تفرع اللغة الى لهجات ولغات (اختلاف اللهجات في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وفئاتهم) |
2695
10:03 صباحاً
التاريخ: 10-12-2018
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-12-2018
1668
التاريخ: 10-12-2018
2696
التاريخ: 1-4-2019
4662
التاريخ: 10-12-2018
2265
|
اختلاف اللهجات في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وفئاتهم
"اللهجات الاجتماعية" Dialectes Sociaux:
تنشعب أحيانًا لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعًا لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم؛ فيكون ثَمَّ مثلًا لهجة للطبقة الأريستوقراطية، وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة، ورابعة للرياضيين، وخامسة للبرادين، وسادسة للنجارين ... وهلم جرا. ويطلق المحدثون من علماء اللغة على هذا النوع من اللهجات اسم "اللهجات الاجتماعية" Dialectes Sociaux تمييزًا لها عن "اللهجات المحلية" Dialectes Sociaux، التي كانت موضع حديثنا في الفقرة الثالثة من هذا الفصل(1).
ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين طبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية، ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة، والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم، وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له، أو قصرها على بعض مدلولاتها؛ للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم وأعمالهم. وهلم جرَّا. فمن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة
ص188
في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها، فلا تلبث اللهجة العام أن تنشعب إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها؛ في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالة الألفاظ ... وما إلى ذلك، وقد تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيدًا في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي انشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخواتها، حتى تكاد تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلّا لأهلها، كما هو شأن اللهجات الفرنسية المستخدمة بين طبقات اللصوص والمجرمين وبعض طبقات العمال.
ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه. ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال، واللهجات السرية لجماعات المتصوفين والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم، من أكثر اللهجات انحرافًا عن الأصل الذي انشعبت منه، وبعدًا عن المستوى العام لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسية، وكذلك الشأن في إنجلترا، حتى لقد ألف في لهجات المجرمين من الإنجليز معجمات خاصة(2).
ولا تظل اللهجات الاجتماعية جامدة على حالة واحدة، بل تسير في السبيل الارتقائي نفسه الذي تسير فيه اللهجات المحلية، فيتسع نطاقها باتساع شئون الناطقين بها ومبلغ نشاطهم، واحتكاكهم بالأجانب وبأهل الطبقات الأخرى من مواطنيهم، وما يخترعونه من مصطلحات، ويتواضعون عليه من عبارات، ويقتبسونه من اللغات الأجنبية من
ص189
مفردات وأفكار، وتختلف أساليبها وطرق تراكيبها باختلاف العصور وتطور الظروف الاجتماعية المحيطة بالطبقات الناطقة بها؛ فلهجات العمال والمجرمين بفرنسا، تختلف بعد الحرب العظمى الأولى اختلافًا بينًا عما كانت عليه قبل ذلك، وتختلف في القرن العشرين اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه مثلًا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ولا أدلَّ على ذلك من أن معظم القطع التي كتبها بتلك اللهجات في القرن الخامس عشر الشاعر الفرنسي فرانسو فيلون Francois Villon(3)، لم يستطع بعد في العصر الحاضر حل جميع رموزها وفهم جميع مدلولاتها.
وتؤثر اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العادية تأثيرًا كبيرًا، فتستعير منها هذه اللغة كثيرًا من التراكيب والمفردات، وبخاصة المفردات التي خصص مدلولها العام، واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن أو حرفة، وما إلى ذلك. فلغة المحادثة العايدة بباريس في العصر الحاضر قد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية، وبخاصة لهجات العمال والمجرمين، وكذلك الشأن في اللغة الإنجليزية(4).
ولا تتميز في العادة اللهجات الاجتماعية بعضها عن بعض تميزًا واضحًا إلّا في المدن الكبيرة؛ حيث يتكاثف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتتنوع الوظائف، وتتعدد المهن، ويشتد النزاع بين الطبقات؛ كنيويورك ولندن وباريس في العصر الحاضر، وكبغداد في العصر العباسي.
ص190
وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه: "باللهجات الحرفية"، وهي اللهجات التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرف المختلفة؛ كالبرادين والنجارين والنقاشين والصيادين والبحارة، وهلمَّ جرَّا. وتتميز اللهجات الحرفية بعضها من بعض تميزًا كبيرًا في المناطق التي يسود فيها "نظام الطوائف" Regime des castes حيث تختص كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة تكون وقفًا على أفرادها، لا يجوز لهم ولا لأعقابهم من بعدهم الاشتغال بغيرها، كما لا يجوز لغيرهم الاشتغال بها، كما هو الحال في كثير من بلاد الهند. على حين أنه في الأمم الحديثة التي قُضِيَ فيه على نظام الطوائف، فأصبحت الحرف حظًّا مشاعًا بين جميع أفراد السكان، يزاول كل منهم المهنة التي تروقه، وينتقل إذا شاء من مهنة إلى أخرى، وأصبحت الطبقات الاجتماعية غير واضحة الحدود، ولا موصدة الأبواب على غير أهلها، في هذه الأمم تتداخل اللهجات الحرفية بعضها في بعض ويتأثر بعضها ببعض، وتقل بينها الفروق، وتضعف المميزات(5).
هذا، وقد خُيِّلَ إلى بعض علماء "الأتنوجرافيا" أن اللهجات
ص191
الاجتماعية لا تنشأ من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقًا، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة الواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها ارتجالًا، وقد تابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة، ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم.
وليس لهذه النظرية أيَّ سند عقلي أو تاريخي، بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها، هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشرة بين طبقات فقيرة جاهلة، منحطة المدارك، ضعيفة التفكير، لا يتاح لمثلها أن تنشئ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد، بل لا يتاح لها مجرد التفكير في مثل هذا المشروع الخطير: طبقات المتسولين واللصوص والحدادين والصيادين ... وهلم جرا.
