بيان أبى الفتوح الرازي في انحصار مصداق الشاهد بأمير المؤمنين
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج4/ص118-123
2025-12-09
41
ذكر المفسّر أبو الفتوح الرازيّ كلاماً لطيفاً في وجه انحصار الشاهد بعليّ بن أبي طالب، ودفع الاحتمالات الاخرى. ولمّا ذكر في البداية الاحتمالات والأقوال الواردة في الشاهد، ثمّ انبرى إلى تفنيدها بكلامه العذب، لذلك نذكر أيضاً تلك الأقوال والاحتمالات أوّلًا ثمّ نذكر كلامه في تفنيدها بعد ذلك. يقول[1]: ليس هناك خلاف بين المفسّرين في أنّ المراد من صاحب البيّنة هو رسول الله، بل الخلاف قائم بينهم في معنى الشاهد. قال عبد الله، وعلقمة، وإبراهيم، ومجاهد، وأبو صالح، وأبو العالية وعكرمة: هو جبرئيل؛ وقال الحسن البصريّ، وقتادة: هو لسان رسول الله وقال البعض: وجه رسول الله لأنّ من نظر إلى شمائله وسيماه كان يعترف بنبوّته ورسالته؛ وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هو القرآن، ونظمه العجيب واسلوبه الباهر وإعجازه خير شاهد على النبوّة؛ وقال ابن جُرَيْج ومجاهد: الشاهد هو المَلَك الذي كان يحفظ رسول الله ويؤيّده ويقوّيه. وقال بعض آخر: أنّ الشاهد هو رسول الله نفسه. وهذه الاحتمالات والأقوال، وإن كانت نُسبت إلى المفسّرين، لكنّها تبدو مشوّشة وغير مستساغة، لأنّ كلّ واحد منها يخالف ظاهر الآية: {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ}، إذ جاءت في هذه الآية ثلاث كلمات: الاولى: {يَتْلُوهُ} بمعنى يجيء بعده؛ والثانية: شَاهِدٌ؛ والثالثة؛ مِنْهُ ويرجع الضمير إلى رسول الله، وهو صاحب البيّنة. وعند ملاحظة هذه الكلمات الثلاث، يظهر خطأ جميع الاحتمالات التي طرحها المفسّرون.
أمّا الذي قال: هو جبرئيل، أو المَلَك الموكّل برسول الله، فقوله باطل بكلمة مِنْهُ، لأنّ الملك وجبرئيل ليسا من جنس رسول الله، بل هما من الملائكة، ورسول الله من البشر، ويدلّ الضمير في مِنْهُ على أنّ ذلك الشاهد هو من جنس رسول الله. وأمّا من قال: أنّه القرآن، فقوله باطل أيضاً بكلمة يَتْلُوهُ وكلمة مِنْهُ لأنّ القرآن لا يأتي تالياً للنبيّ، مضافاً إلى أنّه ليس من جنسه. وأمّا من قال: أنّه لسان رسول الله، فهو باطل بكلمة يَتْلُوهُ وكلمة شَاهِدٌ لأنّ لسان النبيّ لا يتلوه ولا يأتي بعده، مضافاً إلى أنّ لسان الشخص ليس شاهداً على صحّة دعواه.
وأمّا من قال: أنّه النبيّ نفسه، فقوله ليس ذا بال أبداً لأنّه ينأى الكلمات الواردة يَتْلُوهُ، وشَاهِدٌ، ومِنْهُ ولأنّ رسول الله لا يتلو نفسه، وليس شاهداً عليها، وليس منها. ولمّا كانت هذه الاحتمالات والأقوال جميعها باطلة، فالمتيقّن به أنّ ذلك الشاهد هو الذي روى فيه المؤالف والمخالف عن رسول الله أنّه هو المعنيّ بهذه الآية، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وهذا ما ينسجم مع جميع الكلمات الواردة في الآية: يَتْلُوهُ، شَاهِدٌ، مِنْهُ، لأنّه عليه السلام كان إلى جانب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان يتبعه، وكان شاهداً صادقاً على نبوّته دائماً، مضافاً إلى أنّه من جنس البشر، بل من رسول الله نفسه[2].
وأقرب الآيات إلى الآية المشار إليها من حيث الدلالة والمعنى هي الآيات الواردة في السورة 46، وهي الأحقاف، والآيات هي 10، 11 و12، يقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ، ومِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً ورَحْمَةً وهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ.
يتبيّن لنا عند ملاحظة هاتين الطائفتين من الآيات ومقارنتهما أنّهما:
أوّلًا: ذكرنا القرآن أو البيّنة الإلهيّة التي ينكرها المشركون على سبيل الاستفهام الإنكاريّ.
ثانياً: بيّنتا التوراة بوصفها كتاب هداية ورحمة للناس، وقد نزلت قبل القرآن ممهّدة الطريق لكتاب الله، وهو القرآن المجيد، والقرآن مصدّق لها أيضاً، مضافاً إلى ذلك فأنّ القرآن ليس أوّل كتاب يرفضه المشركون، بل كانت التوراة قبله على هذه الشاكلة أيضاً، وآيات القرآن والمواضيع التي يحتويها امتداد لمواضيع التوراة في الأخلاق والأحكام والمعارف، ومصدّقة لها، إذَن لا يبدو هناك أيّ مبرّر لاستنكاف اولئك، كما جاء في القرآن قوله تعالى في الآية التاسعة التي تسبق الآيات المذكورة: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ}.
ثالثاً: كما جاء في الآية التي هي مدار بحثنا: {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ}، فأنّ المراد هنا هو وصيّ رسول الله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي يمثّل سند النبوّة والشاهد على رسالة رسول الله، وكذلك في بني إسرائيل، فأنّ وصيّ موسى هو يوشع بن نون الذي كان سنداً لنبوّة موسى وشاهداً على رسالته، وهو الذي آمن به، ولذلك يقول جلّ من قائل: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ}[3].
واستهداءً بالروايات المستفيضة المأثورة عن رسول الله في أنّ ما وقع على الامم السالفة سيقع أيضاً على هذه الامّة حذو النعل بالنعل والقُذَّة بالقُذَّة، فأنّ شهادة عليّ بن أبي طالب عليه السلام على نبوّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تُضاهي شهادة وصيّ موسى على نبوّته إذَن، فالمقايسة بين هاتين الطائفتين من الآيات، أعني: الآيات المشار إليها في سورة هود، والآيات الواردة في سورة الأحقاف تفيدنا أنّ الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على صحّة ما يشاكل القرآن، وهي التوراة، يماثل الشاهد الذي هو من جنس رسول الله وشهد على صحّة نبوّته. والشاهد على كلامنا هو رواية أوردها السيوطيّ في تفسيره. يقول: أخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن منذر عن مسروق رضي الله عنه أنّه قال في قول الله تعالى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ}، قَالَ: موسى مَثَلُ مُحَمَّدٍ، والتَّوْرَاةُ مَثَلُ الْقُرآنِ فَآمَنَ هَذَا بِكِتَابِهِ ونَبِيِّهِ وكَفَرْتُمْ يَا أهْلَ مَكَّةَ.
والعجيب أنّ أغلب المفسّرين- بما فيهم مفسّرو الشيعة- ذكروا أنّ المراد من الشاهد في الآية المشار إليها هو عبد الله بن سلام؛ وقد صرّح بذلك حتى المرحوم الطبرسيّ[4]، والفيض الكاشانيّ[5]، واستاذنا الأعظم العلّامة الطباطبائيّ[6]،[7]، مدّ ظلّه ونقل السيوطيّ أيضاً رواية في هذا الباب، قال: أخرج أبو يعلى، وابن جرير، والطبرانيّ، والحاكم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا معه حتى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم. فقال لهم رسول الله: أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أن لا إلَه إلّا اللهُ وأنّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله يحبط الله عن كلّ يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد. ثمّ ردّ عليهم، فلم يجبه أحد، فثلّث فلم يجبه أحد. فقال: أبيتم فو الله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفي، آمنتم أو كذّبتم، ثمّ انصرف وأنا معه، حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمّد. فأقبل، فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟
فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلًا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ومن أبيك ولا من جدّك. قال: فأنّي أشهد بالله أنّه النبيّ الذي تجدونه في التوراة والإنجيل. قالوا: كذبت، ثمّ ردّوا عليه وقالوا شرّاً. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كذبتم، لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاث: رسول الله، وأنا، وابن سلام. فأنزل الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
لكن كما ذكرنا فأنّ الشاهد المشار إليه شخص من بني إسرائيل قد شهد على التوراة في عصر موسى. وهو ما ينطق على وصيّ موسى، يوشع بن نون.
[1] ذكر في «الدرّ المنثور» ج 3، ص 324 هذه الاحتمالات والأقوال عن أصحابها وكذلك جاءت في «مجمع البيان» ج 3، ص 150.
[2] «تفسير أبي الفتوح الرازيّ» ج 6، ص 255(بالفارسيّة) وقد أوردنا ترجمة كلامه(م)
[3] عند ما طالع أحد أخلّائنا وإخواننا في الإيمان، وهو من مفاخر علماء طهران، مخطوطة هذا الكتاب، كتب في الهامش قائلًا: «أنّ الاحتمال المطروح في أنّ قوله: {وشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائيل على مِثْلِهِ} يخصّ إيمان يوشع بن نون بالتوراة بعيد للغاية، ويبعث على تفكيك مفردات الآية، ولا يحضرني أنّ أحد المفسّرين ذكر هذه الاحتمال، كما لم تُؤثَر رواية في هذا الباب أيضاً. نعم، احتمل بعض المفسّرين أنّ المراد بالشاهد هنا هو موسى بن عمران نفسه، وشهادته على مثل القرآن، أعني التوراة، من حيث أنّ التوراة إشتملت على وصف للنبيّ الأكرم وبشّرت به، وفي هذه الحالة، يستقيم الترابط بين الآيات ونظمها». يقول مؤلّف الكتاب: لا يتمّ هذا الكلام، وذلك، أوّلًا: أنّ استبعاد دلالة الآية {وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِي إسْرَائيلَ على مِثْلِهِ}.على إيمان يوشع بن نون بالتوراة، والغموض الذي يكتنف الترابط بين مفردات الآية يصحّان إذا كان المراد من التوراة هو الكتاب السماويّ النازل على موسى فحسب، لا من حيث اشتمالها على وصف للنبيّ الأكرم، والتبشير به، بَيدَ أنّه إذا كان المراد من التوراة في هذه الآية، كتاب بهذه المواصفات، فالمعنى واضح تماماً والترابط متحقّق. وما هو الفرق بين أن نعتبر الشاهد من بني إسرائيل في هذه الآية موسى النبيّ أو وصيّة يوشع بن نون؟ لأنّنا يجب أن نجعل كلمة مثله في كلا الحالتين: التوراة، ولمّا كانت التوراة مشتملة على التصديق بالرسول الأكرم، فهذه الآية تشكّل دليلًا وحجّة لرسول الله على اليهود الذين لم يقرّوا بدعوته.
ثانياً: جاء في الرواية المأثورة، التي نقلها السيوطيّ، قوله: فآمن هذا بكتابه ونبيّه وكفرتم يا أهل مكّة. فواضح أنّ الظاهر من كلمة نبيّه هو النبيّ الذي كان في ذلك الزمان، وهو موسى، لا نبيّنا الذي أقام هذه الآية من جانبه إتماماً للحجّة على اليهود؛ وتريد الآية أن تقول: هو آمن بنبيّه، فَلِمَ لا تؤمنون بنبيّكم؟! في ضوء ذلك، لا يمكن أن يكون المراد من الشاهد غير يوشع بن نون. وعلى الرغم من عدم وجود رواية عندنا تؤيّد ذلك، فليس عندنا رواية تخالفه أيضاً؛ وما لم يستند قول المفسّرين على حجّة قاطعة ورواية مأثورة عن المعصوم، فهو يعتبر رأياً شخصيّاً. ولا إشكال في دحضه على أساس الظواهر والقرائن المستفادة من تطبيق الآيات، وتحليل المعنى، والقصد الذي يستنبط من الآيات.
[4] «مجمع البيان» ج 5، ص 86.
[5] «تفسير الصافي» ج 2، ص 554. ذكر ذلك تحت عنوان: قيل: عبد الله بن سلام.
[6] تفسير «الميزان» ج 18، ص 210.
[7] الكتاب مؤلّف زمن حياة العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه، وأَثرنا الإبقاء على تعبير المؤلّف(م)
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة