الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
محمد بن البعيث
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: ص: 407ـ409
20-6-2019
2546
محمد (1) بن البعيث
من فتيان بني أسد نزلت عشيرته في أذربيجان، واشتهر أبوه بأنه كان من الفتّاك الصعاليك، واستطاع محمد أن يمتلك في تلك الديار قلعتين: قلعة تسمى شاهي وأخرى تسمى بكدر، وكانت شاهي أشد مناعة فكان يقيم فيها كثيرا.
واشتهر أمره في عصر المعتصم وحروب بابك، فإنه كان يحاول أن يكون محايدا بين الطرفين المتخاصمين، فإذا نزلت سرايا أحدهما أضافها وأحسن الضيافة، وهو في أثناء ذلك يراوغ، وقد ينقل للجيش العباسي وقواده أخبار بابك، وقد ينقل إلى بابك
ص407
أخبار الجيش العباسي. وكان هواه مع العباسيين، غير أن وقوفه متفرجا دون أن يقحم نفسه في تلك الحروب وينصر العباسيين جعل إسحق بن إبراهيم المصعبي أحد قواد المعتصم يقبض عليه ويلقي به في غياهب السجون. ويتوسط له بعض القُواد، فيفرج عنه، على ألا يبرح سامرّاء حتى إذا كانت سنة 234 لعصر المتوكل هرب إلى دياره وحصونه فيها، واختار حصن مرند، فجمع فيه عدده وأسلحته وأنصاره وزادهم، ورمّ ما كان وهي من سورها، وكان في داخلها وخارجها بساتين، تدور من حولها أشجار كثيرة. ووجّه إليه المتوكل بعض الجيوش فلم تستطع أن تصل إليه، ثم وجّه إليه بغا الشرابي، فزحف إلى الحصن وقطع ما حوله من الشجر نحوا من مائة ألف شجرة، ونصب عليه المجانيق، ويئس ابن البعيث من مطاولة الحصار، ففرّ على وجهه وهو ينشد:
كم قد قضيت أمورا كان أهملها … غيري وقد أخذ الإبلاس بالكظم (2)
لا تعذليني فيما ليس ينفعني … إليك عنى جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسر وفي يسر … إن الجواد الذي يعطى على العدم
وتبعه نفر من الجيش العباسي، فلحقوه، وهو راكب دابة متقلد سيفا يريد أن يصير إلى نهر عليه رحى ليستخفي في الرّحى، وأخذوه أسيرا ذليلا، وانتهب الجند داره ودور أصحابه وبعض دور المدينة، ونادى مناد بالامتناع عن النهب. وأتى بابن البعيث إلى المتوكل، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السّيّافون فلوّحوا له بسيوفهم، وقال له المتوكل حانقا غاضبا: ما دعا يا محمد إلى ما صنعت؟ فأجابه: الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإنّ لي فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو، ثم اندفع ينشده:
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي … إمام الهدى والصّفح بالحرّ أجمل
وهل أنا إلا جبلة من خطيئة … وعفوك من نور النبوة يجبل (3)
تضاءل ذنبي عند عفوك قلّة … فمنّ بعفو منك والعفو أفضل
فإنك خير السابقين إلى العلا … ولا شك أن خير الفعالين تفعل
ص408
فقال المتوكل: أفعل خيرهما وأمنّ عليك، ارجع إلى منزلك، وخفّف عنه الحكم من الإعدام إلى الحبس وظل فيه حتى وافاه الموت. وفي الطبري أنه كما كان ينظم بالعربية بعض أشعار له كان ينظم بالفارسية أشعارا أخرى. وكان جوادا ممدّحا طالما قصده الشعراء بمدحهم، وأجزل لهم في عطائه، وممن ذكر منهم المرزباني في معجمه يحيى (4) بن أحمد من أهل مدينة الرّحبة في الموصل، وفيه يقول: «كان في ناحية محمد بن البعيث، ومدحه مدحا كثيرا» منه قصيدة أولها:
لا زال محسودا على أفعاله … وحسوده في الناس غير محسّد
شطراه بين معاقب أو غافر … أو عائد متفضّل أو مبتدى
شفعا ووترا كلّ ذاك فعاله … كالدهر إلا أنه لا يعتدى
فالناس تحت لوائه من راغب … أو راهب أو رائح أو مغتدى
وكان ابن البعيث يستخدم يحيى في الدعاية له، وهو يصوره فارسا رائحا غاديا على أعدائه، والناس بين راهب من بطشه وراغب في كرمه الفياض، وتارة يعاقب أعداءه عقابا أليما، وتارة يعفو عفوا رحيما، ويدعو له أن يظل محسودا متسنما لذروة المجد الرفيعة. ومن قوله فيه:
متى ألق من آل البعيث محمّدا … أحلّ رياضا للعلا بمحمّد
وتضحك أم البشر عني بنيله … فأرجع محسودا بنيل محسّد
ويبدو أن ابن البعيث كان شخصية ممتازة، فهو جواد، وهو شجاع من أهل البأس والفتوة، وهو أديب يحسن العربية والفارسية. وبلغ من ثبات جأشه وجنانه أن أنشد المتوكل الأبيات السالفة وهو على النطع والسيّاف شاهر سيفه يريد أن ينقضّ عليه وأن يحزّ رأسه ويزهق روحه، وشرر الغضب يتطاير من عيني المتوكل وقد انتفخت أوداجه. وكأن ذلك كله لم يملأ نفسه خوفا ولا هلعا، فظل رابط الجأش مجتمع القلب، لا تخونه الكلمة في اللحظة الحرجة، بل لا يخونه البيت
ص409
الذى يستلّ الغضب من نفس المتوكل. وقد بلغ منه مبلغا خطيرا، حتى أوشك أن يقضى عليه قضاء مبرما. وهي قدرة نفسية كانت تمتزج بقدرته البيانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في ثورة محمد بن البعيث وأخباره الطبري 9/ 25، 27، 164، 165، 170، 171 ومروج الذهب 4/ 41 ومعجم الشعراء ص 385.
(2) الكظم: مخرج النفس من الحاق. الإبلاس: انقطاع الحجة.
(3) الحبلة: الخلقة والطبيعة.
(4) انظر في ترجمته وأشعاره معجم الشعراء ص 491.