المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 18130 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
ما ورد في شأن شعيب (عليه السّلام)
2025-01-12
ما ورد في شأن يوسف (عليه السّلام)
2025-01-12
ما ورد في شأن يعقوب (عليه السّلام)
2025-01-12
ما ورد في شأن إبراهيم (عليه السّلام)
2025-01-12
ما ورد في شأن نوح (عليه السّلام)
2025-01-12
ما ورد في شأن آدم (عليه السّلام)
2025-01-12

أهـداف نـظـام تـكاليـف المـراحـل الإنـتاجـيـة
2024-02-04
القدر في كلام الحسين
18-3-2016
جواز الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الفجر لأصحاب الأعذار والضرورات.
20-4-2016
norm (n.)
2023-10-18
الآت الشتل Transplanter
5-8-2022
معدل العَدّ counting rate
10-7-2018


تفسير الاية (1-5) من سورة الطلاق  
  
10784   02:50 مساءً   التاريخ: 12-10-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الطاء / سورة الطلاق /

قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُو حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 1 - 5].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

نادى سبحانه نبيه فقال {يا أيها النبي} ثم خاطب أمته فقال {إذا طلقتم النساء} لأنه السيد المقدم فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب عن الحسن وغيره وقيل إن تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء عن الجبائي فعلى هذا يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خارجا عن الحكم وعلى القول الأول حكمه حكم أمته في أمر الطلاق وعلى هذا انعقد الإجماع والمعنى إذا أردتم طلاق النساء مثل قوله سبحانه إذا قمتم إلى الصلاة وقوله فإذا قرأت القرآن.

 {فطلقوهن لعدتهن} أي لزمان عدتهن وذلك أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي فهذا هو الطلاق للعدة لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها وتحصل في العدة عقيب الطلاق فالمعنى فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن ولا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن فعلى هذا يكون العدة الطهر على ما ذهب إليه أصحابنا وهو مذهب الشافعي وقيل إن المعنى قبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه العدة الحيض كما يقال توضأت للصلاة ولبست السلاح للحرب وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

 وقيل إن اللام للسبب فكأنه قال فطلقوهن ليعتددن ولا شبهة أن هذا الحكم للمدخول بها لأن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها وقد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب وهو قوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وظاهر الآية يقتضي أنه إذا طلقها في الحيض أوفي طهر قد جامعها فيه فلا يقع الطلاق لأن الأمر يقتضي الإيجاب وبه قال سعيد بن المسيب وذهبت إليه الشيعة الإمامية وقال باقي الفقهاء يقع الطلاق وإن كان بدعة وخلاف المأمور به وكذلك أن جمع بين التطليقات الثلاث فإنها بدعة عند أبي حنيفة وأصحابه وإن كانت واقعة وعند المحققين من أصحابنا يقع واحدة عند حصول شرائط صحة الطلاق.

 والطلاق في الشرع : عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح وذلك أن يقول أنت طالق يخاطبها أو يقول هذه طالق ويشير إليها أو يقول فلانة بنت فلان طالق ولا يقع الطلاق عندنا إلا بهذا اللفظ لا بشيء من كنايات الطلاق سواء أراد بها الطلاق أولم يرد بها وفي تفصيل ذلك اختلافات بين الفقهاء ليس هاهنا موضعه وقد يحصل الفراق بغير الطلاق كالارتداد واللعان كالخلع عند كثير من أصحابنا وإن لم يسم ذلك طلاقا ويحصل أيضا بالفسخ للنكاح بأشياء مخصوصة وبالرد بالعيب وإن لم يكن ذلك طلاقا.

 وروى البخاري ومسلم عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء وروى البخاري عن سليمان بن حرب وروى مسلم عن عبد الرحمن بن بشر عن بهر وكلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت ابن عمر يقول طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال مرة فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء وجاءت الرواية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال {تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش) . وعن ثوبان رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) وعن أبي موسى الأشعري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات))(2) وعن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ((ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق)) هذه الأحاديث الأربعة منقولة عن تفسير الثعلبي.

ثم قال سبحانه {وأحصوا العدة} أي عدوا الأقراء التي تعتد بها وقيل معناه عدوا أوقاف الطلاق لتطلقوا للعدة وإنما أمر الله سبحانه بإحصاء العدة لأن لها فيها حقا وهي النفقة والسكنى وللزوج فيها حقا وهي المراجعة ومنعها عن الأزواج لحقه وثبوت نسب الولد فأمره تعالى بإحصائها ليعلم وقت المراجعة ووقت فوت المراجعة وتحريمها عليه ورفع النفقة والسكنى ولكيلا تطول العدة لاستحقاق زيادة النفقة أو تقصرها لطلب الزوج والعدة هي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة وهي على ضروب فضرب يكون بالأقراء لمن تحيض وضرب يكون بالأشهر للصغيرة التي لم تبلغ المحيض ومثلها تحيض وهي التي بلغت تسع سنين وإذا كان سنها أقل من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا وقال بعضهم عدتها بالشهور وبه قال الفقهاء وكذلك الكبيرة الآيسة من المحيض ومثلها تحيض عدتها بالشهور وحده أصحابنا بأن يكون سنها أقل من خمسين سنة ومن ستين سنة للقرشيات فإن كان سنها أكثر من ذلك فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا والمتوفى عنها زوجها عدتها بالشهور أيضا والضرب الثالث من العدة يكون بوضع الحمل في الجميع إلا في المتوفى عنها زوجها فإن عدتها عند أصحابنا أبعد الأجلين وفي ذلك اختلاف بين الفقهاء ثم إن عدة الطلاق للحرة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر وللأمة قرءان أو شهر ونصف ووضع الحمل لا يختلف.

 قال سبحانه {واتقوا الله ربكم} ولا تعصوه فيما أمركم به {ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} هن أيضا يعني في زمان العدة لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق وعلى المرأة أيضا أن لا تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} أي ظاهرة ومن قرأ بفتح الياء فالمراد بفاحشة مظهرة أظهرتها واختلف في الفاحشة فقيل إنها الزنا فتخرج لإقامة الحد عليها عن الحسن ومجاهد والشعبي وابن زيد وقيل هي البذاء على أهلها فيحل لهم إخراجها عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) وروى علي بن أسباط عن أبي الحسن الرضا قال الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبهم وقيل هي النشوز فإن طلقها على نشوز فلها أن تتحول من بيت زوجها عن قتادة وقيل هي خروجها قبل انقضاء العدة عن ابن عمر وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال إن كل معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة.

 {وتلك حدود الله} يعني ما ذكره سبحانه من أحكام الطلاق وشروطه {ومن يتعد حدود الله} بأن يطلق على غير ما أمر الله تعالى به {فقد ظلم نفسه} أي أثم فيما بينه وبين الله عز وجل وخرج عن الطاعة إلى المعصية وفعل ما يستحق به العقاب {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} أي بغير رأي الزوج في محبة الطلاق ويوقع في قلبه المحبة لرجعتها فيما بين الطلقة الواحدة والثانية وفيما بين الثالثة قال الضحاك والسدي وابن زيد لعل الله يحدث الرجعة في العدة وقال الزجاج وإذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى له لقوله {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} .