والحق أن "اللهجات الاجتماعية" لا تختلف في نشأتها عن "اللهجات المحلية" التي تكلمنا عليها في الفقرة الثالثة من هذا الفصل، كلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية، ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده، وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث عن مقتضيات الحياة الاجتماعية وشئون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيسي لنشأة "اللهجات المحلية" يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف، ويمتاز به أهله من خصائص، على حين أن السبب الرئيسي في نشأة "اللهجات الاجتماعية" يرجع إلى اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد، وما يكتنف كل طبقة منها من شئون، وما يفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة.
غير أننا قد نعثر أحيانًا في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقًا في لغة البلد، ولا في اللغات الأجنبية، ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعًا من بعض الأفراد، وانتشرت عن طريق التقليد، ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة
ص192
على لهجات الطبقات الراقية، ولا تبدو إلّا في عدد قليل من الكلمات. أما معظم المفردات فترجع أصولها إلى كلمات منحدرة من لغة البلد، أو مقتبسة من بعض لغات أجنبية، غير أن الغالب أن ينالها -مع تقادم الزمن- كثير من التحريف والتغيير، فتبعد بعدًا كبيرًا عن الأصل الذي أخذت منه، وقد تصل في انحرافها هذا إلى درجة يخيل معها للباحث السطحي أنها ابتدعت بالتواضع والارتجال، ولعل هذا هو ما حدا بعض العلماء على الظن بأن اللهجات الاجتماعية ناشئة عن تأليف واختراع(6).
ص193
___________________
(1) يرجع الفضل في هاتين التسميتين إلى العلامة بول باسي Paul Passy..
(2) أخرج أريك بارتروج، أستاذ اللغة الإنجليزية، معجمًا للغة المجرمين من الإنجليز، قضى في وضعه خمس سنوات، ويقع المعجم في ثمانمائة صفحة، احتوت على جميع المصطلحات التي يستعملها اللصوص وقطاع الطريق والمجرمون الإنجليز من القرن السادس عشر حتى العصر الحاضر، وقد استعان بارتروج في إخراج مؤلفه بالبحث في ملفات القضايا الجنائية من عام 1729 حتى أواخر النصف الأول من القرن الحالي، كما استعان بكثيرين من قسس السجون، وتردد على أمكنة اجتماعات المجرمين. "انظر جريدة المصري الصادرة في 21/ 5/ 1950".
(3) شاعر فرنسي، ولد بباريس سنة 1431، وتوفي سنة 1489، وقد عاش وسط اللصوص والمجرمين، واتهم أكثر من مرة بالسرقة والقتل، ومن أشهر مؤلفاته: "العهد الصغير" و"العهد الكبير" Petit Testament Grand Testament
(4) أثبت الأستاذ بارتروج في معجمه المشار إليه في التعليق المدون في الصفحة السابقة أن كثيرًا من الاصطلاحات الحديثة في اللغة الإنجليزية التي يظن الإنجليز أنها مأخوذة من اللغة الأمريكية العامية، مشتقة في الأصل من لغة المجرمين الإنجليز، أو من اللغة الإيرلندية القديمة. "انظر جريدة المصري الصادرة في 21/ 5/ 1950.
(5) للهجات الاجتماعية مظاهر كثيرة في مصر في العصر الحاضر نفسه، ومن أوضح مظاهرها لغة الصيادين وأبناء البحار، فهي تختلف اختلافًا كبيرًا عن اللغة العادية في كثير من مفرداتها وتراكيبها، ومن بين مفرداتها ما هو من أصل عربي، وإن اختلف مدلوله أحيانًا عن مدلوله في الفصحى، ومن ذلك "ينصلح" بمعنى: يهلك، و"القرية" وهي خشبة الشراع الأكبر، و"البومة" وهي الخشبة المربوط فيها القلع، و"الغليتي" وهو الجو الناعس الحنون، و"المريس" وهو الريح من الجنوب، و"اللبش" وهوالريح من الجنوب الشرقي، و"القلفطة" وهي عملية رتق السفنية بالشحم وحبال الكتان، و"الشاغول" و"العويل" و"الإبليس" و"الفاية" وهي أسماء لحبال مختلفة يربط بها الشراع، و"ضرب بلطة" بضم الباء، أي: حاد عن الجادة فانحرف نحو اليمين أو الشمال مع الريح أو ليغير اتجاه السفينة، ومن بين مفرداتها ما هو غير عربي الأصل، ومن ذلك "الأرطمون"، من أصل فرنسي ومعناه شراع صغير، و"البانكا"، من أصل إيطالي، وهو مقعد المجدفين، و"الهلب"، من أصل إنجليزي، ومعناها المرساة، و"الشابورة" "من أصل ألماني، وهي خشبة في مقدمة السفينة"، و"السكارج"، من أصل فارسي وهي حلقات الدفة"، و"البروة"، من أصل أسباني وهي صدر السفينة. انظر في ذلك مقالًا تحت عنوان: "لغة الغموض والألغاز التي يتفاهم بها الصيادون" نشره في جريدة المصري الصادرة في 25/ 2/ 1950 للأستاذ إبراهيم محمد الفحام. وكثير من الكلمات السابقة قد قمت أنا بتسجيله من لغة البحارة من أهل رشيد.
(6) يرجع الفضل في دراسة اللهجات الاجتماعية إلى طائفة من علماء اللغة وعلماء الاجتماع، ومن أشهر من عني بدراستها من علماء الاجتماع العلامة فان جينيب.
|
|
دراسة تحدد أفضل 4 وجبات صحية.. وأخطرها
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية يصدر كتاب الفلسفة الغربية برؤية الشيخ مرتضى مطهري
|
|
|