الحياة الاسرية
الزوج و الزوجة
الآباء والأمهات
الأبناء
مقبلون على الزواج
مشاكل و حلول
الطفولة
المراهقة والشباب
المرأة حقوق وواجبات
المجتمع و قضاياه
البيئة
آداب عامة
الوطن والسياسة
النظام المالي والانتاج
التنمية البشرية
التربية والتعليم
التربية الروحية والدينية
التربية الصحية والبدنية
التربية العلمية والفكرية والثقافية
التربية النفسية والعاطفية
مفاهيم ونظم تربوية
معلومات عامة
مرحلة الرضاعة (0 ــ 13شهرا): ركيزة الثقة
المؤلف: د. لورا ماركهام
المصدر: آباء مطمئنون أبناء سعداء
الجزء والصفحة: ص133ــ140
2025-01-16
32
إن المهمة التنموية الأساسية للرضيع هي تعلُّم أن يثق. الثقة تمهد الطريق لكل ما يخبئه المستقبل. قال ألبرت أينشتاين إن أهم سؤال يتحتم على كلّ منا الإجابة عنه هو: ((هل هذا العالم ودود؟)). ونحن نجيب عن هذا السؤال في مرحلة الرضاعة.
منذ ما يقرب من مائة عام، ابتكر عالم النفس هاري ستاك سوليفان فكرة أن الأطفال الرضع يلتقطون عدوى القلق (الذي هو شكل من أشكال الخوف أو انعدام الثقة) من آبائهم. تؤكد البحوث أن لمسة الوالد وصوته وحركاته يمكنها إما أن تهدئ الطفل وإما أن تحفز قلقه. تحلق هرمونات الضغط النفسي لدى الرضع استجابة للأصوات الغاضبة – بما فيها تلك الصادرة من التلفزيون - حتى وهم نائمون في حين أن الصوت الهادئ والتواصل البصري المحب والعناق الوثيق في أثناء عنايتنا بالطفلة، تعطيها رسالة مفادها أن العالم مكان آمن يمكنها فيه الاسترخاء والثقة. كل والد سبق أن حمم طفلا رضيعا يعي ما أقصده.
البشر قادرون على التأقلم تحديدا لأنهم غير مكتملين، تستجيب الطفلة لبيئتها من خلال «بناء» دماغ يساعدها بأفضل صورة على التفتح في تلك البيئة. إذا حظيت بالظروف المُثلى - بتغذية جسدية وذراعين دافئتين تحملانها وتهدهدانها وراع متجاوب يتفاعل معها – ستبني دماغا مهيأً لاستحثاث التهدئة الذاتية والأمزجة السعيدة والاتصال الحميمي. إن لم توفر لها البيئة ما تحتاج إليه، أو بدت خطرة - على سبيل المثال، ضجيج عال غير مقرون بتطمين - فقد يعاني الدماغ الذي تبنيه فرطَ اليقظة وانعدام الثقة، ويصير مهيأً لوضع القتال أو الهروب وللتنافس على الموارد النادرة.
لعل ذلك هو السبب في أن مهمتنا بوصفنا آباء هي تزويد صغارنا بتطمينات مستمرة قدر المستطاع مفادها أنهم بأمان لننظر إلى التشكيل المفصل للدماغ عندما تجتاح طفلك كيماويات الفزع، مثل الأدرينالين والكورتيزول، اثنين من هرمونات وضع القتال أو الهروب. سواء أكان يشعر بالجوع أم عسر الهضم أم الرعب إثر تركه وحيدًا (حيث تخبره غرائزه البدائية بأن النمور قد تأكله)، فإنه يصاب بالفزع. من حسن الحظ، يثير بكاء طفلك جنونك، لذلك تحمله، بالطبع، كيما يهدأ. وفي كل مرة يبكي وتستجيب له، تساعد دماغه على تهيئة نفسه للتهدئة الذاتية عندما يكبر قليلا. ما تراه أنت هو أنه يهدأ عندما تهدهده. وما يحدث بيولوجياً هو أن جسمه يستجيب لشعوره بالأمان بين ذراعيك من خلال إرسال مواد بيوكيميائية مهدئة، والتي بدورها تنشئ مزيدا من المسارات العصبية والمستقبلات لهرمونات التهدئة الذاتية هذه. ومن الناحية النفسية، يتعلم الطفل أن جوعه ومشاعره الأخرى قابلة للتسكين، وأن المساعدة قادمة، وأنه ثمة من يحميه، ويساعده على تنظيم نفسه. لا داعي للفزع. يمكنه الوثوق بأن هذا العالم الودود سيلبي احتياجاته. ويبدأ بتطوير نموذج ناجح إيجابي للعلاقات الإنسانية، نموذج يُشعره بالدفء والأمان والمحبة.
حقيقة التهدئة الذاتية
ماذا عن النصيحة التي سمعتها بأن الطفلة تتعلم تهدئة ذاتها إن تركتها تبكي ببساطة؟ إنها نصيحة غير سليمة علميا، وسوء استخدام لمصطلح التهدئة الذاتية. تشهد البراهين المثبتة بأن بكاء الرضيع المتتابع من دون مواساة يؤدي إلى زيادة في معدل ضربات القلب وضغط الدم، وانخفاض في مستويات الأكسجين، وارتفاع هائل في مستويات الكورتيزول والأدرينالين وغيرهما من هرمونات الضغط النفسي. الأطفال الذين يتركون لبكائهم قد ينتهي بهم المطاف إلى البكاء حتى النوم، لكن ذلك يُدعى «إنهاكا» وليس «تهدئة». فالطفلة ما زالت غارقة في هرمونات الضغط النفسي، التي تبرمج دماغها على أن يتصرف بتفاعلية أكبر عاطفيا. صحيح أن الرضع يتعلمون ما يمكنهم توقعه، فيكفون عن توسل الهدهدة خلال الليل، أو حتى في أثناء النهار، إن لم يستجب أحد لصرخاتهم. لكن الأطفال في دور الأيتام لا يبكون كثيرا، ومع ذلك ليس لنا أن نعد تأقلمهم صحيا.
من الجلي أن تجربة الرضع الذين يتلقون رعاية متجاوبة من آبائهم خلال النهار لكن يُتركون ليلا للبكاء بمفردهم لا يمكن مقارنتها بتجربة الرضع في دار الأيتام. ما أقصده هو أن عدم الاحتجاج لا يعني أن الرضيع لا يحتاج إلى أبويه، بل فقط أن الرضيع قد تعلم أن أبويه لن يستجيبا في الواقع، في حين أن الرضع الذين جرى تدريبهم على النوم قد يخلدون إلى أسرتهم بهدوء في الأيام اللاحقة، فإن هرمونات الضغط النفسي لديهم ما زالت تحلق، تماما مثلما فعلت خلال التدريب على النوم. بعبارة أخرى، يظل الطفل في حالة من الضغط النفسي، لكنه يلتزم الهدوء لأنه تعلم
أن طلب المساعدة غير مجدٍ.
من سوء الحظ، بالنظر إلى ما نعرفه عن نمو الدماغ، من المنطقي أن نخلص إلى أن الرضيع الذي تمضي صرخاته من دون استجابة بصفة منتظمة - سواء ليلا أو نهارًا - يبني نوعًا مختلفا قليلا من الأدمغة. إن تدفق الكورتيزول المرتبط ببكاء الرضيع من دون مواساة يضع جهاز المناعة والتعلم والوظائف الأخرى غير الضرورية في حالة انتظار، في حين يركز على الأزمة الحالية، مما يمنع دماغ الرضيع من بناء العديد من الوصلات العصبية اللازمة للتهدئة.
كما أن ترك طفلنا يبكي يغيرنا نحن بوصفنا آباء. يتعين علينا تعطيل تعاطفنا الفطري تجاه رضيعنا، التعاطف نفسه الضروري جدا لمساعدة طفلنا على تنمية ذكائه العاطفي. تتضاءل نزعتنا الفطرية لرؤية الأشياء من وجهة نظره قليلا، لذلك يُرجح أن نجد التربية أصعب. من شأن ترك طفلنا يبكي وحيدًا أن يكون الخطوة الأولى على منحدر زلق من فقدان الاتصال الذي يقوض من قدرتنا على أن نكون الوالد المتجاوب الذي يحتاج إليه طفلنا، وكذا رضانا بوصفنا آباء.
وبالطبع، ليس مريحًا أن تضطر إلى الحضور لمساعدة طفلك على تنظيم عواطفه وفسيولوجيا جسمه في كل مرة ينزعج فيها لبقية حياته. من حسن الحظ، لدى الطبيعة فكرة أفضل بمرور الوقت، في حين تجتاحه الإزعاجات، يصير قادرًا على استخدام تلك المسارات العصبية التي يبنيها لتهدئة نفسه. كلما زاد هرمون الأوكسيتوسين الذي يفزره استجابة لاهتمامك المحب، على سبيل المثال، زاد عدد مستقبلات هرمون الأوكسيتوسين التي يصنعها، وصار أسهل عليه أن يهدئ نفسه ويشعر بالرضا. حتى إنه يبدأ بإنشاء وصلات عصبية تسمح للقشرة قبل الجبهية (بواكير الدماغ المفكر) بإبطال الإنذارات في اللوزة الدماغية (جزء من الدماغ العاطفي). أنت من تيسر لطفلك بناء دماغ وجهاز عصبي يسهلان
عليه إدارة قلقه لبقية حياته.
أي شخص سبق أن قضى وقتا مع طفل حديث الولادة يعلم كم تصعب تهدئته. لا تقلق. لا يستلزم نمو دماغ طفلك أن تكون مثاليا. الآباء ليسوا مثاليين أبدا. ما عليك سوى أن تكون جيدا بما يكفي، بحيث تظهر في أغلب الأحيان بصورة مهدئة عندما يحتاج طفلك الرضيع إليك. وهذا يعني أن تحتضنه وهو يبكي، وتمنحه ما نحتاج إليه جميعًا عندما نتعرض لضائقة: شاهد متعاطف.
حتى وإن استمرت صغيرتك في البكاء في حين تحتضنها، فهي تشعر بذراعيك تحيطان بها. يختلف هذا كثيرًا عن البكاء من دون مواساة الذي يسبب للرضع ضغطاً شديدًا. ربما تعاني ألما ما أو ربما تعرضت لتحفيز مفرط ببساطة، وتحتاج إلى التخلص من كل تلك الضغوط المكبوتة جراء حداثة عهدها بالحياة في هذا العالم المربك. في كلتا الحالتين، ينجز حضورك المهمة، ويمنحها الأمان للتعبير عن عواطفها - والشعور بأنها مسموعة. يبدد هذا البكاء في الواقع هرمونات الضغط النفسي. فكر في الأمر بهذه الطريقة: لقد مرت بيوم صعب، أو (حتى قبل أشهر مضت) بولادة صعبة، وتريد إخبارك بذلك. ربما هي تبكي، لكنه بكاء أبيض ومطهر. إنها تطلق سراح كل الكورتيزول والأدرينالين وغيرهما من هرمونات الضغط النفسي المكبوتة إثر تجاربها المحفزة في هذا العالم المجنون الجديد. ولأنك تحتضنها، يستجيب جسدها للبكاء ببناء مسارات عصبية لإرسال هرمونات مهدئة. تلك مهمة شاقة بالنسبة إليك، لكن الخبر السار هو أنك إن استطعت فقط مواصلة التنفس لتهدئة نفسك، ومواصلة توفير ((بيئة حاضنة)) آمنة لها، فسوف تبني في نهاية المطاف الوصلات العصبية اللازمة لتهدئة نفسها.
كفى بالآباء حقا أن يكونوا ((جيدين بما يكفي)). لا يستطيع الأبوان، أبدا، التقاط جميع إشارات طفلتهما. نحن بشر، لذلك نتشتت، ونقلق، ونخاف ونفزع، ونكتئب، ونمرض - باختصار، لا يمكننا دائما الحضور بالقدر الذي نريده لأطفالنا. لعلك تتذكر اكتشاف الباحث إدوارد ترونيك أنه حتى الآباء الأشد انتباها لا يسعهم التناغم مع إشارات أطفالهم إلا بنحو 30 في المائة؟
الخبر السار هو أنه عندما تفوتنا إشارة من رضيعنا أو يحدث سوء تفاهم أو تصدع بسيط بيننا، يمكننا إصلاحه الواقع أن تجربة عدم فهم الوالد، ثم معاودته الاتصال، تعد أحد الدروس الحاسمة للرضيع. كيف يحدث هذا؟ لنفترض، أننا قضينا وقتا ممتعا في اللعب مع رضيعنا. هززنا (الخشخيشة) ومضى يضحك بصخب لكن بعد فترة أنهكته حماسته. أحس بنفسه ينفلت خارج السيطرة، وشعر بالخوف. كان بحاجة إلى تهدئة نفسه، وإلى العودة إلى مستوى أدنى من الإثارة. يشيح ببصره. قد يلاحظ بعض الآباء على الفور ويدركون أن رضيعهم بحاجة إلى استراحة. لكن لن نفعل ذلك نحن. فنحن نقضي وقتا جدّ ممتع. كم هو رائع أن نرى صغيرنا سعيدًا هكذا ولعل هناك المزيد، لعلنا لا نشعر برضا كبير تجاه أسلوبنا في التربية في الوقت الحالي، لأن تهدئة الرضيع يمكن أن تمثل تحديًا، لكن انظر، بوسعنا أن نجعله يضحك، ويضحك أكثر ... وهكذا تفوتنا إشارته يواصل صغيرنا النظر بعيدا، على الرغم من الحاقنا بعينيه أينما تذهبان وهزنا (الخشخيشة) بإصرار أكبر. يشعر بالإنهاك. يتغضن وجهه، ويبدأ بالبكاء.
وهكذا اختل تناغمنا. لقد دفعنا صغيرنا إلى البكاء حرفيا بتطفلنا. هل تضرر مدى الحياة؟ من حسن الحظ، لا. ربما نكون بطيئين، لكن ليس ميؤوسا منا. نأخذ نفسًا عميقا وندير الدفة من الحماس إلى التهدئة. نحمل رفيقنا الصغير، ونبدأ بمحادثته بأسلوب مهدهد. يواصل البكاء، لكن بصوت أكثر خفونًا، وتتباطأ أنفاسه إنه يهدأ. لقد تعلم أن الكون ليس مثالياً. وفي بعض الأحيان عليه أن يرفع صوته ليصير مسموعاً، لكنه قادر على ترميم الصدع في علاقتكما، ولأنك استجبت بسرعة لضائقته - التي ثبت أن التناغم معها هو الأهم بالنسبة إلى الطريقة التي يتأقلم بها الرُّضع - فقد تعلم أن الكون آمن، وأن بإمكانه الاعتماد عليك للاستجابة كلما احتاج إليك. إن الإصلاح السريع بعد فتق في التعاطف من قبل الوالد إنما هو جزء من كيفية تطوير الأطفال للمرونة، أو للإيمان بأن الأمور ستنصلح إن هم استمروا في المحاولة. في الواقع، في كل مرة يختل فيها تناغمنا، تسنح لصغيرنا فرصة صغيرة للتمرن على تنظيم نفسه من دون مساعدتنا. في بعض الأحيان، لن يقدر على ذلك، لكنه في الغالب سيفعل، وسوف يتعلم الطريقة - تماما مثلما خطا خطواته الأولى تلك. لذلك، في حين أنك لا ترغب في خلق تجارب صعبة لطفلك عن عمد - فالحياة ستلقي أمامه بالكثير من دون مساعدتك – فإن زلات التناغم هي حقًا فرص للتعلم ما دامت متبوعة بإعادة الاتصال، وما دامت كفة اللحظات الإيجابية هي الراجحة.
تهدئة طفلتك لا تساعدها على تعلُّم تهدئة نفسها فحسب، بل تساعدها أيضًا على أن تصير إنسانة أكثر هدوءًا وودا وسعادة، ليس فقط بوصفها طفلة بل طوال حياتها. يُظهر العديد من الدراسات أن الرضع الذين يتلقون مستويات أعلى من المتوسط من المودة والاهتمام والتهدئة من آبائهم يكبرون ليصيروا بالغين أكثر استرخاء وأفضل من حيث التنظيم العاطفي وأشد سعادة. ولا غرو أنهم يتمتعون حتى بقدرة أكبر على تنظیم وزنهم.
هذه القدرة على التهدئة الذاتية هي الشرط السابق للذكاء العاطفي.
وسوف يطورها الطفل عند تعلُّمه أن يثق بأنك موجود لمساعدته متى احتاج إليك، وأن بإمكانك قراءة إشاراته ومساعدته على تنظيم نفسه. ذلك هو أساس الارتباط الآمن. فبناءً على عامه الأول معك، سيخلص إلى أن هذا الكون ودود، وأنه سيكون على ما يرام فيه.