الحياة الاسرية
الزوج و الزوجة
الآباء والأمهات
الأبناء
مقبلون على الزواج
مشاكل و حلول
الطفولة
المراهقة والشباب
المرأة حقوق وواجبات
المجتمع و قضاياه
البيئة
آداب عامة
الوطن والسياسة
النظام المالي والانتاج
التنمية البشرية
التربية والتعليم
التربية الروحية والدينية
التربية الصحية والبدنية
التربية العلمية والفكرية والثقافية
التربية النفسية والعاطفية
مفاهيم ونظم تربوية
معلومات عامة
النهوض بالبحث العلمي
المؤلف:
أ. د. عبد الكريم بكَار
المصدر:
حول التربية والتعليم
الجزء والصفحة:
ص 285 ــ 298
2025-08-07
15
إذا كنا نعتقد أن لكل أمة فلسفتها في الحياة، كما أن لها إمكاناتها وظروفها ومشكلاتها - وجب أن يكون لها أيضاً بحوثها ودراساتها الخاصة.
لا يعني هذا - بالطبع - غض الطرف عن خبرات العالم في هذا الشأن وإنما يعني شفافية الجهود والدراسات البحثية لمجمل رؤية أمة الإسلام للحياة والإنسان، والاستجابة لطموحاتها، والمساهمة في حل المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتها.
في غالب الأحيان تتمحور جهود النهوض بأي شيء في الحياة حول توجيه الإمكانات المتاحة إلى المجالات ذات الأهمية والأولوية، وحول تنظيم جوانب العمل المختلفة وتدعيمها. وهذا ما يحتاجه (البحث العملي). في عالمنا الإسلامي. ولعلنا نتحدث عن هاتين المسألتين ومسائل أخرى مما يتعلق بتحسين أوضاع البحث العلمي في الصفحات التالية:
1- توجيه البحث العلمي:
لا نستطيع في البداية أن نقول: إن الشعوب الإسلامية، تملك إمكانات متساوية، أو تواجه مشكلات متجانسة؛ فالأقليات الإسلامية التي تشكل نسبة لا يستهان بها من العالم الإسلامي لها شجون وهموم مختلفة عن هموم الشعوب الإسلامية التي تعيش في المنطقة العربية أو في أندونوسيا أو الباكستان.. وهذا يقتضي - بالطبع - اختلاف المجالات التي يوجه إليها البحث العملي بين دولة وأخرى وتجمع إسلامي وآخر، وتظل مع ذلك هناك مجالات وقضايا كثيرة، تمس الحاجة فيها إلى تركيز البحوث والدراسات العلمية لدى جميع الشعوب والدول الإسلامية، وذلك بسبب الرؤية المشتركة للحياة وبسبب الطموحات والتحديات المشتركة وأعتقد أن مما يستحق توجيه البحوث إليه لدى كثير من الشعوب والأقليات الإسلامية المجالات الآتية:
أ- الالتزام والتدين:
إن قضية التدين، تمثل محوراً جوهرياً في حياة كل مسلم، فالالتزام هو الحيوية التي تتغلغل في كيان المسلم، وتصبغ وجوده، وتشكل رؤيته لكل الأشياء... وعلى الرغم من ذلك فإنه ليس هناك مسألة أهملها (البحث العملي) كهذه المسألة!
مهما يكن توجه الحكومة التي تسير أمور شعب مسلم، فإنها تضل بحاجة ماسة إلى أن تعرف وتفهم درجة التزام شعبها وتوجهاته إلى جانب إدراك البنية العميقة التي تحدد موقفه من الإصلاحات والمشكلات الاجتماعية المختلفة. الأحزاب والجماعات والمنظمات المختلفة يعنيها الأمر كما يعني الحكومات على نحو متطابق.
إن حاجة الجماعات والحركات الإصلاحية إلى الحصول على دروس ومستخلصات علمية حول درجة (الالتزام) في مجتمعاتها ماسة جداً، لأن توفر معلومات جيدة حوله، سوف يوفر عليها الكثير الكثير من الجهود ويساعدها على تقويم أدائها، كما سيزيد في بصيرتها للمهام والمسؤوليات الملقاة عليها.
