أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2016
893
التاريخ: 9-8-2016
482
التاريخ: 9-8-2016
789
التاريخ: 1-9-2016
1453
|
ما مضى المجدد العظيم محمد بن الحسن الطوسي قدس سره حتى قفز بالبحوث الاصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلف تراثا ضخما في الاصول يتمثل في كتاب العدة وتراثا ضخما في التطبيق الفقهي يتمثل في كتاب المبسوط. ولكن هذا التراث الضخم توقف عن النمو بعد وفاة الشيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الاصولي والفقهي على السواء. وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والاستغراب، لان الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والاصول والمنجزات العظيمة التي حققها في هذه المجالات كان من المفروض والمترقب أن تكون قوة دافعة للعلم وأن تفتح لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقا رحيبة للأبداع والتجديد ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ، فكيف لم تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والاغراء بمواصلة السير؟.
هذا هو السؤال الذي يجب التوفر على الاجابة عنه، ويمكننا بهذا الصدد أن نشير إلى عدة أسباب من المحتمل أن نفسر الموقف :
1 - أن من المعلوم تاريخيا أن الشيخ الطوسي هاجر إلى النجف سنة (488) ه ، نتيجة للقلاقل والفتن التي ثارت بين الشيعة والسنة في بغداد أي قبل وفاته ب (12) سنة، وكان يشغل في بغداد قبل هجرته مركزا علميا معترفا به من الخاصة والعامة حتى ظفر بكرسي الكلام والافادة من الخليفة القائم بأمر الله الذي لم يكن يمنح هذا الكرسي إلا لكبار العلماء الذين يتمتعون بشهرة كبيرة، ولم يكن الشيخ مدرسا فحسب بل كان مرجعا وزعيما دينيا ترجع إليه الشيعة في بغداد وتلوذ به في مختلف شؤونها منذ وفاة السيد المرتضى عام (436) ه ، ولأجل هذا كانت هجرته إلى النجف سبب لتخليه عن كثير من المشاغل وانصرافه انصرافا كاملا إلى البحث العلمي الامر الذي ساعده على أنجاز دوره العلمي العظيم الذي ارتفع به إلى مستوى المؤسسين كما أشار إلى ذلك المحقق الشيخ أسد الله التستري في كتاب مقابس الانوار، إذ قال: ولعل الحكمة الالهية اتفق للشيخ تجرده للاشتغال بما تفرد به من تأسيس العلوم الشرعية ولا سيم المسائل الفقهية . فمن الطبيعي على هذا الضوء أن يكون السنين التي قضاها الشيخ في النجف أثرها الكبير في شخصيته العلمية التي تمثلت في كتاب المبسوط، وهو آخر ما ألفه في الفقه كما نص على ذلك ابن إدريس في بحث الانفال من السرائر، بل آخر ما ألفه في حياته كما جاء في كلام مترجميه.
وإلى جانب هذا نلاحظ أن الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل في أكبر الظن عن تلامذته وحوزته العلمية في بغداد، وبدأ ينشئ في النجف حوزة فتية حوله من أولاده أو الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية من مجاوري القبر الشريف أو أبناء البلاد القريبة منه كالحلة ونحوها، ونمت الحوزة على عهده بالتدريج وبرز فيها العنصر المشهدي نسبة إلى المشهد العلوي والعنصر الحلي وتسرب التيار العلمي منها إلى الحلة. ونحن حين نرجح أن الشيخ بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الاساسية وأنشأ في مهجره حوزة جديدة، نستند إلى عدة مبررات: فقبل كل شيء نلاحظ أن مؤرخي هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف لم يشيروا إطلاقا إلى أن تلامذة الشيخ الطوسي في بغداد رافقوه أو التحقوا به فور هجرته إلى النجف، وإذا لاحظنا إضافة إلى ذلك قائمة تلامذة الشيخ التي يذكرها مؤرخوه نجد أنهم لم يشيروا إلى مكان التلمذة إلا بالنسبة إلى شخصين جاء النص على أنهما تلمذا على الشيخ في النجف، وهما الحسين ابن المظفر بن علي الحمداني والحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمي وأقرب الظن فيهما معا أنهما من التلامذة المحدثين للشيخ الطوسي. أما الحسين بن المظفر فقد ذكر الشيخ منتجب الدين في ترجمته من الفهرست أنه قرأ على الشيخ جميع تصانيفه في الغري، وقراءته لجميع تصانيف الشيخ عليه في النجف يعزز احتمال أنه من تلامذته المحدثين الذين التحقوا به بعد هجرته إلى النجف، إذ لم يقرأ عليه شيئا منها قبل ذلك التأريخ، ويعزز ذلك أيضا أن أباه المظفر كان يحضر درس الشيخ الطوسي أيضا ومن قبله السيد المرتضى كما نص على ذلك منتجب الدين في الفهرست وهذا يعزز احتمال كون الابن من طبقة متأخرة عن الطبقة التي يندرج فيها الاب من تلامذة الشيخ. وأما الحسن بن الحسين البابويهي القمي فنحن نعرف من ترجمته أنه تلمذ على عبد العزيز بن البراج الطرابلسي أيضا وروى عن الكراچكي والصهرشتي، وهؤلاء الثلاثة هم من تلامذة الشيخ الطوسي، وهذ يعني أن الحسن الذي تلمذ على الشيخ في النجف كان من تلامذته المتأخرين، لانه تلمذ على تلامذته أيضا.