وفي هذه الآية دلالة على أن الواجب في التطليق أن يوقع متفرقا ولا يجوز الجمع بين الثلاث لأن الله تعالى أكد قوله {فطلقوهن لعدتهن} بقوله {وأحصوا العدة} ثم زاد في التأكيد بقوله {واتقوا الله ربكم} فيما حده الله لكم فلا تعتدوه ثم قرر سبحانه حق الزوج في المراجعة بقوله {لا تخرجوهن من بيوتهن} فإن الزوجة إذا لم ترم بيتها تمكن الزوج من مراجعتها ثم دل بقوله {وتلك حدود الله} على أن من تعدى حدود الله تعالى في الطلاق بطل حكمه وصار قوله {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} تأكيدا لحدود الله في الطلاق وإعلاما بأن حق الرجعة لا ينقطع بجمع الطلاق فكأنه قال كونوا على رجاء الفائدة بالرجعة  فقد يحدث الله الرغبة بعد الطلاق.

 فإن قالوا قد أمر الله سبحانه في الآية بطلاق العدة فكيف تقدمون أنتم طلاق السنة على طلاق العدة فالجواب أن طلاق السنة أيضا طلاق العدة إلا أن أصحابنا رضي الله عنهم قد اصطلحوا على أن يسموا الطلاق الذي لا يزاد عليه بعد المراجعة طلاق السنة والطلاق الذي يزاد عليه بشرط المراجعة طلاق العدة ومما يعضد ما ذكرته ما اشتهر من الأخبار في كتبهم ورواياتهم ونقل عن متقدميهم مثل زرارة بن أعين وبكير ابن أعين ومحمد بن مسلم وغيرهم فمن ذلك ما رواه يونس عن بكير بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال الطلاق أن يطلق الرجل المرأة على طهر من غير جماع ويشهد رجلين عدلين على تطليقه ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء فهذا الطلاق الذي أمر الله به في القرآن وأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في سنة وكل طلاق لغير مدة فليس بطلاق وعن جرير قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن طلاق السنة فقال على طهر من غير جماع بشاهدي عدل ولا يجوز الطلاق إلا بشاهدين والعدة وهو قوله {فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} الآية.

 وروى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال كل طلاق لا يكون على السنة أو طلاق على العدة فليس بشيء قال زرارة قلت لأبي جعفر فسر لي طلاق السنة وطلاق العدة فقال أما طلاق السنة فهو إن الرجل إذا أراد أن يطلق امرأته فلينتظر بها حتى تطمث وتطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين على ذلك ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها وقد بانت منه وكان خاطبا من الخطاب إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في العدة وهما يتوارثان حتى تنقضي العدة وأما طلاق العدة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه حتى تحيض فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع ويشهد على ذلك أيضا متى شاء قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه حتى تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضها طلقها الثالثة بغير جماع ويشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره والروايات في هذا كثيرة عن أئمة الهدى (عليهم السلام).

 فعلى هذا فإنه يتركها في طلاق السنة حتى تعتد ثلاثة قروء فإذا مضى ثلاثة قروء فإنها تبين منه بواحدة وإذا تزوجها بعد ذلك بمهر جديد كانت عنده على تطليقتين باقيتين فإن طلقها أخرى طلاق السنة وتركها حتى تمضي أقراؤها فلا يراجعها فقد بانت منه باثنتين فإن تزوجها بعد ذلك وطلقها لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ولوشاء أن يراجعها بعد الطلقة الأولى والثانية لكان ذلك إليه فقد تبين أن هذا الطلاق هو طلاق للعدة أيضا إلا أن الفرق بينهما ما ذكرناه.

 {فإذا بلغن أجلهن} معناه فإذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من العدة {فأمسكوهن بمعروف} أي راجعوهن بما يجب لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة {أو فارقوهن بمعروف} بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة فتبين منكم ولا يجوز أن يكون المراد بقوله {فإذا بلغن أجلهن} إذا انقضى أجلهن لأن الزوج لا يملك الرجعة بعد انقضاء العدة بل هي تملك نفسها وتبين منه بواحدة ولها أن تتزوج من شاءت من الرجال {وأشهدوا ذوي عدل منكم} قال المفسرون أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولا الرجل الطلاق وقيل معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) وهذا أليق بالظاهر لأنا إذا حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب وهومن شرائط صحة الطلاق ومن قال إن ذلك راجع إلى المراجعة حمله على الندب.

 {وأقيموا الشهادة لله} هذا خطاب للشهود أي أقيموها لوجه الله واقصدوا بأدائها التقرب إلى الله لا الطلب لرضا المشهود له والإشفاق من المشهود عليه {ذلكم} الأمر بالحق يا معشر المكلفين {يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} أي يؤمر به المؤمنون لينزجروا به عن الباطل وخص المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به فالطاعة الواجبة فيها وعظ بأن رغب فيها باستحقاق الثواب وفي تركها العقاب والمندوبة فيها وعظ باستحقاق المدح والثواب على فعلها والمعاصي فيها وعظ بالزجر عنها والتخويف من فعلها باستحقاق العقاب والترغيب في تركها بما يستحق على الإخلال بها من الثواب {ومن يتق الله} فيما أمره به ونهاه عنه {يجعل له مخرجا} من كل كرب في الدنيا والآخرة عن ابن عباس وروي عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} قال من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة وعنه قال من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا وقيل معناه ومن يطلق للسنة يجعل الله له مخرجا في الرجعة.

 {ويرزقه من حيث لا يحتسب} عن عكرمة والشعبي والضحاك وقيل إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة فقال له اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل الرجل ذلك فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه فذلك قوله {ويرزقه من حيث لا يحتسب} وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال {ويرزقه من حيث لا يحتسب} أي يبارك له فيما أتاه وعن أبي ذر الغفاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم {ومن يتق الله} الآية فما زال يقولها ويعيدها.

 {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} أي ومن يفوض أمره إلى الله ووثق بحسن تدبيره وتقديره فهو كافيه يكفيه أمر دنياه ويعطيه ثواب الجنة ويجعله بحيث لا يحتاج إلى غيره وفي الحديث من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله {إن الله بالغ أمره} أي يبلغ ما أراد من قضاياه وتدابيره على ما أراده ولا يقدر أحد على منعه عما يريده وقيل معناه أنه منفذ أمره فيمن يتوكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي قدر الله لكل شيء مقدارا وأجلا لا زيادة فيها ولا نقصان وقيل بين لكل شيء مقدارا بحسب المصلحة في الإباحة والإيجاب والترغيب والترهيب كما بين في الطلاق والعدة وغيرهما وقيل قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء وقتا وغاية ومنتهى ينتهي إليه.

 ثم بين سبحانه اختلاف أحكام العدة باختلاف أحوال النساء فقال {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} فلا يحضن {إن ارتبتم} فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهن أم لعارض ثلاثة أشهر وهن اللواتي أمثالهن يحضن لأنهن لوكن في سن من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى وهذا هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) وقيل معناه إن شككتم فلم تدروا أ دمهن دم حيض أو استحاضة {فعدتهن ثلاثة أشهر} عن مجاهد والزهري وابن زيد وقيل معناه إن ارتبتم في حكمهن فلم تدروا ما الحكم فيهن {واللائي لم يحضن} تقديره واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر وحذف لدلالة الكلام الأول عليه وهن اللواتي لم يبلغن المحيض ومثلهن تحيض على ما مر بيانه.

 {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} قال ابن عباس هي في المطلقات خاصة وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) فأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين فإذا مضت بها أربعة أشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل وقال ابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة وأكثر الفقهاء أنه عام في المطلقات والمتوفى عنها زوجها فعدتهن وضع الحمل فإن كانت المرأة حاملا باثنين ووضعت واحد لم يحل للأزواج حتى تضع جميع الحمل لقوله {إن يضعن حملهن} وروى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الزوج ولا يجوز لها أن تعقد على نفسها لغيره حتى تضع الآخر فأما إذا كانت قد توفي عنها زوجها فوضعت قبل الأشهر الأربعة والعشر وجب عليها أن تستوفي أربعة أشهر وعشرا.

 {ومن يتق الله} في جميع ما أمره بطاعته فيه {يجعل له من أمره يسرا} أي يسهل عليه أمور الدنيا والآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل وقيل يسهل عليه فراق أهله ويزيل الهموم عن قلبه {ذلك} يعني ما ذكره سبحانه من الأحكام في الطلاق والرجعة والعدة {أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله} بطاعته {يكفر عنه سيئاته} من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة قال الربيع إن الله قد قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ومن أقرضه جازاه ومن وثق به أنجاه ومن دعاه أجابه ولباه وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} ومن يؤمن بالله يهد قلبه {إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم} {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب} الآية {ويعظم له أجرا} في الآخرة وهو ثواب الجنة .

___________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص37-45.

2- قال الجزري : ومنه حديث : ان الله لا يحب الذواقين والذواقات يعني السريعي الطلاق ((انتهى)) قيل : وتفسيره ان لا يطمئن كلما تزوج او تزوجت كرهاً ومدا أعينهما الى غيرهما.

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

ذكر سبحانه في هذه الآيات جملة من أحكام الطلاق ، وهي :

1 - {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . الخطاب للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) والمراد به جميع المكلفين لأن التشريع يشمل الجميع ، والمعنى إذا أراد المسلم أن يطلق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدة ، بحيث يكون الوقت الذي تطلق فيه جزءا من العدة ، وقد أجمعت المذاهب الاسلامية على ذلك ، ولكن قال السنة : ان هذا التحريم لا يفسد الطلاق الفاقد لهذه الشروط ، بل يقع صحيحا ولكن يأثم المطلق . وقال الشيعة الإمامية : بل يقع لغوا من الأساس ، لأن النهي عنه هو نهي عن ترتيب الآثار عليه تماما كالنهي عن بيع الخمر فإن القصد منه عدم الأثر لهذا البيع لا تحريم التلفظ بصيغته .

واستدل الإمامية على ذلك بما جاء في صحيحي البخاري ومسلم : ان ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) عن ذلك ؟ . فقال له : مره فليراجعها ، ثم يتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم ان شاء أمسك بعد ، وان شاء طلَّق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر اللَّه عز وجل ان يطلق لها .

فقوله (صلى الله عليه واله وسلم) : ان شاء أمسك وان شاء طلَّق قبل أن يمس هو تفسير وبيان لقوله : {فليراجعها} وان المراد به ان المرأة ما زالت في عصمته ، وعليه أن يمسكها على كل حال ، ولا خيار له بين الإمساك والطلاق إلا إذا طلَّق مع الشرط . . هذا هو معنى فليراجعها ، وليس صحيحا انه أمر بالرجوع عن الطلاق كما قال فقهاء المذاهب الأخرى ، لأن الرجوع عن الطلاق إمساك للزوجة الذي جعله الرسول نتيجة لقوله : {فليراجعها} وبديهة ان الشيء لا يكون نتيجة لنفسه . . هذا ، إلى ان الرجوع عن الطلاق لا يرفع الإثم السابق كي يأمر به النبي (صلى الله عليه واله وسلم) .

واتفقت المذاهب قولا واحدا على ان الزوجة غير المدخول بها تطلق على كل حال حتى ولو كانت في الحيض لأنه جل وعز قال : {لعدتهن} وغير المدخول بها لا عدة لها لقوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها} - 49 الأحزاب ج 6 ص 229 .

2 - {وأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . اعرفوا ابتداء العدة وانتهاءها لأن لها أحكاما تخصها كالنفقة للمعتدة ، وحق الرجوع عن الطلاق للمطلق إذا كان رجعيا ، وحقها بالرجوع عن البذل إذا كان خلعيا ، وتحريمها على الأزواج حتى تخرج من العدة ، وما إلى ذلك مما ذكره الفقهاء في كتبهم {واتَّقُوا اللَّهً رَبَّكُمْ} فيما فرضه عليكم من أحكام العدة .

3 - {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ} . المراد ببيوتهن بيوت السكن لا بيوت الملك تماما مثل قوله تعالى : وقرن في بيوتكن وقوله : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات اللَّه - 34 الأحزاب . . . واتفق الفقهاء على ان المطلقة

الرجعية تستحق النفقة بما فيها السكنى ما دامت في العدة ، واختلفوا في نفقة المعتدة من الطلاق البائن . فقال الحنفية : لها النفقة حائلا كانت أم حاملا . وقال المالكية : ان كانت حائلا فلا شيء لها من النفقة إلا السكنى ، وان تكن حاملا فلها كل النفقة . وقال الشافعية والإمامية والحنابلة : لا نفقة لها ان كانت حائلا ، ولها النفقة ان كانت حاملا .

ومن أوجب النفقة للمعتدة بشتى أنواعها أوجب بقاءها في بيت الزوج الذي طلقت فيه إلى أن تنتهي عدتها ، ويحرم عليها أن تخرج منه كما يحرم عليه إخراجها لقوله تعالى : {لا تُخْرِجُوهُنَّ . .} {ولا يَخْرُجْنَ} {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي تثبت الفاحشة عليها شرعا ، واتفقوا على ان الزنا فاحشة تستدعي إخراجها من البيت ، واختلفوا في غيره . والذي نراه ان المراد بالفاحشة هنا الزنا فقط لأنه هو وحده المتبادر إلى الافهام من كلمة الفاحشة حين تنسب إلى النساء {وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . تلك إشارة إلى شروط الطلاق وأحكام العدة ، وهي أحكام اللَّه وحدوده التي بينها في كتابه وعلى لسان نبيه {ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} لأنه عرضها لغضب اللَّه وعذابه ، وفي آية ثانية : {ومَنْ يَعْصِ اللَّهً ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ولَهُ عَذابٌ مُهِينٌ} - 14 النساء .

{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهً يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} . ما يدريك أيها المطلق ان يؤلف اللَّه بين القلبين بعد تنافرهما ، وترجع المياه إلى مجاريها ؟ . وفيه إيماء إلى ان للقلوب تارات وساعات ، وان على الإنسان أن لا يقول لشيء : اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء اللَّه . ومن هنا قال الإمام علي (عليه السلام) : {عرفت اللَّه بفسخ العزائم} أي ان هذا الفسخ دليل ظاهر على ان فوق تدبير الإنسان تدبيرا أقوى وأعظم .

4 - {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . إذا أوشكت العدة على الانتهاء فالمطلَّق بالخيار ان شاء عدل عن عزمه وأرجع المطلقة إلى عصمته ، وان شاء بقي على حكم الفراق ، فتنقطع العصمة بينه وبينها ، وفي الحالين عليه أن لا يضارها في شيء ويؤدي حقها كاملا ، وهذا هو المراد من الإمساك بمعروف والفراق بمعروف . وتقدم مثله في الآية 231 من سورة البقرة ج 1 ص 351 . . ثم ان المطلقة لا تخلو من أن تكون آيسة أو حاملا أو حائلا ، ويأتي الكلام عن الأوليين ، أما عدة الحائل فثلاثة أطهار بما فيها الطهر الذي طلقت فيه ، هذا عند الإمامية والمالكية والشافعية ، أما عند الحنفية والحنابلة فعدتها ثلاث حيضات . أنظر تفسير الآية 228 من سورة البقرة ج 1 ص 340 .

5 - {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . اتفق فقهاء المذاهب على اعتبار شهادة العدلين بموجب هذه الآية ، واختلفوا في أي شيء تعتبر هذه الشهادة ، هل تعتبر في الرجوع عن الطلاق ، أوفي إيقاع الطلاق ؟ قال فقهاء السنة : تعتبر في الرجوع عن الطلاق ، ولكن بعضهم أوجب هذا الاشهاد على الرجعة كالشافعية ، وبعضهم قال : انه مندوب كالحنفية .

وقال الشيعة الإمامية : لا يجب الاشهاد على الرجعة ، ويجب على الطلاق .

وقال الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ ورئيس قسم الشريعة الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة عين شمس بالقاهرة في كتابه {الأحوال الشخصية} ص 271 طبعة 1958 ، قال :

{يرى الشيعة الإمامية ان من أهم شروط الطلاق حضور شاهدين عدلين لقوله تعالى : {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . . وفي ذلك يقول أحد علمائهم : وهذا أنفع وسيلة إلى الوئام بين الزوجين لأن لأهل الصلاح تأثيرا في النفوس وإعادة مياه الصفاء إلى مجاريها ، وإذا لم تنجح نصائحهم فلا أقل من تخفيف الطلاق وتقليله بسبب اشتراط العدلين} .

وقال الدكتور محمد يوسف موسى معلقا على ذلك : {وهذه وجهة نظر يجب عدم التغاضي عنها ، فإن الأخذ بهذا الرأي يمهد السبيل للصلح في كثير من الحالات حقا} .

{وأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ} . الخطاب للشهود ، ومعناه لا تغيروا شيئا من الشهادة وأدوها على وجهها بقصد إحقاق الحق ، لا طلبا لمرضاة المشهود له ، ولا نكاية للمشهود عليه . وتقدم مثله في الآية 283 من سورة البقرة ج 1 ص 451 .

{ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ} . انما ينتفع ببيان اللَّه ويعمل بأحكامه المتقون حقا ، أما الذين لا يؤمنون إلا بأنفسهم ومصالحهم فأولئك كالأنعام همهم بطونهم ، والنار مثوى لهم {ومَنْ يَتَّقِ اللَّهً يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} من

حرام اللَّه إلى حلاله ، ومن معصيته إلى طاعته ، ويغنيه بفضله عمن سواه {ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} . والذي نفهمه من هذه الآية ان الرزق لا ضابط دقيق له ولا قياس محكم ، فقد يأتي من غير احتساب ، وقد يذهب أيضا من غير احتساب . . وكم من حادث سعيد يفاجأ به الإنسان دون أن يترقبه . . وكم من حوادث سيئة ومؤلمة يصاب بها لم تكن لتخطر له على بال . . وما من شك ان بعضها من إهماله وتهاونه ، وبعضها من تدبير مدبر الكائنات .

{ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُو حَسْبُهُ} أي كافيه ، والتوكل على اللَّه هو الأخذ بسنته في العمل والسعي وراء الأسباب : {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} - 15 الملك . وفي الحديث : {اعقلها وتوكل} . {إِنَّ اللَّهً بالِغُ أَمْرِهِ} فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} فلا عبث ولا فوضى ولا صدفة . وفي آية ثانية : {وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} - 2 الفرقان .

وفي ثالثة : {وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} - 8 الرعد ج 4 ص 384 .

6 - {واللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} . اختلف فقهاء السنة في سن الآيسة اختلافا بلغ حد التشويش والاضطراب ، فمن قائل : هي خمسون . وقائل خمس وخمسون . وقال ثالث : ستون . ورابع اثنتان وستون . وفرّق خامس بين نساء العرب والعجم ، وقال :

ان نساء العرب أقوى طبيعة . وقال سادس : تأخذ كل امرأة بعادة عشيرتها .

وكثير منهم سكتوا ولم يحددوا سن الآيسة بشيء . . وأيضا اختلفوا في معنى قوله تعالى : {إِنِ ارْتَبْتُمْ} فمنهم من قال : ان المراد به ان شككتم في حكم العدة لا في حال المرأة وبلوغها سن اليأس . وقال آخرون : بل المراد الشك في حال المرأة ويأسها .

أما الشيعة الإمامية فقالوا : سن القرشية ستون ، وغيرها خمسون مستندين في ذلك إلى روايات عن أهل البيت . وأيضا قال الشيعة : أقل سن تحيض معها الأنثى تسع سنين . ويتفق هذا مع ما جاء في كتاب المغني لابن قدامة - من السنة - :

{ان أقل سن تحيض معها المرأة تسع سنين لأن المرجع في ذلك إلى الوجود ، وقد وجد من تحيض لتسع ، وروي عن الشافعي انه رأى امرأة لها أولاد أولاد ، وعمرها إحدى وعشرون سنة} .

وقرأت في بعض الصحف ان بنتا في هذا العصر حملت قبل أن تبلغ التاسعة من عمرها . وبعد ، فقد اختلف السنة والشيعة في تفسير هذه الآية ، قال فقهاء السنة :

المراد باللائي يئسن من الحيض من انقطع حيضها لكبر سنها ، والمراد باللائي لم يحضن من لم تر دم الحيض بعد لصغر سنها ، وكل من هاتين عدتها ثلاثة أشهر إذا طلقت بعد الدخول .

ويتفق هذا مع قول بعض الكبار من فقهاء الإمامية كالسيد المرتضى وابن زهرة وابن سماعة وابن شهرآشوب . وذهب أكثر الإمامية إلى ان المراد باللائي يئسن من الحيض المرأة التي يشك في يأسها بعد أن انقطع عنها الدم ، ولا يعلم هل انقطع لبلوغها سن اليأس أو لعارض آخر ؟ . وفسّروا قوله تعالى : {إِنِ ارْتَبْتُمْ} بالشك في حالها ، وانها هل بلغت سن اليأس ؟ أما المراد باللائي لم يحضن عندهم فالشابات اللائي علم انهن تجاوزن سن الصغر ولم يبلغن سن اليأس ، ولكن انقطع عنهن الحيض لسبب آخر غير اليأس والصغر ، وكل من هاتين عدتها ثلاثة أشهر ، وقد استندوا في ذلك إلى روايات عن أهل البيت ، وعلى هذا فالآية لم تتعرض لعدة الآيسة إيجابا ولا سلبا .

7 - {وأُولاتُ الأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . اتفق فقهاء السنة والشيعة على ان عدة المطلقة الحامل هي وضع الحمل ، واختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها . قال السنة : هي تماما كالمطلقة كل منهما تعتد بوضع الحمل . وقال الشيعة : بل الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل والأربعة أشهر وعشرة أيام جمعا بين هذه الآية وبين قوله تعالى : {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْراً} - 234 البقرة . وبسطنا الكلام عن هاتين الآيتين وجمعنا بينهما في ج 1 ص 362 .

{ومَنْ يَتَّقِ اللَّهً يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} . هذا مثل قوله تعالى في الآية 2 والآية 3 من هذه السورة : {ومَنْ يَتَّقِ اللَّهً يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} . {ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُو حَسْبُهُ} ولا نعرف غرضا لهذا التكرار إلا المزيد من الحث على التقوى والترغيب فيها . . على ان الترغيب هناك جاء بعد الأمر بإقامة الشهادة على وجهها ، وجاء هنا بعد بيان عدة الآيسة وأولات الأحمال {ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ}

لتعملوا به مخلصين ، وتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة . . ومرة أخرى يواصل سبحانه الحث على التقوى ويقول عز من قائل : {ومَنْ يَتَّقِ اللَّهً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} . لا حصر لمنافع التقوى وفوائدها ، ومنها ، على سبيل المثال ، ما ذكره سبحانه في هذه الآيات : المخرج من الضيق دنيا وآخرة ، والرزق بلا احتساب ، والنصرة والكفاءة من اللَّه ، وتيسير الأمور ، وتكفير السيئات ، وفوق ذلك كله زيادة الأجر ومضاعفته ، ولكن : {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَو تَهْدِي الْعُمْيَ ومَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} - 40 الزخرف .

_______________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص347-353.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

تتضمن السورة بيان كليات من أحكام الطلاق تعقبه عظة وإنذار وتبشير، والسورة مدنية بشهادة سياقها.

قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} إلى آخر الآية، بدىء الخطاب بنداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه الرسول إلى الأمة وإمامهم فيصلح لخطابه أن يشمله وأتباعه من أمته وهذا شائع في الاستعمال يخص مقدم القوم وسيدهم بالنداء ويخاطب بما يعمه وقومه فلا موجب لقول بعضهم: إن التقدير يا أيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء إلخ.

وقوله: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء وأشرفتم على ذلك إذ لا معنى لتحقق الطلاق بعد وقوع الطلاق فهو كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } [المائدة: 6] .

والعدة قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة شرعا، والمراد بتطليقهن لعدتهن تطليقهن لزمان عدتهن بحيث يأخذ زمان العدة من يوم تحقق التطليقة وذلك بأن تكون التطليقة في طهر لا مواقعة فيه حتى تنقضي أقراؤها.

وقوله: {وأحصوا العدة} أي عدوا الأقراء التي تعتد بها، وهو الاحتفاظ عليها لأن للمرأة فيها حق النفقة والسكنى على زوجها وللزوج فيها حق الرجوع.

وقوله: {واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن} ظاهر السياق كون {لا تخرجوهن} إلخ، بدلا من {اتقوا الله ربكم}ويفيد ذلك تأكيد النهي في {لا تخرجوهن} والمراد ببيوتهن البيوت التي كن يسكنه قبل الطلاق أضيفت إليهن بعناية السكنى.

وقوله: {ولا يخرجن} نهي عن خروجهن أنفسهن كما كان سابقه نهيا عن إخراجهن.

وقوله: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} أي ظاهرة كالزنا والبذاء وإيذاء أهلها كما في الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

وقوله: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} أي الأحكام المذكورة للطلاق حدود الله حد بها أعمالكم ومن يتعد ويتجاوز حدود الله بأن لم يراعها وخالفها فقد ظلم نفسه أي عصى ربه.

وقوله: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} أي أمرا يقضي بتغير الحال وتبدل رأي الزوج في طلاقها بأن يميل إلا الالتيام ويظهر في قلبه محبة حب الرجوع إلى سابق الحال.

قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف - إلى قوله - واليوم الآخر} المراد من بلوغهن أجلهن اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه، والمراد بإمساكهن الرجوع على سبيل الاستعارة، وبمفارقتهن تركهن ليخرجن من العدة ويبن.

والمراد بكون الإمساك بمعروف حسن الصحبة ورعاية ما جعل الله لهن من الحقوق، وبكون فراقهن بمعروف أيضا استرام الحقوق الشرعية فالتقدير بمعروف من الشرع.

وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} أي أشهدوا على الطلاق رجلين منكم صاحبي عدل، وقد مر توضيح معنى العدل في تفسير سورة البقرة.

وقوله: {وأقيموا الشهادة لله}تقدم توضيحه في تفسير سورة البقرة.

وقوله: {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر}أي ما مر من الأمر بتقوى الله وإقامة الشهادة لله والنهي عن تعدي حدود الله أو مجموع ما مر من الأحكام والبعث إلى التقوى والإخلاص في الشهادة والزجر عن تعدي حدود الله يوعظ به المؤمنون ليركنوا إلى الحق وينقلعوا عن الباطل، وفيه إيهام أن في الإعراض عن هذه الأحكام أو تغييرها خروجا من الإيمان.

قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب - إلى قوله - قدرا} أي {ومن يتق الله} ويتورع عن محارمه ولم يتعد حدوده واحترم لشرائعه فعمل بها {يجعل له مخرجا}من مضائق مشكلات الحياة فإن شريعته فطرية يهدي بها الله الإنسان إلى ما تستدعيه فطرته وتقضي به حاجته وتضمن سعادته في الدنيا والآخرة {ويرزقه} من الزوج والمال وكل ما يفتقر إليه في طيب عيشه وزكاة حياته {من حيث لا يحتسب} ولا يتوقع فلا يخف المؤمن أنه إن اتقى الله واحترم حدوده حرم طيب الحياة وابتلي بضنك المعيشة فإن الرزق مضمون والله على ما ضمنه قادر.

{ومن يتوكل على الله} باعتزاله عن نفسه فيما تهواه وتأمر به وإيثاره إرادة الله سبحانه على إرادة نفسه والعمل الذي يريده الله على العمل الذي تهواه وتريده نفسه وبعبارة أخرى تدين بدين الله وعمل بأحكامه {فهو حسبه} أي كافيه فيما يريده من طيب العيش ويتمناه من السعادة بفطرته لا بواهمته الكاذبة.

وذلك أنه تعالى هو السبب الأعلى الذي تنتهي إليه الأسباب فإذا أراد شيئا فعله وبلغ ما أراده من غير أن تتغير إرادته فهو القائل: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } [ق: 29] ، أو يحول بينه وبين ما أراده مانع فهو القائل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] ، وأما الأسباب الآخر التي يتشبث بها الإنسان في رفع حوائجه فإنما تملك من السببية ما ملكها الله سبحانه وهو المالك لما ملكها والقادر على ما عليه أقدرها ولها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه.

فالله كاف لمن توكل عليه لا غيره {إن الله بالغ أمره} يبلغ حيث أراد، وهو القائل: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}{قد جعل الله لكل شيء قدرا} فما من شيء إلا له قدر مقدور وحد محدود والله سبحانه لا يحده حد ولا يحيط به شيء وهو المحيط بكل شيء.

هذا هو معنى الآية بالنظر إلى وقوعها في سياق آيات الطلاق وانطباقها على المورد.

وأما بالنظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن السياق الذي وقعت فيه فقوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ولا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ثم تورعه واتقائه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم، ولازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله من فعل أوترك، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله.

ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكا طلقا لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء وهو ولاية الله يتولى أمر عبده فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شيء إلا ما ملكه الله سبحانه وهو المالك لما ملكه والملك لله عز اسمه.

وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية {ويجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}أما الرزق المادي فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها وما كان يعلم من الأسباب إلا قليلا من كثير كقبس من نار يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه وهو غافل عما وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها.

وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي يعيش به النفس الإنسانية وتبقى فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه.

وبالجملة هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا لأنه توكل على الله وفوض إلى ربه ما كان لنفسه {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطىء تارة وتصيب أخرى {إن الله بالغ أمره}لأن الأمور محدودة محاطة له تعالى و{قد جعل الله لكل شيء قدرا} فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به.

وهذا نصيب الصالحين من الأولياء من هذه الآية.

وأما من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين من أهل التقوى النازلة درجاتهم من حيث المعرفة والعمل فلهم من ولاية الله ما يلائم حالهم في إخلاص الإيمان والعمل الصالح وقد قال تعالى وأطلق: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] ، وقال وأطلق: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19].

وتدينهم بدين الحق وهي سنة الحياة وورودهم وصدورهم في الأمور عن إرادته تعالى هو تقوى الله والتوكل عليه بوضع إرادته تعالى موضع إرادة أنفسهم فينالون من سعادة الحياة بحسبه ويجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، وحسبهم ربهم فهو بالغ أمره وقد جعل لكل شيء قدرا.

وعليهم من حرمان السعادة قدر ما دب من الشرك في إيمانهم وعملهم وقد قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، وقال وأطلق: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه: 82] ، أي لمن تاب من الشرك وقال وأطلق: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المزمل: 20].

فلا يرقى المؤمن إلى درجة من درجات ولاية الله إلا بالتوبة من خفي الشرك الذي دونها.

والآية من غرر الآيات القرآنية وللمفسرين في جملها كلمات متشتتة أضربنا عنها.

قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}المراد بالارتياب الشك في يأسهن من المحيض أ هو لكبر أم لعارض، فالمعنى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم وشككتم في أمر يأسهن أ هو لبلوغ سنهن سن اليأس أم لعارض فعدتهن ثلاثة أشهر.

وقوله: {واللائي لم يحضن} عطف على قوله: {واللائي يئسن} إلخ، والمعنى: واللائي لم يحضن وهو في سن من تحيض فعدتهن ثلاثة أشهر.

وقوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} أي منتهى زمان عدتهن وضع الحمل.

وقوله: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} أي يسهل عليه ما يستقبله من الشدائد والمشاق، وقيل: المراد أنه يسهل عليه أمور الدنيا والآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل.

قوله تعالى: {ذلك أمر الله أنزله إليكم} أي ما بينه في الآيات المتقدمة حكم الله أنزله إليكم، وفي قوله: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} دلالة على أن اتباع الأوامر من التقوى كاجتناب المحرمات ولعله باعتبار أن امتثال الأمر يلازم اجتناب تركه.

وتكفير السيئات سترها بالمغفرة، والمراد بالسيئات المعاصي الصغيرة فيبقى للتقوى كبائر المعاصي، ويكون مجموع قوله: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} في معنى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا } [النساء: 31] ، ومن الآيتين يظهر أن المراد بالمحارم في قوله (عليه السلام) في تعريف التقوى: أنها الورع عن محارم الله المعاصي الكبيرة.

ويظهر أيضا أن مخالفة ما أنزله الله من الأمر في الطلاق والعدة من الكبائر إذ التقوى المذكورة في الآية تشمل ما ذكر من أمر الطلاق والعدة لا محالة فهو غير السيئات المكفرة وإلا اختل معنى الآية.

_____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص276-281.

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

شرائط الطلاق والانفصال :

تقدم أن أهم بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق ، حيث يشرع القرآن فيها مخاطبا الرسول الأكرم ، بصفته القائد الكبير للمسلمين ، ثم يوضح حكما عموميا بصيغة الجمع ، حيث يقول : {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} .

هذا هو الحكم الأول من الأحكام الخمسة التي جاءت في هذه الآية ، وطبقا لآراء المفسرين إن المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية ، مع عدم المقاربة الزوجية ، لأنه - طبقا للآية 228 من سورة البقرة – فإن عدة الطلاق يجب أن تكون بمقدار " ثلاثة قروء " أي ثلاثة طهورات متتالية .

وهنا يؤكد أن الطلاق يجب أن يكون مع بداية العدة ، وهذا يتحقق فقط – في حالة الطهارة وعدم المقاربة ، فإذا وقع الطلاق في حالة الحيض فإن بداية زمان العدة ينفصل عن بداية الطلاق ، وبداية العدة ستكون بعد الطهارة .

وإذا كانت في حالة طهر وقد جامعها زوجها ، فإن الطلاق لا يتحقق أيضا ، لأن مثل هذه الطهارة - بسبب المقاربة - لا يمكن أن تكون دليلا على عدم وجود نطفة في الرحم .

على كل حال هذا هو أول شرط للطلاق .

جاء في روايات عديدة عن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : " مر فليراجعها ، ثم ليتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر . ثم ، إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل

أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن يطلق لها النساء " (2) .

وجاء نفس هذا المعنى في روايات عديدة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حتى أنها ذكرت على أنها تفسير للآية (3) .

ثم يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدة ، حيث يقول تعالى : {وأحصوا العدة} .

" أحصوا " من مادة " الإحصاء " بمعنى الحساب ، وهي في الأصل مأخوذة من " حصى " بمعناها المعروف ، لأن كثيرا من الناس كانوا يلجأون في حساب المسائل المختلفة إلى طريقة عد " الحصى " لعدم استطاعتهم القراءة والكتابة .

والجدير بالملاحظة هنا أن المخاطب في " حساب العدة " هم الرجال وليس النساء ، وذلك لوقوع مسؤولية " النفقة والسكن " على عاتق الرجال ، كما أن " حق الرجوع " عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء ، وإلا فهن ملزمات أيضا في إحصاء العدة لتعيين تكليفهن .

بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعا إلى التقوى واجتناب المعاصي ، حيث يقول تعالى : {اتقوا الله ربكم} فهو ربكم الحريص على سعادتكم ، فلا تعظوا له أمرا ولا تتركوا له طاعة ، وخاصة في " حساب العدة " والتدقيق بها .

ثم يذكر الحكم " الثالث " الذي يتعلق بالأزواج والحكم " الرابع " الذي يتعلق بالزوجات ، يقول تعالى : {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} .

ورغم أن كثيرا من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق ، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرد إجراء صيغة الطلاق ، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرد ذلك .

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمة وحكمته البالغة ، فهو بالإضافة إلى إسداء الاحترام إلى المرأة ، يهيئ أرضية جيدة للانصراف والإعراض عن الطلاق ، ويؤدي إلى تقوية الأواصر الزوجية .

إن عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير ، الذي جاء في نص القرآن الكريم ، يسبب كثيرا من حالات الطلاق التي تؤدي إلى الفراق الدائم ، بينما كثيرا ما يؤدي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجددا .

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت ، فيجيئ الحكم الخامس الاستثنائي إذ يقول تعالى : {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} .

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقا ، ويكون أحدهما مثلا سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد ، وإلا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة .

ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) (4) .

ولكن من الواضح أن ذلك لا يشمل كل بادرة للخلاف وعدم الانسجام ، فإن التعبير ب‍ " الفاحشة " يكشف عن كون ذلك العمل على قدر كبير من القبح ، وخاصة حينما وصفها بأنها " مبينة " .

وربما كان المقصود " بالفاحشة " عملا يتنافى مع العفة ، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ما يشابه ذلك المعنى ، وأن الغرض من " الإخراج " هنا هو الإخراج لإجراء الحد ، ومن ثم الرجوع والعودة إلى البيت .

ويمكن الجمع بين هذين المعنيين .

بعد بيان هذه الأحكام يؤكد القرآن الكريم - مرة أخرى - بقوله : {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} . لأن الغرض من هذه الأحكام هو إسعاد الناس أنفسهم ، والتجاوز على هذه الأحكام - سواء من قبل الرجل أو المرأة - يؤدي إلى توجيه ضربة قوية إلى سعادتهم .

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدة ، والحكمة من تشريعها ، وعدم السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرهن الأصلي البيت ، يقول : {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} .

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبب الطلاق ، غير أن مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت ، وإظهار ندم ومحبة كل واحد منهما إلى الآخر ، وكذلك التفكير مليا في عواقب هذا العمل القبيح ، خاصة مع وجود الأطفال ، كل هذه الأمور قد تهيئ أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم ، وتساهم في تبديد الغيوم التي تكدر سماء العلاقة الزوجية .

وفي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى جاء في حديث عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) " المطلقة تكتحل وتختضب وتطيب وتلبس ما شاءت من الثياب ، لأن الله عز وجل يقول : {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} لعلها تقع في نفسه فيراجعها " (5) .

نعود إلى القول بأن التصميم على الانفصال والطلاق يحدث في الغالب تحت تأثير الهيجان والانفعالات العابرة ، التي قد تنتهي وتتبدد بمرور الزمن ( أي أثناء فترة العدة ) فإن التفكير جيدا في هذا الأمر قد يؤدي إلى رجوع أحدهما إلى الآخر ، وتجاوز حالات عديدة من الخلاف أثناء هذه الفترة ، ولكن بشرط أن تراعى الأحكام الإسلامية أثناء فترة العدة بشكل دقيق .

وسيتضح فيما بعد - إن شاء الله - أن ذلك كله يرتبط بحالة " الطلاق الرجعي " .

وقوله تعالى : {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهدة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( 2 ) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بلغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}

فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف :

يشير في الآية مورد البحث ، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة ، إلى عدة أحكام أخرى ، إذ يقول تعالى في البداية : {فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} .

المراد ببلوغ الأجل " الوصول إلى نهاية المدة " وليس المقصود أن تنتهي العدة تماما ، بل تشرف على الانتهاء ، فإن الرجوع بعد نهاية العدة غير جائز ، إلا أن يكون إبقاؤهن عن طريق صيغة عقد جديدة ، ولكن هذا المعنى بعيد جدا عن سياق ومفهوم الآية .

على أي حال فإن هذه الآية تطرح أهم الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجا ، وهي : إما أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق ، أو أن ينفصلا بإحسان .

فالانفصال ينبغي أن يتم بعيدا عن الهياج والعربدة ، وعلى أصول صحيحة ، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيأة للعودة والرجوع إذا ما قررا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد ، فإن العودة إذا تمت في جو مظلم ملبد بالخلافات والتعديات ، فسوف لا تكون عودة موفقة تستطيع الاستمرار مدة طويلة . هذا إضافة إلى أن الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثارا ، ليس فقط على الزوج والزوجة ، وإنما قد تتعدى إلى عشيرة وأقرباء كل منهما ، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل .

ومن اللطيف حقا أن تحاط كل الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجو من الإحسان والاحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية ، وحتى لو وقع الطلاق فيجب أن يتم أيضا بإحسان ودون مشاكل ، فإن ذلك يعتبر بحد ذاته نوعا من الانتصار و الموفقية لكلا الطرفين .

ويتضح مما سبق أن ( الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف ) له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة .

ثم يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول : وأشهدوا ذوي عدل منكم .

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى .

وبعض المفسرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين : الطلاق والرجوع ، غير أن الإشهاد ليس واجبا قطعا في التزويج فضلا عن الرجوع . وعلى فرض أن المورد يشمل الرجوع فيكون من باب الاستحباب .

وفي الحكم الثالث يبين القرآن الكريم وظيفة الشهود ، حيث يقول : {وأقيموا الشهادة لله} حذار أن يكون ميلكم وحبكم لأحد الطرفين مانعا عن إظهار الحق ، وينبغي أن تتم الشهادة لله ولإظهار الحق ، وينبغي أن يكون الشهود عدولا ، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انه معصوم من الذنب ، ولهذا يحذرهم الله تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلا ينحرفوا عن جادة الحق بعلم أو بغير علم .

وينبغي أن يشار إلى أن تعبير ذوي عدل منكم دليل على أن الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور .

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعا تقول الآية الكريمة : {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} .

ربما اعتبر البعض " ذلكم " إشارة - فقط - إلى مسألة التوجه إلى الله ومراعاة العدالة من جانب الشهود ، غير أن الظاهر أن هذا التعبير يشمل كل الأحكام السابقة حول الطلاق .

وعلى أية حال فإن هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يوليها القرآن الكريم لأحكام الطلاق ، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتعظ بها فكأنه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر .

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإن الزوجين قد ينحرفان عن جادة الصواب عند الطلاق والرجوع ، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة ، لهذا تؤكد الآية في نهايتها قائلة :

{ومن يتق الله يجعل له مخرجا} ويساعده حتما على إيجاد الحل لمشكلاته .

{ويرزقه من حيث لا يحتسب} ولا يتصور تحصيله .

{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وسيكفيه ما يهمه من أموره .

{إن الله بالغ أمره} لأن الله عز وجل قادر مطلق ، وأمره نافذ في كل شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته . . .

ولهذا يحذر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحق ، ويحثهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات ، لأنه قد تعهد بأن ييسر للمتقين أمرهم ، ويجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون .

لقد تعهد الله أن لا يترك من توكل عليه يتخبط في حيرته ، وإنه لقادر على الوفاء بهذا التعهد .

ورغم أن هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلقة به ، لكنها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتقين ، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنه سيشملهم بلطفه ورعايته ، فينجيهم من المآزق ، ويرشدهم إلى الصواب ، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة ، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها ، ويبدد الغيوم السوداء التي تلبد سماء سعادتهم .

وفي إشارة لطيفة إلى النظام العام الذي يحكم التكوين والتشريع ، يقول تعالى : {قد جعل الله لكل شيء قدرا} فكل هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق ، إنما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامة شاملة لا يغيب عنها شيء .

وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم – وليس فقط في مسألة الطلاق - بالموازين والأحكام الشرعية ، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله ، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب ، وما إلى ذلك ويتوسلون بالطرق غير المشروعة لحل مشاكلهم .

وقوله تعالى : {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولت الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ( 4 ) ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا}

أحكام النساء المطلقات وحقوقهن :

من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدة بعد الطلاق ، ولما كانت الآية ( 228 ) من سورة البقرة قد بينت حكم العدة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة  تكون المرأة قد أنهت عدتها . فقد ذكرت الآيات محل البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معينة ، أو الحوامل لتكمل بحث العدة .

يقول تعالى في بداية الأمر : {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} فإذا شككتم في وجود الحمل فمدة العدة حينئذ ثلاثة أشهر ، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهن العادة الشهرية بعد {واللائي لم يحضن} .

ثم يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا : {وأولات الأحمال أجلهن حتى يضعن حملهن} .

وبهذا اتضح حكم المجاميع الثلاثة ، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهن ثلاثة أشهر ، والمجموعة الثالثة - أي النساء الحوامل - تنتهي عدتهن بوضع الحمل ، سواء كان بعد ساعة من الطلاق ، أو بعد ثماني أشهر مثلا .

وقد ذكرت ثلاثة إحتمالات في معنى عبارة إن ارتبتم :

1 - الشك في وجود " الحمل " بمعنى أنه هناك احتمال حمل بعد سن اليأس ( خمسون سنة للنساء العاديات ، وستون سنة للنساء القرشيات ) فمن أجل هذا الاحتمال الضعيف الذي نادرا ما يقع ، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدتها ثلاثة أشهر (6) .

2 - النساء اللائي لا يعلم بأنهن وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا .

3 - المراد هو الشك في حكم هذه المسألة ، فحكمها كما ورد في هذه الآية .

ويبدو أن الأنسب والأقرب هو التفسير الأول فإن التعبير ب‍ واللائي يئسن . . . يوحي أن هؤلاء النساء قد بلغن سن اليأس .

ويشار إلى أن حكم النساء اللائي غابت عنهن العادة الشهرية لمرض أو غيره هو نفس حكم اليائسات ، أي يعددن ثلاثة أشهر ( يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية ) (7) .

جملة واللائي لم يحضن يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن سن البلوغ ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية . وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن عدتهن ثلاثة أشهر .

واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة الشهرية ، سواء بلغن سن اليأس أم لا . غير أن المشهور بين فقهائنا أن لا عدة للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهن سن البلوغ . ويوجد من خالف هذا الرأي واستدلوا على ذلك ببعض الروايات ، كما أن ظاهر الآية يوافقهم . ( للتوسع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية ) (8) .

وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أن " أبي بن كعب " سأل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن أن القرآن لم يذكر عدة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات " اليائسات " والحوامل فنزلت السابقة تبين أحكامهن (9) .

ويذكر أن العدة في هذا المورد إنما تكون في حق النساء اللائي يحتمل في

حقهن الحمل ، لأنهن ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات ، ومعنى ذلك أن حكمهن واحد (10) .

وأخيرا يؤكد مرة أخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى : {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} .

ييسر أموره ويسهلها في هذا العالم ، وكذلك في العالم الآخر ، بألطافه سواء في هذه القضية أي قضية الطلاق أو في قضايا أخرى .

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلا : {ذلك أمر الله أنزله إليكم} .

{ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} .

قال بعض المفسرين : إن المقصود من " السيئات " هنا " الذنوب الصغيرة " والمقصود من " التقوى " اجتناب الذنوب الكبيرة .

وبناء على ذلك فإن تجنب الكبائر يؤدي إلى غفران الصغائر ، كما جاء في الآية 31 من سورة النساء . ولازم هذا أن مخالفة الأحكام في هذا المجال - أي في الطلاق والعدة - يعد من الذنوب الكبيرة (11) .

ورغم أن السيئات تطلق أحيانا على الذنوب الصغيرة ، كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم ، ولكنها تطلق في آيات أخرى على كل الذنوب أعم من الصغيرة والكبيرة ، نقرأ في الآية 65 من سورة المائدة : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } [المائدة: 65] وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات اخر " .

ومن المسلم أن الإيمان والإسلام يؤديان إلى غفران الذنوب السابقة .

__________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص248-265.

2 - كتاب الطلاق عن صحيح مسلم ، ج 3 ، ص 1093 فما بعد .

3 - وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 348 " باب كيفية طلاق العدة " .

4 - تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 350 - 351 ، أحاديث 17 ، 18 ، 19 ، 20 .

5 - تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 352 ، حديث 34 . 

6 - الجواهر ، ج 32 ، ص 249 ، وسائل الشيعة ، ج 15 ، باب 4 ، حديث 7 .

7 - طبعا المشهور بين الفقهاء أن المرأة عندما تصل إلى سن اليأس سوف لا تكون لها عدة مطلقا ، ولكن في مقابل ذلك

كان عدد من الأصحاب المتقدمين يقولون بوجوب العدة ، وتساعدهم بعض الروايات رغم معارضة روايات أخرى . وما

يتطابق مع ظاهر الآية هو أنه في حالة الشك في الحمل فهناك عدة .

8 - ( للتوسع أكثر راجع جواهر الكلام ، ج 32 ، ص 232 وكتب فقهية أخرى ) .

9 - كنز العرفان ، ج 2 ، ص 260 .

10 - قال الطبرسي في مجمع البيان : إن التقدير " واللائي لم يحضن إذا ارتبتم فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر " .

11 - الميزان ، ج 19 ، ص 367 .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .