أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-9-2017
2688
التاريخ: 22-9-2017
1284
التاريخ: 22-9-2017
937
التاريخ: 22-9-2017
1197
|
قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 25 - 29].
أقسم سبحانه فقال {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} أي بالدلائل والمعجزات {وأنزلنا معهم الكتاب} المكتوب الذي يتضمن الأحكام وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام كالتوراة والإنجيل والقرآن {والميزان} أي وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين الذي يوزن به عن ابن زيد والجبائي ومقاتل بن سليمان وقيل معناه أنزلنا صفة الميزان {ليقوم الناس} في معاملاتهم {بالقسط} أي بالعدل والمراد وأمرنا بالعدل كقوله الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان عن قتادة ومقاتل بن حيان.
{وأنزلنا الحديد} روي عن ابن عمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح)). وقال أهل المعاني معنى أنزلنا الحديد أنشأناه وأحدثناه كقوله وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وإلى هذا ذهب مقاتل فقال معناه بأمرنا كان الحديد وقال قطرب معنى أنزلنا هنا هيأنا وخلقنا من النزل وهوما يهيا للضيف أي أنعمنا بالحديد وهيأناه لكم وقيل أنزل مع آدم من الحديد العلاة وهي السندان والكلبتان والمطرقة عن ابن عباس.
{فيه بأس شديد} أي يمتنع به ويحارب به عن الزجاج والمعنى أنه يتخذ منه آلتان آلة للدفع وآلة للضرب كما قال مجاهد فيه جنة وسلاح {ومنافع للناس} يعني ما ينتفعون به في معاشهم مثل السكين والفأس والإبرة وغيرها مما يتخذ من الحديد من الآلات وقوله {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} معطوف على قوله {ليقوم الناس بالقسط} أي ليعاملوا بالعدل وليعلم الله نصرة من ينصره موجودة وجهاد من جاهد مع رسوله موجودا وقوله {بالغيب} أي بالعلم الواقع بالاستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر {إن الله قوي} على الانتقام من أعدائه {عزيز} أي منيع من أن يعترض عليه في أرضه وسمائه .
ثم عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر الأنبياء بقصة إبراهيم (عليه السلام) ونوح (عليه السلام) فقال سبحانه {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم} وإنما خصهما بالذكر لفضلهما ولأنهما أبوا الأنبياء {وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} يعني أن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما وعليهم أنزل الكتاب ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال {فمنهم مهتد} إلى طريق الحق {وكثير منهم فاسقون} أي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} أي ثم اتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين وأنفذناهم رسولا بعد رسول.
{وقفينا بعيسى بن مريم} بعدهم فأرسلناه رسولا {وآتيناه الإنجيل} أي وأعطينا عيسى بن مريم الإنجيل {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه} في دينه يعني الحواريين وأتباعهم اتبعوا عيسى {رأفة} وهي أشد الرقة(2) {ورحمة} وإنما أضاف الرأفة والرحمة إلى نفسه لأنه سبحانه جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة بالأمر به والترغيب فيه ووعد الثواب عليه وقيل لأنه خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة وإنما مدحهم على ذلك وإن كان من فعله لأنهم تعرضوا لهما.
{ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} وهي الخصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة إما في كنيسة أو انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نسك صاحبه والمعنى ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم وقيل إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء واتخاذ الصوامع عن قتادة قال(3) وتقديره ورهبانية ما كتبناها عليهم {إلا} إنهم اتبعوها {ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} وقيل إن الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال في خبر مرفوع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فما رعاها الذين بعدهم حق رعايتها وذلك لتكذيبهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس وقيل إن الرهبانية هي الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة {ما كتبناها} أي ما فرضناها عليهم وقال الزجاج إن تقديره ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به فهذا وجه قال وفيها وجه آخر جاء في التفسير أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه فاتخذوا أسرابا وصوامع وابتدعوا ذلك فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع ودخلوا عليه لزمهم تمامه كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمه قال وقوله {فما رعوها حق رعايتها} على ضربين {أحدهما} أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم {والآخر} وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة الله فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها ودليل ذلك قوله {فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم).
{وكثير منهم فاسقون} أي كافرون انتهى كلام الزجاج ويعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) على حمار فقال يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية فقلت الله ورسوله أعلم فقال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (عليه السلام) يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} إلى آخرها ثم قال يا ابن أم عبد أ تدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة.
وعن ابن مسعود قال دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها اثنتان وهلك سائرهن فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى (عليه السلام) فقتلوهم وفرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى (عليه السلام) فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله لهم {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون)).
ثم قال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا} أي اعترفوا بتوحيد الله وصدقوا بموسى وعيسى (عليهما السلام) {اتقوا الله وآمنوا برسوله} محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس وقيل معناه يا أيها الذين آمنوا ظاهرا آمنوا باطنا {يؤتكم كفلين} أي يؤتكم نصيبين {من رحمته} نصيبا لإيمانكم بمن تقدم من الأنبياء ونصيبا لإيمانكم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس {ويجعل لكم نورا تمشون به} أي هدى تهتدون به عن مجاهد وقيل النور القرآن وفيه الأدلة على كل حق والبيان لكل خير وبه يستحق الضياء الذي يمشي به يوم القيامة عن ابن عباس.
{ويغفر لكم} أي ويستر عليكم ذنوبكم {والله غفور رحيم} قال سعيد بن جبير بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم(4) به فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقالوا يا نبي الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله فيهم {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} إلى قوله {ومما رزقناهم ينفقون} فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} بما صبروا فخروا على المسلمين فقالوا يا معشر المسلمين أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجران ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا فنزل قوله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله} الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة.
ثم قال {لئلا يعلم أهل الكتاب} وقال الكلبي كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو بمكة لم يكونوا يهودا ولا نصارى وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا فقال لهم أبو جهل بئس القوم أنتم والوفد لقومكم فردوا عليه وما لنا لا نؤمن بالله الآية فجعل الله لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ويقولون نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد فنزل {لئلا يعلم أهل الكتاب} إلى آخر السورة وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال من كانت له أمة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وآمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فله أجران وأيما مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران أورده البخاري ومسلم في الصحيح.