ومما يعزز احتمال حداثة الحوزة التي تكونت حول الشيخ في النجف الدور الذي أداه فيها ابنه الحسن المعروف بأبي علي، فقد تزعم الحوزة بعد وفاة أبيه، ومن المظنون أن أبا علي كان في دور الطفولة أو أوائل الشباب حين هاجر أبوه إلى النجف، لان تاريخ ولادته ووفاته وإن لم يكن معلوما ولكن الثابت تاريخيا أنه كان حيا في سنة (515) ه ، كما يظهر من عدة مواضع من كتاب بشارة المصطفى، أي إنه عاش بعد هجرة أبيه إلى النجف قرابة سبعين عاما، ويذكر عن تحصيله أنه كان شريكا في الدرس عند أبيه مع الحسن بن الحسين القمي الذي رجحنا كونه من الطبقة المتأخرة، كما يقال عنه أن أباه أجازه سنة (455) ه ، أي قبل وفاته بخمسين سنة، وهو يتفق مع حداثة تحصيله. فإذا عرفن أنه خلف أباه في التدريس والزعامة العلمية للحوزة في النجف بالرغم من كونه من تلامذته المتأخرين في أغلب الظن استطعنا أن نقدر المستوى العلمي العام لهذه الحوزة، ويتضاعف الاحتمال في كونها حديثة التكون والصورة التي تكتمل لدينا على هذا الاساس هي أن الشيخ الطوسي بهجرته إلى النجف انفصل عن حوزته الاساسية في بغداد وأنشأ حوزة جديدة حوله في النجف وتفرغ في مهجره للبحث وتنمية العلم، وإذا صدقت هذه الصورة أمكننا تفسير الظاهرة التي نحن بصدد تعليلها، فإن الحوزة الجديدة التي نشأت حول الشيخ في النجف كان من الطبيعي أن لا ترقى إلى مستوى التفاعل المبدع مع التطور الذي أنجزه الطوسي في الفكر العلمي، لحداثتها.
وأما الحوزة الاساسية ذات الجذور في بغداد فلم تتفاعل مع أفكار الشيخ، لانه كان يمارس عمله العلمي في مهجره منفصلا عن تلك الحوزة، فهجرته إلى النجف وإن هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لما أتاحت له من تفرغ ولكنها فصلته عن حوزته الاساسية، ولهذا لم يتسرب الابداع الفقهي العلمي من الشيخ إلى تلك الحوزة التي كان ينتج ويبدع بعيدا عنها، وفرق كبير بين المبدع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها باستمرار وتواكب الحوزة إبداعه بوعي وتفتح، وبين المبدع الذي يمارس ابداعه خارج نطاقها وبعيدا عنها.
ولهذا كان لا بد لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق أن يشتد ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف حتى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى ذلك المستوى، وكلف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عام ليتحقق ذلك ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوراثة العلمية للشيخ حتى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلة، بينما ذوت الحوزة القديمة في بغداد وانقطعت عن مجال الابداع العلمي الذي كانت الحوزة الفتية في النجف - وجناحه الحلي بصورة خاصة الوريثة الطبيعية له.
2 - وقد أسند جماعة من العلماء ذلك الركود الغريب إلى ما حظى به الشيخ الطوسي من تقدير عظيم في نفوس تلامذته رفعه في أنظارهم عن مستوى النقد، وجعل من آرائه ونظرياته شيئا مقدسا لا يمكن أن ينال باعتراض أو يخضع لتمحيص.
ففي المعالم كتب الشيخ حسن بن زين الدين ناقلا عن أبيه (قدس سره) أن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به وروي عن الحمصي وهو ممن عاصر تلك الفترة أنه قال: لم يبق للأمامية مفت على التحقيق بل كلهم حاك .
وهذا يعني أن رد الفعل العاطفي لتجديدات الشيخ قد طغى متمثلا في تلك النزعة التقديسية على رد الفعل الفكري الذي كان ينبغي أن يتمثل في درس القضايا والمشاكل التي طرحها الشيخ والاستمرار في تنمية الفكر الفقهي.
وقد بلغ من استفحال تلك النزعة التقديسية في نفوس الاصحاب أنا نجد فيهم من يتحدث عن رؤي لأمير المؤمنين (عليه السلام) شهد فيها الامام (عليه السلام) بصحة كل ما ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي النهاية ، وهو يشهد عن مدى تغلغل النفوذ الفكري والروحي للشيخ في أعماق نفوسهم.
ولكن هذا السبب لتفسير الركود الفكري قد يكون مرتبطا بالسبب الاول، إذ لا يكفي التقدير العلمي لفقيه في العادة مهما بلغ لكي يغلق على الفكر الفقهي للآخرين أبواب النمو والتفاعل مع آراء ذلك الفقيه، وإنما يتحقق هذا عادة حين لا يكون هؤلاء في المستوى العلمي الذي يؤهلهم لهذا التفاعل فيتحول التقدير إلى إيمان وتعبد.
3- والسبب الثالث يمكننا أن نستنتجه من حقيقتين تاريخيتين: إحدهما أن نمو الفكر العلمي والاصولي لدى الشيعة لم يكن منفصلا عن العوامل الخارجية التي كانت تساعد على تنمية الفكر والبحث العلمي، ومن تلك العوامل عامل الفكر السني، لان البحث الاصولي في النطاق السني ونمو هذا البحث وفقا لأصول المذهب السني كان حافز باستمرار للمفكرين من فقهاء الامامية لدراسة تلك البحوث في الاطار الامامي، ووضع النظريات التي تتفق معه في كل ما يثيره البحث السني من مسائل ومشاكل والاعتراض على الحلول المقترحة لها من قبل الآخرين. ويكفي للاستدلال على دور الاثارة الذي كان يقوم به التفكير الاصولي السني، هذان النصان لشخصين من كبار فقهاء الامامية :
1- قال الشيخ الطوسي في مقدمة كتاب العدة يبرر إقدامه على تصنيف هذا الكتاب الاصولي: إن من صنف في هذا الباب سلك كل قوم منهم المسلك الذي اقتضاه أصولهم ولم يعهد من أصحابنا لاحد في هذا المعنى .
2- وكتب ابن زهرة في كتابه الغنية وهو يشرح الاغراض المتوخاة من البحث الاصولي قائل: على أن لنا في الكلام في أصول الفقه غرضا آخر سوى ما ذكرناه، وهو بيان فساد كثير من مذاهب مخالفينا فيها وكثير من طرقهم إلى تصحيح ما هو صحيح منها (1) وأنه لا يمكنهم تصحيحها وإخراجهم بذلك عن العلم بشيء من فروع الفقه، لان العلم بالفروع من دون العلم بأصله محال، وهو غرض كبير يدعوا إلى العناية بأصول الفقه ويبعث على الاشتغال به ، هذه هي الحقيقة الاولى.
والحقيقة الاخرى هي أن التفكير الاصولي السني كان قد بدأ ينضب في القرن الخامس والسادس ويستنفذ قدرته على التجديد ويتجه إلى التقليد والاجترار، حتى أدى ذلك إلى سد باب الاجتهاد رسميا.
ويكفينا لإثبات هذه الحقيقة شهادة معاصرة لتلك الفترة من عالم سني عاشها وهو الغزالي المتوفي سنة (505) ه ، إذا تحدث عن شروط المناظر في البحث فذكر منها (أن يكون المناظر مجتهدا يفتى برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له، فأما من لم يبلغ رتبة الاجتهاد وهو حكم كل أهل العصر فأي فائدة له في المناظرة ونحن إذا جمعنا بين هاتين الحقيقتين وعرفنا أن التفكير الاصولي السني الذي يشكل عامل إثاره للتفكير الاصولي الشيعي كان قد أخذ بالانكماش ومني بالعقم، استطعنا أن نستنتج أن التفكير العلمي لدى فقهائنا الامامية رضوان الله عليهم قد فقد أحد المثيرات المحركة له، الامر الذي يمكن أن نعتبره عاملا مساعدا في توقف النمو العلمي.
ابن ادريس يصف فترة التوقف:
ولعل من أفضل الوثائق التاريخية التي تصف تلك الفترة ما ذكره الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس الذي أدرك تلك الفترة وكان له دور كبير في مقاومتها وبث الحياه من جديد في الفكر العلمي كما سنعرف بعد لحظات، فقد كتب هذا الفقيه في مقدمة كتابه السرائر يقول: إني لما رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والاحكام الإسلامية وتثاقلهم عن طلبها وعداوتهم لما يجهلون وتضييعهم لما يعلمون، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه مضيعا لم استوعته الايام مقصرا في البحث عما يجب عليه علمه حتى كأنه ابن يومه ومنتج ساعته.. ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان وميدانه قد عطل منه الرهان تداركت منه الذماء الباقي وتلافيت نفسا بلغت التراقي .
____________
(1) أي الكشف عن فساد كثير من متبنياتهم من ناحية وفساد الادلة التي يستندون إليه لإثبات المتبنيات الصحيحة من ناحية أخرى.
|
|
دراسة تحدد أفضل 4 وجبات صحية.. وأخطرها
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تحتفي بذكرى ولادة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
|
|
|