفة لموافقته وخفض عدد الاديرة وحول عائداتها الى المستشفيات ودور العجزة والمدارس. وبذلك لم يعد للكنيسة اي تأثير على السياسة العامة للبلاد. ومع هذا كان بطرس متسامحاً مع بقية المذاهب المسيحية ما دامت هذه لا تتدخل في أمور السياسة. فشيدت في عهده الكنائس الكلفينية واللوثرية والكاثوليكية في سان بطرسبورغ. اما الفئة الثالثة التي أضعف نفوذها بطرس الأكبر هي الحرس الروسي الذي قام بحركة تمرد عليه سنة 1698 اثناء غيابه في اوروبا لخوفهم من الحركة الاصلاحية التي لا بد ان تفقدهم مراكزهم ووظائفهم الممتازة. ولكن بطرس استطاع ان يقضي عليهم ويحل مؤسستهم خالقاً بذلك جواً من الرعب والهلع كان يحتاج اليه منذ بداية حكمه.
اما على الصعيد الاقتصادي فقد شملت اصلاحاته جميع مرافق الحياة الاقتصادية. فاهتم بأمور الزراعة الى حد فرض معه العمل على النبلاء أنفسهم. مما ادى الى زيادة ملحوظة في الاراضي المزروعة. كما انه استبدل الآلات الزراعية القديمة بآلات حديثة أكثر فعالية. ومع ذلك فانه رفض الغاء عبودية الارض بل انه فرض القوانين الصارمة على الاقنان الفارين من خدمة اسيادهم الاقطاعيين وبذلك امتد النظام الاقطاعي في الروسيا الى ما بعد القرن الثامن عشر. اما في المجال الصناعي فقد لجأ بطرس الى استقدام الاختصاصيين والعمال الصناعيين المهرة الاجانب وفرض القيود والرسوم الجمركية الباهظة على المصنوعات الاجنبية وساهم في تقديم المساعدات للمصانع وفي استثمار وأشرك الدولة في ادارة الكثير منها حتى انتشرت مصانع السفن والحديد والمنسوجات على مختلف انواعها اما التجارة فقد وجدت ايضاً تشجيعاً من بطرس الاكبر. فأعاد تأسيس النقابات تعزيزاً للتجار وتوطيداً لمكانتها في المجتمع الروسي وساهم كذلك في تكوين شركات انتاجية كبيرة لرفع معدلات التصدير. كما ألغى احتكار الدولة لبعض الصناعات تسهيلاً للتجارة الداخلية واقام علاقات تجارية مع جميع بلدان اوروبا وخاصة مع بلاد الصين. ثم كان بناء مدينة سان بطرسبورغ التي تعرف اليوم باسم لينينغراد، على ساحل البلطيق حلقة مهمة للاتصال مع الغرب واقامة علاقات تجارية وطيدة شمال اوروبا. هذه المدينة كانت خير ضمان لعدم انقطاع مع هذه العلاقات وهذا الاتصال الحضاري مع الغرب. ويعود الى بطرس الاكبر فضل شق الطرق وبناء الجسور ومد القنوات المائية وغيرها من المشاريع التي ازدهار الحياة الاقتصادية والنهوض من ظلامة العصور الوسطى.
لازم تنفيذ برنامج بطرس الأكبر الاصلاحي، اهتماماً بالغاً. بجميع مظاهر الحياة الاجتماعية. فالشعب الروسي كان شديد التمسك بعادات وتقاليد اجداده وشديد الحرص على التعلق بالخزعبلات والترهات التي كان يروجها رجال الدين والحكام السابقين. فأصدر مرسوماً منع بموجبه إطلاق اللحى التي كان الابقاء عليها يتم تمثلاً بالرسل والانبياء حتى ان شيوخ الروس كما يذكر أحدهم كانوا يحرصون على شعر لحاهم اشد الحرص بعد حلقه ليوضع في نعوشهم مخافة الا يسمح لهم بدخول الجنة بدونه (1). كما منع ارتداء الألبسة
الطويلة الشرقية الطراز لكونها تعيقهم عن العمل وفرض ضريبة معينة على النبلاء الذين يصرون على إطلاق ذقونهم ووجه عنايته نحو المرأة فألغى نظام الحريم ومنع الحجاب وأصدر الاوامر العديدة التي نصت على عتق المرأة من والتقاليد التي كانت تقضي بعزلتها. ومنذ ذلك الحين اخذت المرأة تشارك في الحفلات والاستقبالات التي تجري في القصر. وامتدت عملية الاصلاح التي قام بها بطرس الأكبر الى التعليم فأقام المدارس وفرض على اطفال النبلاء اجبارية التعليم. وأصلح الابجدية وطبع بها جميع الكتب غير الدينية، واستورد المطابع تيسيراً لنشر الثقافة ومختلف العلوم وجمع المخطوطات وفتح عدة معاهد تقنية واسس اكاديمية للعلوم وصدرت في عهده اول جريدة روسية وتأسست اول مستشفى وأنشئ اول متحف.
ومما يؤخذ على سياسة بطرس الأكبر الاصلاحية رغم انجازاته الهائلة انه لم يلجأ الى التخطيط ووضع الدراسات اللازمة لها. كما انه أرهق طبقة الفلاحين بفرضه الضرائب الباهظة عليهم التي كان يحتاجها لتنفيذ مشروعاته الاصلاحية. كما كرهه النبلاء لتقليصه من صلاحياتهم ورفعه رجال الصناعة والتجارة الى مقامهم. واعتبرته الكنيسة مستورداً للأفكار الغربية الوثنية. كما أن حركته هذه وما كان يختص منها بالتعليم ومظاهر الحياة الاجتماعية لم تمتد الى الطبقات الفقيرة. فبقيت في قصور النبلاء وبلاطات الحكام. ومع ذلك علينا القول ان بطرس الأكبر استطاع ان يكتب للروسيا تاريخاً جديداً يلبث ان اخرجها من عزلتها وجعلها دولة اوروبية ذات شأن كبير في السياسة الدولية طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
.............................................
1- دیورانت: قصة الحضارة الجزء (33) ص 50.
|
|
بـ3 خطوات بسيطة.. كيف تحقق الجسم المثالي؟
|
|
|
|
|
دماغك يكشف أسرارك..علماء يتنبأون بمفاجآتك قبل أن تشعر بها!
|
|
|
|
|
العتبة العباسية المقدسة تواصل إقامة مجالس العزاء بذكرى شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
|
|
|