{لئلا يعلم} أي لأن يعلم ولا مزيدة {أهل الكتاب} يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وحسدوا المؤمنين منهم {ألا يقدرون على شيء من فضل الله} وأن هذه هي المخففة من الثقيلة والتقدير أنهم لا يقدرون ومعناه جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله {وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء} فأتى المؤمنين منهم أجرين {والله ذو الفضل العظيم} يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين وقيل إن المراد بفضل الله هنا النبوة أي لا يقدرون على نبوة الأنبياء ولا على صرفها عمن شاء الله أن يخصه بها فيصرفونها عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى من يحبونه بل هي بيد الله يعطيها من يشاء ممن هو أهلها ويعلم أنه يصلح لها وقيل إنما تدخل لا صلة في كل كلام دخل في أواخره أو أوائله جحد وإن لم يكن مصرحا به نحو قوله {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} عن الفراء وقيل أن لا هنا في حكم الثبات والمعنى لأن لا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون أن يؤمنوا لأن من لا يعلم أنه لا يقدر يعلم أنه يقدر فعلى هذا يكون المراد لكي يعلموا أنهم يقدرون على أن يؤمنوا فيحوزوا الفضل والثواب وقيل إن معناه لئلا يعلم اليهود والنصارى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين لا يقدرون على ذلك فقد علموا أنهم لا يقدرون عليه أي إن آمنتم كما أمركم الله آتاكم الله من فضله فعلم أهل الكتاب خلافه وعلى هذا فالضمير في يقدرون ليس لأهل وقال أبوسعيد السيرافي معناه أن الله يفعل بكم هذه الأشياء لئلا يعلم أي ليتبين جهل أهل الكتاب وأنهم لا يعلمون أن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على تغييره وإزالته عنكم ففي هذه الوجوه لا يحتاج إلى زيادة لا .
_________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص400-406.
2-في نسخة : اشد الرقة والرحمة.
3- ليس في اكثر النسخ لفظة قال .
4- وفي نسخة : فنلم به بدل فنسلم به.
قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ والْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} .
كل ما تعرف به الحقيقة فهو ميزان سواء أكان وحيا أم عقلا أم حسا كالتجربة والمشاهدة ، وعليه يكون عطف الميزان على الكتاب من باب عطف العام على الخاص مثل قوله تعالى : {وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى والنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} - 84 آل عمران . والمعنى ان اللَّه أرسل الأنبياء بالحجج الدالة على نبوتهم ورسالتهم ، وبما يهدي الناس إلى الحق والعدل ليستقيموا على صراطه القويم .
{وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ} . قال المفسرون القدامى عند تفسير هذه الآية : ان الحديد قوة في الحرب يتخذ الناس منه سيفا للضرب ، ودرعا للدفاع ، وأيضا يتخذون منه السكين والفأس والابرة ، وما هذه الأمثلة إلا انعكاس لعصرهم وحياتهم ، ولوكنا في زمانهم لمثلنا بأمثلتهم ، ولو كانوا في زماننا لقالوا : ان الحديد هو عصب الحياة في شتى النواحي ، فمنه وسائل المواصلات برا وبحرا وجوا ، والأدوات التي لا غنى عنها لغني أوفقير ، وبه تقوم الجسور والعمارات والسدود والخزانات ، ولولاه لما عرف الناس الكهرباء والبترول ، وهو الأساس لكثير من العلوم الحديثة ، بل هو كل شيء في المعامل والمصانع التي تقوم عليها حضارة القرن العشرين .
{ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي وينصر تعاليم رسل اللَّه ، وان لم يشاهدهم بالذات . . وكل شيء في هذه الحياة فيه جهتان : ايجابية وسلبية ، منفعة ومضرة ، وإذا كان للحديد هذه المنافع في خدمة الإنسان فإن فيه أيضا الاستعداد التام للقضاء على الإنسان وهلاكه ، فلقد كانت القتلى قبل اكتشاف الحديد تعد بالعشرات في الحروب فأصبحت اليوم تعد بالملايين . . وما القلق والاضطراب والخوف الذي يعيش فيه الشرق والغرب ، ولا الدماء التي تجري أنهرا في
كمبوديا ولاوس وفيتنام وغواتيمالا والشرق الأوسط ، ما هذه الويلات وغيرها إلا نتيجة تسلح قوى الشر بالحديد ، واستخدامه ضد الشعوب والحركات التحررية .
وبهذا ندرك السر لقوله تعالى : {وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} . انه سبحانه خلق الحديد ليمحص به عباده ، ويمتحن ما في قلوبهم من خير وشر ، ويظهره علنا إلى عالم الوجود والعيان كي يميز الخبيث الذي يتخذ من القوة أداة لأهوائه وأغراضه ، يميزه من الطيب الذي يرى القوة نعمة من اللَّه فيستغلها لمنفعة الناس شكرا للَّه على نعمته {إِنَّ اللَّهً قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ينتقم من الطغاة الظلمة بأيدي المحقين الذين لا يبتغون من هذه الحياة إلا الحرية والعدل والعيش مع الجميع في هدوء وأمان . . ونحمد اللَّه سبحانه على ان الثورة على الظلم تقوم اليوم في كل طرف من أطراف الأرض ، وليس من شك ان هذه الثورات قوة إلهية ، لا مرد لها ما دامت تبتغي الحق والعدل . . أما جزاء الطغاة في الآخرة فجهنم وبئس المصير .
{ولَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وإِبْراهِيمَ وجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ والْكِتابَ} . أرسل سبحانه كلا من نوح وإبراهيم داعيا إلى الحق ، فبلغ رسالات ربه ، وجاهد في اللَّه أعداءه ، وكان من أمر نوح ما تقدم في سورة هود الآية 5 - 49 ومن أمر إبراهيم ما جاء في سورة الأنبياء الآية 1 - 74 {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} . ضمير منهم يعود إلى ذريتهما ، وكان البعض من هذه الذرية من الطيبين ، أما أكثرهم أو الكثير منهم فكان بلا دين ولا ضمير تماما شأن أبناء علماء الدين {ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا} . أرسل سبحانه بعد نوح وإبراهيم كثيرا من الرسل ، منهم هود وصالح وموسى {وقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وآتَيْناهُ الإِنْجِيلَ} . توالت الرسل حتى انتهوا إلى عيسى (عليه السلام) ، ومعه الإنجيل ، وكان فيه آنذاك الهدى والنور {وجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً ورَحْمَةً} وهم الذين أطاعوا السيد المسيح وعملوا بتعاليمه نصا وروحا ، وما حرفوها على ما تهوى أنفسهم .