إن من المؤسف أننا لا نكاد نرى جماعة إسلامية، أقامت مركز بحوث خاصاً بها، كما أن أبناءها وأتباعها المشتغلين بالبحث العلمي، قلما يقومون بدراسات تثري رؤية جماعتهم أو منظمتهم لواقع التدين ومتطلباته، كما أن من النادر أن تقوم جماعة إسلامية بتمويل بحوث أو دراسات تخدم ذلك!
إن استجابة الناس للجهود الإصلاحية لا تتم في فراغ، وإنما تحتاج إلى توفر شروط ومناخات معينة تختلف من بيئة إلى أخرى اختلافاً بيناً، والوقوف عليها لا يمكن أن يتهيأ من خلال التأمل والتمثل الذهني، وإنما من خلال فيض من البرامج البحثية والدراسات النظرية والميدانية. إننا نأمل أن نرى الكليات الشرعية، والجمعيات الخيرية والجماعات الإسلامية وقد خصصت جزءاً من جهودها وأموالها لإثراء الخبرة وبلورة المفاهيم في واقع (الالتزام) ونشر ما يتحصل لديها من ذلك وتثقيف الناس به. وإذا ما تم هذا، فإننا نتوقع أن نرى نقلة نوعية في اتجاه الإيمان والاستقامة والتقدم الاجتماعي.
ب- الحياة الطبية
تولد الحياة الطيبة من بوتقة نسيج معقد من العناصر الروحية والمادية. وسيكون فهم ذلك النسيج مستعصياً على الناس إذا ما أرادوا مقاربته على نحو فج أو تلقائي؛ مما يوجب على أهل كل بلد أن يتلمسوا ما يوفر الحياة الهانئة على نحو منفرد.
إن القلق وسوء الأخلاق والفقر وإجهاض كثير من الجهود التربوية. وفساد الدعم وتفاقم الأنانية، والتحلل الأسري والاجتماعي... كل ذلك. لا ينتشر في المجتمعات على شكل متساو، ولا يؤثر كذلك في مشاعر الناس على نحو متماثل؛ مما يجعل الحاجة ماسة إلى إدراكه عن طريق دراسات معمقة خاصة حيث إن كثيراً من ذلك هو وليد الروح والنظم الحضارية المعاصرة والغرب الذي عمر العالم بفلسفته وإنتاجه، يعالج هذه المشكلات عن طريق البحث العلمي، وسيكون من التبسيط المبالغ فيه أن تعالجها بطرق وأدوات تم إنتاجها عن طريق الأفكار السطحية أو التجارب والخبرات البدائية؛ إذ من المعروف أن معالجة المشكلات بحاجة إلى مستوى فكري وتنظيمي وأداتي أرقى من المستوى الذي كان سائداً عند بزوغها.
إن معرفة الشروط التي يجب توفيرها من أجل جعل الإنسان مستقيماً وناجحاً وسعيداً، تتوقف على توفير معلومات وأفكار تتصل بتكوينات ثقافية متباعدة، وموزعة على محاور مشتتة، محاور عقدية ومعرفية واقتصادية وسياسية ومهنية... مما يجعل القبض عليها مرتبطاً بذكاء الدراسات والبحوث العلمية التي نجريها حولها وبكثافتها ورشدها.
ج- التراث (1).
يشكل تراثنا مكوناً أساسياً في ثقافتنا الحاضرة، كما يشكل الجزء الأكبر من منظوماتنا العقلية والشعورية والرمزية، ولكنه لا يتفرد بتشكيل كل ذلك. إنه تراث ضخم جدا، فهو مستطيل في الزمان ومستعرض في المكان، وهذا الثراء يمكن أن يشكل عامل إرباك واختلاط، فالتراث. كالثقافة - بإمكانه أن يحفز على العمل، ويرشد إلى الوجهة الصحيحة، كما أن بإمكانه أن يبرمج عقل الأمة برمجة خاطئة، وبعدها بنماذج ومؤشرات ومواد تحجب رؤيتها للمنهج الرباني الصافي والبعيد من الشوائب، كما تحجبها من رؤية الواقع والاستجابة الصحيحة لتحدياته.
إن مجمل الانكسارات والتراجعات الحضارية التي أصابت الأمة على مدار قرون عديدة، ينبغي أن يحفزنا على نحو استثنائي للتساؤل عن جذور تلك الانكسارات، وعن إسهام التاريخ والموروثات الثقافية في صنعها، إنني أعتقد أن أفضل ما في تراثنا قد نشر ـ على نحو عام - وأن حركة نشر التراث لن تتوقف عند حد، مما ينبغي أن توجه جزءاً كبيراً من جهودنا اليوم لـ (البحث في التراث) بدل الاهتمام شبه المطلق بنشره.
إن البحث في التراث، يعني أن ترقب بعمق تكوينه وظروف ذلك التكوين والمنحنيات الحادة التي مر بها، كما يعني أن نحاكمه إلى قطعيات المنهج الرباني، وأن ننظر إليه من زاوية صلاحيته لتطوير حياتنا نحو الأفضل، وملاءمته لإحداث التوثب الشعوري والذهني الذي تحتاج إليه في تحقيق وجودنا.
إن كل أمم الأرض تفعل ما ندعو إليه حين تدخل في أزمات، أو تعاني من نكسات حضارية، بل إن خسارة حرب واحدة، قد تدفع إلى قراءة التراث قراءة جديدة انطلاقاً من دوره الخطير في تنظيم ردود الأفعال، وتوجيه الفكر، وتحديد الأساليب والأدوات المستخدمة في المواجهة؛ فقد ظل الشعب الصيني على مدى تاريخه، يمارس عبادة الأجداد، ويقدس الماضي تقديساً هائلاً، ومع هذا فإن (حرب الأفيون) التي وقعت بين عامي (1840 - 1842) والتي ألحق الإنجليز فيها هزيمة حاسمة بالصين - تشكل خطاً فاصلاً في تاريخ الفكر الصيني، حيث الدفع المفكرون الصينيون إلى إعادة تقويم أساس حضارتهم وثقافتهم، وتساءلوا: ما الذي يعيب تراثنا بحيث يسمح للقوى الأجنبية بإلحاق الهزيمة بنا واستعمارنا بهذه السهولة؟ ولم تكن الإجابة واضحة، ووقفوا مواقف شتى من ذلك (2).
إن الأزمة الحضارية الخانقة التي يشعر بها السواد الأعظم من المسلمين، ستؤدي قطعاً إلى قراءات جديدة للتراث، ونحن لا نخاف تلك القراءات، لكن نخاف من تخاذل أهل الخير عن المساهمة في ذلك، فيتركون المجال لأهل الأهواء ومشوهي الثقافة، فيتخذون من تلك القراءات أدوات لتشكيك الناس في دينهم، وتأسيس منهجية للتقويم والإصلاح بعيدة من المنهج الرباني الذي نعتقد أنه يشكل الإطار الفذ للنهوض الصحيح، إن موقف أكثر المشتغلين بالدراسات الإسلامية، هو الاشتغال بالنقل مع اهتمام ضعيف بالفهم والتحليل والتعليل والربط والاستنتاج، واستخراج المستخلصات والدروس الحضارية، إن فائدتنا من تكديس المعلومات والأخبار والأقوال ستكون محدودة ما لم تمتلك رؤية نقدية فاحصة للانتفاع بذلك وتوظيفه في حياتنا المعاصرة.
في التراث كنوز، وفيه أيضاً جوانب ومواقف واتجاهات يكتنفها الخطل والقصور والبحث العلمي الجاد، هو الذي يبصرنا بجوهر كل ذلك.
د- الصناعة:
هذا المجال من المجالات التي ينبغي توجيه حركة البحث العلمي نحوها، فالقاسم المشترك بين الدول الإسلامية، هو (التخلف الصناعي) وصار ذلك يشكل (عقدة نقص) لدى المسلم، حيث بعد التقدم الصناعي تلخيصاً مركزاً لما يحرزه المجتمع من تقدم في جوانب عديدة، مثل الاستقرار السياسي والتنظيم الإداري، ومستوى التعليم والتدريب والإحساس بالوقت وينعكس التقدم الصناعي على نحو جوهري على التقدم الزراعي أيضاً، إذ باتت الزراعة تعتمد أكثر فأكثر على الصناعة في جميع مراحل إنتاجها والاستفادة منها، أضف إلى هذا أن المستوردات الصناعية من الخارج، تستنزف معظم ما يتوفر لدى الدول الإسلامية من عملات صعبة. ولا ننسى أن من أسباب انتشار البطالة ضيق الفرص والوظائف الصناعية.
إن حاجة الدول الإسلامية من البحوث تختلف عن حاجات الدول المتقدمة، ويمكن القول: إن الدول الإسلامية، تحتاج في البداية إلى نوعين أساسيين من البحوث:
1ـ نوع من البحوث يمكننا من الوقوف على حجم الموارد المتاحة وتقديرها، حيث إن من المهم لنا أن نعرف أين نقف، التربية والثروات المعدنية والبحرية ومصادر المياه والقوى العاملة والصحة العامة، والعديد من مثل ذلك: ما الذي يمكن الاعتماد عليه، وما الذي ينبغي أن يحسب حسابه، ما نقاط الضعف في كل ذلك، وما نقاط القوة؟ الكشف عن ذلك. لا يحتاج إلى بحوث أصيلة ذات سمة أساسية، بمقدار حاجته إلى التنظيم وتوفير الأشخاص ذوي الكفاية.
2- نوع من البحوث لا يستهدف القوانين العلمية الأساسية، ولكنه يستكشف طريقة تكييف العمليات الصناعية والزراعية المعروفة والمستخدمة في البلاد الأخرى مع الظروف المحلية، وهذا النوع من البحوث المكيفة، يعد موجها نحو تطبيق معلومات تقنية جاهزة على خصائص المناخ الكيمائية والجيولوجية التي يتميز بها الموقف أو الإنتاج المحلي هذا النمط من البحوث لا يتطلب عبقرية عالية، ولكنه يحتاج إلى نظام علمي جيد، وإلى توفير الإمكانات والمعدات التي يحتاجها.
أما البحوث الأساسية، فهي مكلفة، وتتطلب استعداداً وحساسية كثيراً ما تكون نادرة في الدول النامية (3)، لذا يجب أن تؤخر إلى مرحلة تالية.
2- دعم البحث العلمي وتنظيمه:
تدل الخبرات الحضارية المتراكمة أن قصور الأمم في المجال الاقتصادي ليس أصيلا، وإنما هو في أكثر الأمر انعكاس لقصورها في المجال الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، وأستطيع هنا القول: إن ضعف البحث العلمي في العالم الإسلامي، لا يعود في المقام الأول إلى ضعف الإمكانات، وإنما إلى عدم إدراك أهميته والعناية به، وإلى سوء تنظيمه وإهمال ترشيده وتوجيهه.
إن النهوض بـ (البحث العلمي) يحتاج إلى دعم، ويحتاج إلى تنظيم. كما يحتاج إلى (اللمسة العلمية) والأجواء المشجعة، ولعلنا نجمل المهم من ذلك في المفردات التالية:
أ- إن البحث العلمي، يحتاج أولاً إلى مال من أجل تفريغ الباحثين وتأمين المواد والتجهيزات المختلفة، وإن ما يتم إنفاقه الآن في معظم دولنا الإسلامية، لا يساوي أكثر من 10 % مما تنفقه الدول المتقدمة، ولذا فإنه يجب تخصيص ما بين 2 % و3 % من الدخل الوطني لدعم البحث العلمي. وهذا لن يحتاج إلى ضغط شديد في المصروفات في أي قطاع من القطاعات، حيث إن التقنيات الجاهزة والآلات التي تستوردها، تستهلك أموالاً ضخمة، يصعب تحديد حجمها ولو نظر المسلمون فيما ينفقونه على شراء (قطع الغيار) وحدها للمركبات والمصانع والأسلحة التي بحوزتهم لوجدوا أنهم يدفعون أرقاماً فلكية في سبيل تأمين ذلك، أضف إلى ذلك ملايين فرص العمل التي يوفرها ذلك للدول المتقدمة، على حين يبحث عشرات الملايين من أبناء المسلمين عن فرص عمل تؤمن لهم الحد الأدنى من أسباب البقاء.
لا ريب أن زيادة الإنفاق على البحث العلمي، ستؤدي إلى بعض الإرباك في ميزانيات بعض البلاد الإسلامية في البداية، لكن هذا ما حدث لكل الأمم التي نظرت إلى المستقبل، وسعت إلى امتلاك زمام المبادرة فيما يتعلق بقضاياها الخطيرة، إن وضع الإنفاق على البحث العلمي يشبه وضع الذي يعطل أرضه بضع سنوات عن الإنتاج في سبيل انتظار إثمار الأشجار التي غرسها، لكن حين تثمر، فإنها تعوضه أضعافاً مضاعفة عن كل ما فات.
ب- إن البحث العلمي أن يتحسن، ولن ينهض عند توفير المال وحده ما لم يتم إيجاد عدد من التشريعات والتنظيمات التي تجعل الناس يشعرون بالحاجة إليه، بل يرغمون على العودة إلى مؤسساته من أجل حل المشكلات المختلفة التي يواجهونها، إن البداية في ذلك، يجب أن تكون بوضع خطة بعيدة المدى للبحث والتطوير في كل بلد إسلامي، وتكون هذه الخطة منسجمة مع خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية فيه وينبغي تقسيمها إلى خطط خمسية (4)، ويتم في كل خطة تحديد نوعية البحوث التي سيتم إجراؤها، والأهداف العلمية والصناعية التي تسعى إلى الوصول إليها. ولا يخفى أن الناس في العالم النامي يعانون من (عقدة الخواجه) لذا فإن أكثر المصانع والشركات لن تلجأ إلى مراكز البحث الوطنية إلا إذا كانت هناك تشريعات تلزمها بذلك؛ ولذا فإن من المهم إيجاد قرارات صارمة وواضحة بمنع الرجوع إلى أي مؤسسة بحثية أجنبية ما لم يتم الرجوع أولاً إلى المؤسسات والمراكز المحلية، وهذا ينبغي أن يلزم الجهات الحكومية والأهلية معاً. ولا بد من أن يحدث هذا بعض المشكلات في البداية، لكن كل شيء سيكون فيما بعد في إطاره الصحيح.
إن القيام بوضع خطة بعيدة المدى للبحث العلمي يقتضي وجود جهة عليا تشرف عليه، وهذا ضروري في هذه المرحلة إلى أن تترسخ لدينا تقاليد وأعراف بحثية، تضيء الطريق أمام الباحثين، وتزيد من الجدية التلقائية لديهم.
إن كثيراً من الجامعات ومراكز البحوث يقوم بعمل أبحاث، لا يستفيد منها أحد، كما أن كثيراً منها، ينشر معلومات عن حركة البحث فيه، أقل ما يقال فيها إنها (دعائية) والذي يسبر أغوارها يجد أنها خاوية على عروشها، إلا من بعض الإنتاج الثقافي الذي لا يمت إلى البحث العلمي بأي صلة! لعل ذلك يعود إلى أنه ليست هناك أية جهة، تحاسبها على قصورها البحثي، وترشد مسيرتها، إن الأمر على ما يبدو بحاجة إلى (مجلس علمي) على مستوى كل قطر يختاره المشتغلون بالبحث العلمي، وتكون له سلطة رسم سياسات البحث العلمي، وتوجيهه، وتقدير احتياجاته، ومتابعة أنشطته. وتوزيعها على الجامعات والمراكز البحثية المختلفة، إلى جانب تقويمها، والإشراف على العلاقات التي يجب أن تقام بين مؤسسات البحث العلمي والجهات المستفيدة منه.
ج- كثير من الدول الإسلامية يعتمد سياسات (الحزمة التقنية الكاملة) حيث تستورد مكونات مشروعاتها كاملة دون أن تلتفت إلى البحث فيما يمكن تصنيعه محلياً منها، في دول إسلامية أخرى الكثير من الأنشطة الصناعية المتنوعة، لكن تلك الأنشطة قائمة على الخبرة التقنية المكتسبة من الممارسة البعيدة عن أية معطيات بحثية خاصة؛ حيث إن أكثر القائمين على تلك الصناعات من أصحاب الورش أشباه الأميين، والذين لا يعرفون أي شيء عن البحوث التطبيقية أو التطويرية، وهذا هو سر عدم نمو صناعاتهم؟ إذ إن التطور التقني لا يحدث ما تم تعبد البحوث والدراسات الطريق أمامه. في الحالتين الأولى والثانية يجد المشتغلون بالبحث العلمي أنفسهم معزولين من حركة النمو الصناعي!
إن البحث العلمي سوف ينشط حين تتخذ قرارات سياسية كبرى بالتوجيه إلى إقامة صناعات محلية، لا تقوم على الممارسة المتوارثة، وإنما على نتائج البحوث والدراسات الحديثة. أضف إلى هذا أنه لا بد من إرساء معايير للجودة تحد من إنتاج السلع الرديئة التي يتم إنتاجها وفق خبرات شائعة لم تحظ بأي اختبار أو تجريب إلى جانب هذا فإن توجه الدولة إلى الصناعة من أجل التصدير سيزج السلع والمصنوعات المحلية في خضم المنافسة العالمية، وهذا سيدفعها دفعاً إلى الالتجاء إلى مراكز البحوث لمساعدتها على خوض المنافسة التي ستلقاها هناك، وهذا يعني أن التصنيع من أجل سد الحاجات المحلية فقط كان سبياً مهماً من أسباب انخفاض كثير مما تنتجه الشعوب الإسلامية، وسبباً من أسباب الإعراض عن توظيف البحث العلمي في المجال الصناعي.
إن الدول الغربية والمتقدمة تقاتل اليوم من أجل فتح أسواق لمنتجاتها، وعلى المسلمين أن يستخدموا كل ما لديهم من قوة لتنشيط صادراتهم، وذلك بإعطاء المنتجات الإسلامية ميزات تجارية، تسهل دخولها إلى البلدان الإسلامية، إن من المهم أن يشعر المشتغلون بالبحث العلمي بأن لهم وظائف ملموسة في التنمية، وهذا لن يتم إلا من خلال إدخال البحوث العليمة بقوة في النشاط الإنتاجي والاقتصادي.
دـ لا تتعرف الأمم على خصائص ثقافتها إلا حين تكون تلك الثقافة مهددة بالزوال، ولذا فالتلقائية والعفوية هي الأساس في حياة الشعوب. والأصل في العلاقة بين قيادات المعرفة وقيادات الصناعة والإنتاج، أن تقوم على المبادرات الفردية والإحساس بالمصالح المشتركة، على نحو ما يقوم من علاقات بين التجار في الأسواق، وهذا ما تجده في بلد متقدم مثل (سويسرا) حيث إن الصلات فيه بين الصناعة والجامعة، لا تعود إلى أية مبادرة حكومية فقد تطورت العلاقة بينهما على مدى فترات طويلة وارتكزت أساساً على العضوية في النوادي العامة، وعلى تبادل الخبرات العلمية (5)، لكن حين يعرف الناس أهمية تلك الروابط، فإنه لا بد آنذاك من مبادرة بعض الجهات إلى تنظيمها وتقنينها، ما دام البحث العلمي، لا يجد نفسه إلا لدى الجهات التي تحوله إلى اختراع وابتكار، وما دام التقدم التقني لا يستطيع الاستمرار في سبيله، ما لم يسبق بالبحوث، والكشوفات العلمية.
في معهد (زيورخ) الفيدرالي للتقنية نظمت العلاقات تنظيماً جيداً. وتضمنت اشراك الصناعة في المجالس المسؤولة عن تحديث المناهج واختيار الأساتذة، إلى جانب تعيين بعض رجال الصناعة محاضرين دائمين طول الوقت، وتمويل الصناعة للبحوث والإنفاق على المعيدين، وإعطاء تصاريح إجراء بحوث ذات صبغة استراتيجية، حيث تقوم الجهات الصناعية بتمويلها (6)، إن الحكومات ستظل عاجزة عن الوفاء بكل متطلبات البحث العلمي والتنسيق بين مراكزه والمراكز الصناعية، سوف يوفر الدعم الذي يحتاجه استمراره وتطويره ولكن المؤسف أن (التنسيق) هو الحلقة الأضعف في جميع مجالات حياتنا، لأنه يتطلب درجة من الشفافية لم نبلغها بعد!.
هـ- من غير الممكن أن ينهض البحث العلمي وينمو في ظل مجتمع لا يهتم بالبحث عن الحقيقة، ولا يطور وسائله للقبض عليها. سوف يتوفر الوسط المشجع حين يكون الشوق إلى اكتشاف المجهول حيوية تتغلغل في سائر أوصال المجتمع، فتندفع حركته كلها بحافز منه، وما لم يتأسس ذلك. فإن الباحثين سيكونون كمن يغني بين القبور!
بناء مناخات ملائمة للتقدم العلمي، يتطلب تنوع الأطر التي يجري فيها البحث العلمي، كما يتطلب تعدد الجهات التي تشجع عليه، وتقدم له الخدمات، مما يؤدي إلى إشاعة الروح العلمية، واستثمار الطاقات الكامنة مهما كان حجمها، وأرى أن مما يساعد على ذلك:
1- المرونة في إقامة الأطر التي تجري فيها البحوث العلمية، حيث إن المهم دائماً ليس الشكليات وإنما النتائج الجيدة، وفي هذا الصدد فإن مما يجعل المجتمع يغتني بالبحث والباحثين من تشريعات وتنظيمات جديدة تساعد كل جهة على أن تشكل لديها (وحدة بحوث) تعنى بإجراء الدراسات والمسوح الملائمة لطبيعة عملها، وتتشكل وحدة البحوث من أستاذ متخصص في مجال بحوث الوحدة واثنين من الأساتذة المساعدين وعدد من الطلاب أو الموظفين، قد يكونون ثلاثة أو خمسة أو أكثر قليلاً. ويجري الطلاب بحوثاً، ينالون عليها درجة (الماجستير) أو (الدكتوراه) كما يمكن أن يجري الموظفون بحوثاً لا تستهدف نيل شهادة بعينها، وإنما الإسهام في إثراء البحث العلمي، وخدمة الجهة التي أقامت الوحدة، وعلى هذا فإنه ينبغي أن تقيم جمعية خيرية في بلد وحدة لإجراء البحوث الاجتماعية المتعلقة بالفقر والمرض والطلاق والاستهلاك والإدمان والإسراف.... على حين تجري جماعة إسلامية بحوثاً تتعلق بالالتزام والانحراف والدعوة والاتصال... وتجري وحدة تابعة لمصنع كيميائي بحوثاً تتعلق بالمواد التي ينتجها المصنع وهكذا....
في فرنسا تمت أعمال شبيهة لما ذكرناه، ففي عام 1968 ثم إنشاء 626، وحدة من وحدات التدريس والبحث العلمي وكل وحدة مكونة من أستاذ ومساعد له، برتبة أقل من رتبة الأستاذية وعدد من الطلاب، وكل وحدة متخصصة في فرع معين، وبإمكان عدد من هذه الوحدات أن تتحد لتنشأ منها جامعة واحدة، وهذا ما حدث فعلاً، فقد تكون من تلك الوحدات أربعون جامعة من الجامعات الحديثة المتخصصة، وذلك في عام 1969. ويجري في تلك الوحدات نسبة كبيرة من البحوث التي تجري على المستوى الوطني في فرنسا (7).
ميزة هذا النوع من الأطر البحثية أنه يمكن عدداً كبيراً من الجهات في خدمة عملها وتخصصها عن طريق الدراسات والإحصاءات والبحوث، كما أنه يتيح لجهات كثيرة الإنفاق على البحث العلمي عوضاً عن أن يقع عبئه على جامعات تنوء بنفقات التدريس والأهم من ذلك أن اللمسة العلمية والشفافية الإحصائية، تصبح من السمات البارزة في المجتمع.
2- إن من طبيعة الإنجازات الكبرى أنها تتأبى على التأطير والسجن في أوعية محدودة، وتكاد تكون قضية المعرفة أكبر قضية، تحتاج إلى جهود الناس جميعاً؛ لأن الاستنارة العامة لدى الناس هي السبيل لدعم المبدعين والعلماء والباحثين، وإيجاد تلك الاستنارة يتطلب الكثير الكثير من الأنشطة غير المدرسية وغير الرسمية حتى يجد الشاب نفسه محاطاً بالأنشطة العلمية التي تكسبه المعرفة في أجواء حرة وممتعة.
من الأطر الكثيرة التي تمكن من ممارسة الأنشطة المعرفية ما يسمى بـ (الأندية العلمية) (8)، والتي تعنى بتحسين فهم العلوم وتطبيقاتها لدى أعضاء النادي، وإكساب الطلاب مزيداً من الواقعية عن طريق العمل في المختبرات وزيارة المصانع والمزارع، إلى جانب الاستثمار الجيد لأوقات فراغ الطلاب.
في فرنسا أسهمت حركة شباب العلوم في تنمية البحث العلمي من خلال تقديم مفهوم (النادي المخبري) حيث إن لهذا النوع من النوادي مباني واسعة ومجهزة تجهيزاً جيداً، يسمح بإجراء بحوث لمشروعات على درجة كبيرة من التعقيد.
هناك أيضاً (معسكرات العلوم) حيث تقام في عدد من الأقطار معسكرات الشباب العلمي في خيام دائمة، ويتركز العمل في تلك المخيمات على البيئة، فتدرس (جيولوجية) المكان ونباتاته والحشرات الموجودة فيه إلى جانب الأحياء البحرية والحفريات وتلوث البيئة... المتاحف العلمية إطار آخر غير مدرسي لبناء أجواء البحث العلمي، وقد صارت بعض المتاحف في الدول المتقدمة، تقوم بتقديم برامج على مستويات عدة، تهدف إلى تعريف الأطفال والأشبال على مفاهيم العلم والتقنية. وعلى سبيل المثال فإن المستوى الثاني في متحف (بوسطن) يقدم برنامج (المكتشفين في العلم) وهم فئة تتراوح أعمارهم بين العاشرة والسادسة عشرة، ويجب أن يزكي المعلمون الطلاب الصالحين لهذا البرنامج. ويستخدم في هذا البرنامج أدوات تعليمية جديدة وشروح وتجارب ومحاضرات تغطي قطاعاً واسعاً من موضوعات العلم ويرعى المستوى الثالث (تخوم العلم) ويسعى إلى الاستفادة من التركيز الشديد وغير العادي على مشاهير العلماء في المنطقة، حيث يقدمون مكتشفاتهم، ويبحثونها مع أفضل العقول العلمية الشابة في المنطقة.
حين ننظر فيما نبذله في خدمة البحث العلمي مقارناً مع ما يفعله غيرنا، فسوف نجد أننا ما زلنا في بداية الطريق أو فيما قبل البداية!
في الختام لعلي استطعت الإيضاح أن مسألة (البحث العلمي) من المسائل الحيوية جداً التي تستحق التفكير والاهتمام، والتضحية والعطاء إلى جانب المزيد من التنظيم والتحفيز، والله المستعان.
إضاءة: الأمة التي تعجز عن توظيف تراثها النفسي والاجتماعي، ستكون أشد عجزاً عن الانتفاع بتراث الآخرين ومنجزاتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ التراث والموقف منه، الجزء الثاني، ص 29.
2ـ الفكر الشرقي القديم: 425.
3ـ التربية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي: 267.
4ـ أنظر رؤية مستقبلية لدور التعليم والبحث العلمي: 5.
5ـ تشجيع البحث العلمي: 224.
6ـ المصدر السابق: 225.
7ـ التعليم العالي في المملكة العربية السعودية: 9.
8ـ أنظر تفصيلات أوفى في (تشجيع البحث العلمي): 187 وما بعدها.
الاكثر قراءة في التربية العلمية والفكرية والثقافية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