وتومئ إلى ذلك كلمة {اتَّبَعُوهُ} . أنظر تفسير الآية 82 من سورة المائدة ج 3 ص 114 .
{ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها} . إلا هنا بمعنى لكن ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، ومعناه ان هذه الرهبانية ما أنزل اللَّه بها من سلطان ، ولكن رؤساء النصارى ابتدعوها من عند أنفسهم زاعمين انها تقربهم من اللَّه زلفى لأنها عزوف عن الدنيا وملذاتها . . وعلى الرغم انه تعالى ما أمرهم بها ، وانه أحل لهم الزينة والطيبات من الرزق فإنهم لم يلتزموا بما ألزموا به أنفسهم من الزهد ، بل اتخذوا منها وسيلة للشهرة وتولي المناصب . . وتدل هذه الآية على انه لا رهبانية في الإسلام ، ولا في الديانة التي جاء بها السيد المسيح .
{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} وهم العيسويون حقا وصدقا الذين يعتقدون قولا وعملا ان المسيحية محبة ورحمة ، ونزاهة وإنسانية ، لا تعصب وأحقاد ، ولا ظلما واستغلالا ، ولا حروبا وانقلابات ، ولا إثارة الفتن والنعرات ، ولا قنابل ذرية وأسلحة كيماوية ، ولا شعارات كاذبة للدفاع عن الحرية ، ولا نشر الهلع والقلق والخوف في قلوب عباد اللَّه وعياله {وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} . وفي طليعتهم قادة الاستعمار الجديد وأعداء الإنسانية رقم (1) الذين تنطبق عليهم جميع الصفات التي سلبناها عن العيسويين حقا وصدقا .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً} . أي يا أيها الذين اعترفوا باللَّه ورسوله اعملوا بموجب اعترافكم ، ولا يكن عملكم مكذبا لأقوالكم {وآمِنُوا بِرَسُولِهِ} .
أطيعوا محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) وسيروا على نهجه وهديه {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} .
الكفل النصيب ، والمراد بالرحمة هنا الثواب ، والمعنى من آمن باللَّه ورسوله وعمل بموجب إيمانه فله عند اللَّه ثوابان : ثواب على إيمانه ، وثواب على العمل بموجبه .
{ويَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يوم القيامة ، ومن لم يجعل اللَّه له في هذا اليوم نورا خبط سادرا في ظلمات لا يخرج منها إلا إلى ما هو أعظم وآلم .
{ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر ما أسلفتم من المعاصي لأنه هو الغفور الرحيم . قال ابن عربي في الفتوحات : {ما قرن سبحانه المغفرة بتوبة ولا بعمل صالح فلا بد من شمول الرحمة والمغفرة لمن أسرف على نفسه} . ولا يكثر شيء على رحمته التي وسعت كل شيء {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . ال {لا} في {لئلا} زائدة ، والمراد بقوله تعالى : {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ} انهم لا ينالون يوم القيامة شيئا من فضل اللَّه ، ومحصل المعنى ان اللَّه سبحانه يغفر غدا للذين آمنوا بمحمد ، ومن أحسن عملا يؤتيه أجره مرتين لأنه تعالى جواد كريم ، وأيضا ليعلم اليهود والنصارى الذين رفضوا الإيمان بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) أنه لا نصيب لهم من مغفرة اللَّه ورحمته لأنهم استنكفوا عن تصديق نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) {وأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يتفضل به على الذين آمنوا بمحمد (صلى الله عليه واله وسلم) ولا مرد لما أراد لأن بيده ملكوت كل شيء ، وهو على كل شيء قدير .
___________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص256-259.
ان الله تعالى إثر ما أشار إلى قسوة قلوب المؤمنين وتثاقلهم وفتورهم في امتثال التكاليف الدينية وخاصة في الإنفاق في سبيل الله، الذي به قوام أمر الجهاد وشبههم بأهل الكتاب حيث قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد.
ذكر أن الغرض الإلهي من إرسال الرسل وإنزال الكتاب والميزان معهم أن يقوم الناس بالقسط، وأن يعيشوا في مجتمع عادل، وقد أنزل الحديد ليمتحن عباده في الدفاع عن مجتمعهم الصالح وبسط كلمة الحق في الأرض مضافا إلى ما في الحديد من منافع ينتفعون بها.
ثم ذكر أنه أرسل نوحا وإبراهيم (عليه السلام) وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب وأتبعهم بالرسول بعد الرسول فاستمر الأمر في كل من الأمم على إيمان بعضهم واهتدائه وكثير منهم فاسقون، ثم ختم الكلام في السورة بدعوتهم إلى تكميل إيمانهم ليؤتوا كفلين من الرحمة.
قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} إلخ، استئناف يتبين به معنى تشريع الدين بإرسال الرسل وإنزال الكتاب والميزان وأن الغرض من ذلك قيام الناس بالقسط وامتحانهم بذلك وبإنزال الحديد ليتميز من ينصر الله بالغيب ويتبين أن أمر الرسالة لم يزل مستمرا بين الناس ولم يزالوا يهتدي من كل أمة بعضهم وكثير منهم فاسقون.
فقوله: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} أي بالآيات البينات التي يتبين بها أنهم مرسلون من جانب الله سبحانه من المعجزات الباهرة والبشارات الواضحة والحجج القاطعة.
وقوله: {وأنزلنا معهم الكتاب} وهو الوحي الذي يصلح أن يكتب فيصير كتابا، المشتمل على معارف الدين من اعتقاد وعمل وهو خمسة: كتاب نوح وكتاب إبراهيم والتوراة والإنجيل والقرآن.
وقوله: {والميزان ليقوم الناس بالقسط} فسروا الميزان بذي الكفتين الذي يوزن به الأثقال، وأخذوا قوله: {ليقوم الناس بالقسط} غاية متعلقة بإنزال الميزان والمعنى: وأنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم فلا يخسروا باختلال الأوزان والنسب بين الأشياء فقوام حياة الإنسان بالاجتماع، وقوام الاجتماع بالمعاملات الدائرة بينهم والمبادلات في الأمتعة والسلع وقوام المعاملات في ذوات الأوزان بحفظ النسب بينها وهو شأن الميزان.
ولا يبعد - والله أعلم - أن يراد بالميزان الدين فإن الدين هو الذي يوزن به عقائد أشخاص الإنسان وأعمالهم، وهو الذي به قوام حياة الناس السعيدة مجتمعين ومنفردين، وهذا المعنى أكثر ملائمة للسياق المتعرض لحال الناس من حيث خشوعهم وقسوة قلوبهم وجدهم ومساهلتهم في أمر الدين.
وقيل: المراد بالميزان هنا العدل وقيل: العقل.
وقوله: {وأنزلنا الحديد} الظاهر أنه كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] ، وقد تقدم في تفسير الآية أن تسمية الخلق في الأرض إنزالا إنما هو باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي عنده ومن الغيب إلى الشهادة قال تعالى: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر: 21].
وقوله: {فيه بأس شديد ومنافع للناس} البأس هو الشدة في التأثير ويغلب استعماله في الشدة في الدفاع والقتال، ولا تزال الحروب والمقاتلات وأنواع الدفاع ذات حاجة شديدة إلى الحديد وأقسام الأسلحة المعمولة منه منذ تنبه البشر له واستخرجه.
وأما ما فيه من المنافع للناس فلا يحتاج إلى البيان فله دخل في جميع شعب الحياة وما يرتبط بها من الصنائع.
وقوله: {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} غاية معطوفة على محذوف والتقدير وأنزلنا الحديد لكذا وليعلم الله من ينصره إلخ، والمراد بنصره ورسله الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين وبسطا لكلمة الحق، وكون النصر بالغيب كونه في حال غيبته منهم أو غيبتهم منه، والمراد بعلمه بمن ينصره ورسله تميزهم ممن لا ينصر.
وختم الآية بقوله: {إن الله قوي عزيز} وكان وجهه الإشارة إلى أن أمره تعالى لهم بالجهاد إنما هو ليتميز الممتثل منهم من غيره لا لحاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره أنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه عزيز لا سبيل للذلة إليه.
قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} شروع في الإشارة إلى أن الاهتداء والفسق جاريان في الأمم الماضية حتى اليوم فلم تصلح أمة من الأمم بعامة أفرادها بل لم يزل كثير منهم فاسقين.
وضمير {فمنهم} و{منهم} للذرية والباقي ظاهر.
قوله تعالى: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل} في المجمع،: التقفية جعل الشيء في إثر شيء على الاستمرار فيه، ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه.
انتهى.
وضمير {على آثارهم} لنوح وإبراهيم والسابقين من ذريتهما، والدليل عليه أنه لا نبي بعد نوح إلا من ذريته لأن النسل بعده له.
على أن عيسى من ذرية إبراهيم قال تعالى في نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [الصافات: 77] ، وقال: { {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ - إلى أن قال - وَعِيسَى} [الأنعام: 84، 85] ، فالمراد بقوله: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} إلخ، التقفية باللاحقين من ذريتهما على آثارهما والسابقين من ذريتهما.
وفي قوله: {على آثارهم} إشارة إلى أن الطريق المسلوك واحد يتبع فيه بعضهم أثر بعض.
وقوله: {وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} الرأفة والرحمة - على ما قالوا - مترادفان، ونقل عن بعضهم أن الرأفة يقال في درء الشر والرحمة في جلب الخير.
والظاهر أن المراد بجعل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتبعوه توفيقهم للرأفة والرحمة فيما بينهم فكانوا يعيشون على المعاضدة والمسالمة كما وصف الله سبحانه الذين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرحمة إذ قال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ، وقيل: المراد بجعل الرأفة والرحمة في قلوبهم الأمر بهما والترغيب فيهما ووعد الثواب عليهما.
وقوله: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} الرهبانية من الرهبة وهي الخشية، ويطلق عرفا على انقطاع الإنسان من الناس لعبادة الله خشية منه، والابتداع إتيان ما لم يسبق إليه في دين أوسنة أو صنعة، وقوله: {ما كتبناها عليهم} في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما معنى ابتداعهم لها؟ فقيل: ما كتبناها عليهم.
والمعنى: أنهم ابتدعوا من عند أنفسهم رهبانية من غير أن نشرعه نحن لهم.
وقوله: {إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها} استثناء منقطع معناه ما فرضناها عليهم لكنهم وضعوها من عند أنفسهم ابتغاء لرضوان الله وطلبا لمرضاته فما حافظوا عليها حق محافظتها بتعديهم حدودها.
وفيه إشارة إلى أنها كانت مرضية عنده تعالى وإن لم يشرعها بل كانوا هم المبتدعين لها.
وقوله: {فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} إشارة إلى أنهم كالسابقين من أمم الرسل منهم مؤمنون مأجورون على إيمانهم وكثير منهم فاسقون، والغلبة للفسق.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} إلخ، أمر الذين آمنوا بالتقوى والإيمان بالرسول مع أن الذين استجابوا الدعوة فآمنوا بالله آمنوا برسوله أيضا دليل على أن المراد بالإيمان بالرسول الاتباع التام والطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به وينهى عنه سواء كان ما يأمر به أو ينهى عنه حكما من الأحكام الشرعية أو صادرا عنه بما له من ولاية أمور الأمة كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فهذا إيمان بعد إيمان ومرتبة فوق مرتبة الإيمان الذي ربما يتخلف عنه أثره فلا يترتب عليه لضعفه، وبهذا يناسب قوله: {يؤتكم كفلين من رحمته} والكفل الحظ والنصيب فله ثواب على ثواب كما أنه إيمان على إيمان.
وقيل: المراد بإيتاء كفلين من الرحمة إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم (عليهم السلام) لا تفرقون بين أحد من رسله.
وقوله: {ويجعل لكم نورا تمشون به} قيل: يعني يوم القيامة وهو النور الذي أشير إليه بقوله: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم{.
وفيه أنه تقييد من غير دليل بل لهم نورهم في الدنيا وهو المدلول عليه بقوله تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [الأنعام: 122] ، ونورهم في الآخرة وهو المدلول عليه بقوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } [الحديد: 12] الآية: 12 من السورة وغيره.
ثم كمل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته وجعل نور يمشون به بالمغفرة فقال: {ويغفر لكم والله غفور رحيم}.
قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله} ظاهر السياق أن في الآية التفاتا من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد بالعلم مطلق الاعتقاد كالزعم، و{أن} مخففة من الثقيلة، وضمير {يقدرون} للمؤمنين، وفي الكلام تعليل لمضمون الآية السابقة.
والمعنى: إنما أمرناهم بالإيمان بعد الإيمان ووعدناهم كفلين من الرحمة وجعل النور والمغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب أن المؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرتين أن آمنوا.
وقيل: إن لا في {لئلا يعلم} زائدة وضمير {يقدرون} لأهل الكتاب، والمعنى: إنما وعدنا المؤمنين بما وعدنا لأن يعلم أهل الكتاب القائلون: إن من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن فله أجر واحد لإيمانه بكتابنا، إنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله إن لم يؤمنوا، هذا ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف.
وقوله: {وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} معطوف على ألا يعلم، والمعنى: إنما وعدنا بما وعدنا لأن كذا كذا ولأن الفضل بيد الله والله ذو الفضل العظيم.
وفي الآية أقوال واحتمالات أخر لا جدوى في إيرادها والبحث عنها.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص149-154.
الهدف الأساس من بعثة الأنبياء:
إبتدأ الله سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي اُشير إليها في الآيات السابقة .. ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في إستعمالها، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة، لذا فانّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية مورد البحث ـ التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى ـ تشير إلى هذا المعنى، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة، حيث يقول سبحانه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}.
«البيّنات» هي الدلائل الواضحة، ولها معنى واسع يشمل المعجزات والدلائل العقليّة التي تسلّح بها الأنبياء والرسل الإلهيّون.
المقصود من (كتاب) هو نفس الكتب السماوية، ولأنّ روح وحقيقة الجميع شيء واحد، لذا فإنّ التعبير بـ (كتاب) جاء بصيغة مفرد.
وأمّا «الميزان» فيعني وسيلة للوزن والقياس، ومصداقها الحسّي هو الميزان الذي يقاس به وزن البضائع، ومن الواضح أنّ المقصود هو المصداق المعنوي، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الربّانية، أو جميع هذه الاُمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيّئة.
وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي: «الدلائل الواضحة»، و«الكتب السماوية»، و«معيار قياس الحقّ من الباطل» والجيّد من الرديء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.
وعلى كلّ حال، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية، هو إقامة القسط والعدل.
وفي الحقيقة أنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لإرسال الرسل، لأنّنا نعلم أنّ بعث الأنبياء وسعيهم كان من أجل أهداف عدّة:
منها: التعليم والتربية، كما جاء في الآية التالية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [الجمعة: 2].
والهدف الآخر كسر الأغلال والقيود التي أسّرت الإنسان، كما قال تعالى { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
والهدف الثالث إكمال القيم الأخلاقية، كما جاء في الحديث المشهور: «بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق»(2).
والهدف الرابع إقامة القسط والعدل، الذي اُشير إليه في الآية مورد البحث.
وبهذا الترتيب نستطيع تلخيص بعثة الأنبياء في الأهداف التالية: (الثقافية، الأخلاقية، السياسية، الإجتماعية).
ومن الواضح أنّ المقصود من الرسل في الآية مورد البحث، وبقرينة إنزال الكتب، هم الأنبياء أُولي العزم ومن يمثّلهم.
وممّا يجدر ذكره أنّ المقصود من التعبير القرآني: {ليقوم الناس بالقسط) أي أن يتحرّك الناس أنفسهم لتحقيق القسط، وليس المقصود أن يلزم الأنبياء على إقامة القسط، ولهذا يمكن القول بأنّه المراد من الآية وهدفها هو أن يعمل الناس بمفاهيم القسط ويتحرّكوا لتطبيقها.
والمهمّ أن يتربّى الناس على العدل والقسط بحيث يصبحون واعين له داعين إليه، منفّذين لبرامجه وسائرين في هذا الإتّجاه بأنفسهم.
ثمّ إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والإجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، وإستمراراً لمنهج الآية هذه يقول سبحانه: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}.
نعم، إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة، وتحقّق أهدافها المنشودة، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل الله.
وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ تعبير (أنزلنا) يعكس لنا أنّ الحديد جاء من كرات سماوية إلى الأرض، إلاّ أنّ الصحيح أنّ التعبير بـ (الإنزال) في مثل هذه الحالات هو إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى، ولأنّ خزائن كلّ شيء عند الله تعالى فهو الذي خلق الحديد لمنافع مختلفة، فعبّر عنه بالإنزال، وهنا حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال: «إنزاله ذلك خلقه إيّاه»(3).
كما نقرأ في الآية (6) من سورة الزمر حول الحيوانات حيث يقول سبحانه: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج).
وفسّر البعض (أنزلنا) بأنّها من مادّة (نزل) على وزن (شبر) بمعنى الشيء الذي يهيّأ لإستقبال الضيوف، ولكن الظاهر أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.
«البأس» في اللغة بمعنى الشدّة والقسوة والقدرة، ويقال للحرب والمبارزة (بأس) أيضاً، ولذا فإنّ المفسّرين فسّروها بأنّها الوسائل الحربية، أعمّ من الدفاعية والهجومية، ونقل في رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «يعني السلاح وغير ذلك»(4).
والواضح أنّ هذا من قبيل بيان المصداق.
والمقصود من «المنافع» هنا هو كلّ ما يفيد الإنسان من الحديد، وتتبيّن الأهميّة البالغة للحديد في حياة الإنسان أنّ البشرية قد بدأت عصراً جديداً بعد إكتشافه، سمّي بعصر الحديد، لأنّ هذا الإكتشاف قد غيّر الكثير من معالم الحياة في أغلب المجالات، وهذا يمثّل أبعاد كلمة (المنافع) في الآية الكريمة أعلاه.
وقد اُشير إلى هذا المعنى بآيات مختلفة في القرآن، منها قوله تعالى بشأن تصميم ذي القرنين على صنع سدّه العظيم: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف: 96].
وكذلك قوله سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10، 11] وذلك عندما شمل لطفه عزّوجلّ داود (عليه السلام) بتليين الحديد له ليستطيع أن يصنع دروعاً منه يقلّل فيها أخطار الحروب وهجمات العدو.
ثمّ يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلا، حيث يقول تعالى: {فليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب).
المقصود من (علم الله) هنا هو التحقّق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة الله ومبدئه، ويقومون بالقسط؟ ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة؟
ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة إختبار وتمحيص وإستخراج الصفوة التي إستجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.
ومن الطبيعي أنّ المقصود بـ (نصرة الله) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة، وإقامة الحقّ والقسط .. وإلاّ فإنّ الله ليس بحاجة إلى نصرة أحد، بل الكلّ محتاج إليه، ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى: {إنّ الله قوي عزيز).
حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم، بل يقلبه رأساً على عقب بإشارة واحدة، ويهلك أعداءه، وينصر أولياءه .. وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر، لذا فقد دعاهم عزّوجلّ إلى نصرة مبدأ الحقّ.
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 26، 27]
تعاقب الرسل واحداً بعد الآخر:
للقرآن الكريم منهجه المتميّز، ومن خصوصياته أنّه بعد بيان سلسلة من الاُصول العامّة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة، لكي يكون ذلك شاهداً وحجّة.
وهنا أيضاً يتجسّد هذا المنهج: حيث يشير في المقدّمة إلى إرسال الرسل مع البيّنات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحقّ، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبديّة .. ثمّ يتحدّث عن بعض الاُمم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاُسس في منهج دعوتهم.
ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحقّ، نوح وإبراهيم (عليهما السلام)، حيث يقول سبحانه: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب}.
وممّا يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم، والنعم الإلهيّة الفيّاضة، والهبات والألطاف العميمة، حيث يقول عزّوجلّ: {فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون).
نعم، لقد بدأت النبوّة بنوح (عليه السلام) توأماً مع الشريعة والمبدأ، ومن ثمّ إبراهيم (عليه السلام)من الأنبياء اُولي العزم في إمتداد خطّ الرسالة، وهكذا حلقات متواصلة على مرّ العصور والقرون، فإنّ القادة الإلهيين من ذريّة إبراهيم (عليه السلام) يتصدّون للقيام بمسؤولية الرسالة، إلاّ أنّ المستفيد من هذا النور الإلهي العظيم هم القلّة أيضاً، في حين أنّ الغالبية سلكت طريق الإنحراف.
ثمّ يشير إشارة مختصرة إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى (عليه السلام) آخر رسول قبل نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول سبحانه: {ثمّ قفّينا على آثارهم برسلنا).
حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر، حتّى وصل الدور إلى السيّد المسيح (عليه السلام): {وقفّينا بعيسى ابن مريم).
«قفّينا» من (قفا) بمعنى الظهر، ويقال للقافية قافية بسبب أنّ بعضها يتبع بعضاً، وتطلق عادةً على الحروف المتشابهة في آخر كلّ بيت من بيوت الشعر، والمقصود في الجملة من الآية أعلاه أنّ الأنبياء جاءوا بلحن واحد وأهداف منسجمة، الواحد تلو الآخر، وبدأوا وأكملوا التعليمات التي حملوها من الله إلى أقوامهم ..
وهذا التعبير جميل جدّاً، وهو إشارة لطيفة إلى مبدأ وحدة الرسالات وتوحيد النبوّة.
ثمّ يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح (عليه السلام) حيث يقول: {وآتيناه الإنجيل) ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: {وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفةً ورحمة).
ويرى بعض المفسّرين أنّ مصطلحي «الرأفة» و«الرحمة» بمعنى واحد، إلاّ أنّ قسماً آخر إعتبرهما مختلفين وقالوا: إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر، و«الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة.
ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً، لأنّ قصد الإنسان إبتداءً هو دفع الضرر ومن ثمّ يفكّر في جلب المنفعة.
وممّا يدلّل به على هذا الرأي ما استفيد من آية حدّ الزاني والزانية حيث يقول سبحانه: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [النور: 2].
إنّ موضوع الرأفة والرحمة بالنسبة للأتباع الحقيقيين للسيّد المسيح (عليه السلام) لم يذكر في هذه الآية فقط، بل ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]
وبالرغم من أنّ الآية الكريمة أخذت بنظر الإعتبار مسيحيي الحبشة وشخص «النجاشي» بالذات، حيث آوى المسلمين وعاملهم بإحسان ومحبّة خاصّة، إلاّ أنّها بشكل عام تشير إلى الرأفة والرحمة والعواطف الإيجابية للمسيحيين الحقيقيين.
ومن الطبيعي ألاّ يكون المقصود هنا المسيحيين الذين يمارسون أقذر الأعمال وأكثرها إجراماً وإنحطاطاً بحقّ الشعوب المستضعفة، هؤلاء الذين تلبّسوا بلباس الإنسانية، وهم في الحقيقة ذئاب مفترسة تصبغ حياة المحرومين بلون الدم والظلام .. ثمّ يضيف سبحانه: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ إبتغاء رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون}(5).
وممّا تقدّم يتّضح لنا أنّ هؤلاء ليسوا ممّن لم يراعوا مبدأ التوحيد للسيّد المسيح (عليه السلام) فقط، بل دنسوه بأنواع الشرك، ولم يراعوا أيضاً حتّى حقّ الرهبانية التي ابتدعوها باسم الزهد، حيث وضعوا مكائد في طريق خلق الله، وجعلوا من الأديرة والكنائس مراكز لأنواع الفساد، وأوجدوا إنحرافاً خطيراً في رسالة السيّد المسيح (عليه السلام).
ومن مفهوم الآية يتّضح لنا أنّ الرهبانية لم تكن جزءاً من رسالة السيّد المسيح (عليه السلام)، إلاّ أنّ أتباعه هم الذين ابتدعوها من بعده، حيث بدأت بشكل معتدل ثمّ مالت نحو الإنحراف.
وطبقاً لتفسير آخر فإنّ نوعاً من الرهبانية والزهد كان من مبدأ السيّد المسيح(عليه السلام)، إلاّ أنّ أتباعه وأصحابه ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم يقرّرها الله لهم(6).
والتّفسير الأوّل هو الأكثر شهرةً، والمناسب أكثر من بعض الجهات.
وعلى كلّ حال، فالمستفاد من الآية أعلاه إجمالا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح (عليه السلام)، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي، إلاّ أنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الإنحراف ـ فيما بعد ـ وتحريف التعاليم الإلهية، بل إقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن.
والتعبير القرآني بجملة: {فما رعوها حقّ رعايتها) دليل على أنّه لو اُعطي حقّها لكانت سنّة حسنة.
وما ورد في الآية التالية التي تتحدّث عن الرهبان والقساوسة يتناول هذا المعنى حيث يقول تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] (يرجى ملاحظة ذلك).
وهكذا يتبيّن أنّ كلمة «الرهبانية» كلّما كانت بمعنى الرأفة والرحمة فإنّها تشكّل دليل إضافياً على صحّة الإدّعاء أعلاه، لأنّها ستكون بمعنى مستوى الرأفة والرحمة التي وضعها الله في قلوبهم بعنوان أنّها صفة حميدة.
ومختصر الكلام هو: إذا وجدت سنّة حسنة بين الناس تكون اُصولها الكليّة وخطوطها العريضة في دائرة المبدأ الحقّ (كالزهد، مثلا، فإنّ ذلك ليس عملا قبيحاً، بل يعتبر مصداقاً من مصاديق الخطّ العام للمبدأ، خاصّة إذا لم تنسب هذه السنّة إلى المبدأ الإلهي .. ولسوء الحظّ فإنّ جملة من الإفراطات والتفريطات وجدت بين ظهرانينا تحت قناع الدين وتحوّلت إلى سنّة سيّئة.
إنّ مراسم الأعياد والتعازي والوفيّات الخاصّة بعظماء الإسلام وما يتعلّق بإحياء ذكرى الشهداء والأحبّة الراحلين ـ سواء في يوم إستشهادهم، أواليوم السابع، أو بعد مرور أربعين يوماً من الشهادة أو الوفاة، وكذا ما يتعلّق بذكراهم السنوية ـ هو مصداق للمفاهيم الكليّة في الإسلام حول تعظيم شعائر الله تعالى، وإحياء ذكر قادة الإسلام وعموم شهداء المسلمين، وبغضّ النظر عن الجزئيات والتفاصيل فإنّ هذه المراسم مصداق من الأصل الكلّي فقط، ولا يمكن إعتبارها مبادىء شرعية.
وكلّما أنجزت هذه المراسم بدون تجاوز للحدود الشرعية وعدم تدنيسها بالخرافات والممارسات اللا شرعيّة، فإنّها ـ من المسلّم ـ مصداق لابتغاء رضوان الله، ومصداق سنّة حسنة، وفي غير هذه الصورة فإنّها ستكون بدعة الشؤم والسنّة السيّئة.
وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الحديد: 28، 29]
الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية:
بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين، فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة; يقول سبحانه: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وآمنوا برسوله}.
وللمفسّرين رأيان حول طبيعة المخاطب في هذه الآية:
الأوّل: إنّ المخاطب هم المؤمنون، حيث يبيّن لهم سبحانه أنّ الإيمان الظاهري غير كاف للفرد، ولابدّ أن يكون الإيمان عميقاً توأماً مع التقوى والعمل، كي ينالوا الأجر العظيم والذي ستتعرّض له الآية الكريمة.
الثاني: إنّ المخاطب هنا هم مؤمنو أهل الكتاب، ويعني: يامن آمنتم بالأنبياء والكتب السابقة آمنوا برسول الإسلام، ولتكن تقوى الله نصب أعينكم كي يشملكم سبحانه بأنواع أجره وجزائه.
والذي يؤيّد الرأي الثاني هو ذكر (الأجر المضاعف) والذي ورد في نهاية الآية والمقصود به جزاء الإيمان بالأنبياء السابقين، وجزاء الإيمان برسول الإسلام.
إلاّ أنّ هذا التّفسير إضافة إلى أنّه لا يتناسب مع الآية اللاحقة ـ كما سنوضّح ـ فإنّه كذلك لا ينسجم مع سبب نزول الآية وطبيعة الإطلاق الذي ورد فيها بقوله: {يا أيّها الذين آمنوا}.
وبناءً على هذا فلابدّ من تبنّي الرأي القائل بأنّ المقصود بالمخاطب هم جميع المؤمنين الذين قبلوا ـ بالظاهر ـ دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضيء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.
وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى حيث يقول تعالى: {يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}.
«كفل» على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته، ويقال للضامن «كفيل» أيضاً بهذا اللحاظ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه(7).
والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هوما جاء في قوله تعالى: {ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).
واحتمل أيضاً أنّ هذين النصيبين يمكن أن يكون أحدهما الإيمان برسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخر الإيمان بالأنبياء السابقين، لأنّ كلّ مسلم ملزم بموجب إعتقاده أن يؤمن بكلّ الأنبياء السابقين والكتب السماوية ويحترمها.
وذكر البعض أنّ المقصود هو الأجر المستمر والمتعاقب والمضاعف.
إلاّ أنّ الجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.
وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: {ويجعل لكم نوراً تمشون به} قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بذلك هو نور الإيمان الذي يسبق المؤمنين في سيرهم يوم القيامة، ويبدّد ظلمات الحشر، حيث يتقدّمون إلى الجنّة والسعادة الأبديّة. كما جاء في الآية الكريمة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } [الحديد: 12].
في الوقت الذي إعتبرها البعض الآخر إشارة إلى نور القرآن الذي يشعّ على المؤمنين في الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15].
إلاّ أنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب، وبتعبير آخر فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب المؤمنين، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرّم غير المؤمنين منها.
جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المقصود بالنور في الآية أعلاه هو: «إمام تأتمون به»، وهو في الحقيقة بيان واحد من المصاديق الواضحة(8).
وأخيراً فإنّ ثالث جزاء للمؤمنين المتّقين هو(غفران الذنوب) لأنّ بدونه لا يكون للإنسان هناء بأي نعمة من الله عليه، حيث يجب أن يكون في البداية في مأمن من العذاب الإلهي ثمّ ينتقل إلى المسير في طريق النور والتقوى لينال الرحمة الإلهية المضاعفة.
وفي الآية اللاحقة ـ والتي هي آخر آيات هذه السورة ـ بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: {لئلاّ يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شيء من فضل الله، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}(9).
إنّه جواب لهؤلاء الكتابيّين الذين زعم قسم منهم: أنّ لهم أجراً واحداً كبقيّة المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمّا الذين آمنوا بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)منهم فلهم أجران: أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.
فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول الله بالإضافة إلى إيمانهم بكلّ الأنبياء السابقين، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله فليس لهم أي نصيب أوسهم من الأجر، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في إختيارهم حتّى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.
وهذه الآية تتضمّن كذلك جواباً لما ورد من ادّعاءات واهية من بعض اليهود والنصارى الذين اعتبروا الجنّة والرحمة الإلهية منحصرة بهم، ظانّين أنّ غيرهم محروم منها، حيث يقول سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 111].
____________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص600-619.
2 ـ بحار الأنوار، ج71، ص372 باب حسن الخُلُق نهاية الحديث الأوّل.
3 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص250، حديث100.
4 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص250، حديث101.
5 ـ حول تركيب ومعنى هذه الآية يوجد إختلاف كثير بين المفسّرين، حيث اعتبرها البعض عطفاً على الرأفة والرحمة، وأخذوا بنظر الإعتبار (حبّ) قبل الرهبانية تقديراً، لأنّ الرهبانية ليست شيئاً يكون في القلب، بل أنّ حبّها والتعلّق بها يكون في القلب، واعتبرها آخرون منصوبة بفعل مضمر حيث إنّ (ابتدعوها) تفسّر ذلك في تقدير: ابتدعوا رهبانية، ابتدعوها.
وبالنسبة لـ (إلاّ ابتغاء رضوان الله) توجد وجهتا نظر: الاُولى: أنّها استثناء منقطع، ومفهومه هو: (ولكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله). والاُخرى: أنّها استثناء متّصل ومفهومها أنّنا قرّرنا ووضعنا نوعاً من الرهبانية عليهم، والهدف من ذلك هو جلب رضى الله تعالى، ولكنّهم حرّفوا الرهبانية إلى نوع آخر كان خلافاً لرضى الله، والظاهر أنّ التّفسير الأوّل في كلا الموردين مناسب أكثر، لذا يرجى الإنتباه هنا.
6 ـ طبقاً للتفسير الأوّل حسب الرأي الذي يقول بأنّه إستثناء منقطع، والتّفسير الثاني يقول بالإستثناء المتّصل.
وهذه النقطة أيضاً جديرة بالملاحظة وهي: إذا كانت الرهبانية عطف على الرأفة والرحمة كما اخترناه في المتن، فإنّ المقصود من جعلها في القلوب هو نفس الميل القلبي لهم إلى هذه المسألة، في حين أنّ المقصود من (ما كتبناها) هو أنّ مسألة الرهبانية لم تكن حكم الله في دين السيّد المسيح، بالرغم من أنّ الله تعالى قد وضع حبّها في قلوبهم، وبناءً على هذا فلا تتنافى مع جملة (ابتدعوها).
7 ـ يعتقد البعض أنّ هذا المصطلح مأخوذ من (كفل) على وزن «عسل» والمقصود به هوما يضعونه على كفل ـ القسم الأخير من الظهر ـ الحيوانات كي لا يسقط الراكب، ولذلك فإنّه يقال لكلّ شيء يسبّب الحفظ (كفل)، ومن هنا أطلق على الضامن اسم «الكفيل» بسبب هذا المعنى. (أبو الفتوح الرازي نهاية الآية مورد البحث).
ويستفاد من الراغب أنّ لهذا المصطلح معنيين: الأوّل هو المعنى أعلاه، والمعنى الثاني يطلق على الشيء الرديء الذي لا قيمة له، والتشبيه بكفل الحيوانات يكون بلحاظ أنّ كلّ شخص يركب على كفلها فاحتمال سقوطه وارد (يرجى ملاحظة ذلك).
8 ـ نقلت هذه الروايات في تفسير نور الثقلين، ج5، ص252، 253.
9 ـ في (لا) في (لئلاّ) يعلم أهل الكتاب زائدة أو أصلية، يوجد نقاش بين المفسّرين حول هذه المسألة، حيث اعتبر الكثيرون أنّ (لا) زائدة وتفيد التأكيد (كما ذكرنا أعلاه) وبناءً على أنّ (لا) أصلية، فقد وردت معاني مختلفة للآية من جملتها أنّ المقصود سيكون كالتالي وهو: أن يعلم أهل الكتاب بأنّه إذا قبلوا الإيمان والإسلام فإنّهم يستطيعون أن يهيّؤوا الفضل الإلهي لهم. وبتعبير آخر فإنّ نفي النفي هنا بمعنى (الإثبات) أو يكون المقصود كالتالي: نحن الذين أعطينا كلّ هذه الهبات للمسلمين حتّى لا يتصوّروا أهل الكتاب أن لا نصيب للمسلمين في الفضل الإلهي.
إلاّ أنّه بملاحظة نهاية الآية التي تقول: (وإنّ الفضل بيد الله) وكذلك بملاحظة سبب نزولها الذي مرّ بنا سابقاً فإنّ كون (لا) زائدة هو الأنسب ظاهراً، بل وحسب إعتقاد البعض أنّه في الكثير من الموارد التي تشتمل الجملة على نفي، فإنّ: (لا) تكون زائدة كما في قوله تعالى: (ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك) الأعراف / 12. وفي قوله تعالى أيضاً: (وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون) الأنعام، الآية 109 (يرجى ملاحظة ذلك).
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تحتفي بذكرى ولادة الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
|
|
|