إزدهار الخطابة وإنحسار الشعر في عصر صدر الإسلام
المؤلف:
عمر فرّوخ
المصدر:
تأريخ الأدب العربي
الجزء والصفحة:
ج1، ص255-256
27-09-2015
27274
يجب أن نلاحظ أن الأدب المخضرم فقد كثيرا من الاغراض والمعاني الجاهلية وتبدّل بها أغراضا ومعاني اسلامية، أما أسلوبه فبقي جاهليا في الاكثر. وكذلك قل الشعر في هذا العصر وكثر النثر، وازدهرت الخطابة.
أما قلة الشعر في هذا العصر فترجع إلى الأسباب التالية:
(أ) سقوط منزلة الشعراء لتكسبهم بالشعر وخضوعهم في سبيل ذلك للممدوحين. قال ابن رشيق (1:66): «كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب لحاجة (العرب) إلى الشعر في تخليد المآثر وحماية العشيرة. فلما تكسّبوا به وجعلوه طعمة وتناولوا به الأعراض، وجعله الأعشى متجرا، صارت الخطابة فوق الشعر (راجع 1:26-27،64-65).
(ب) ان نفرا من الشعراء الذين كانوا لا يزالون على الشرك، أمثال عبد اللّه ابن الزّبعرى وكعب بن زهير وأبي سفيان بن الحارث (1)، هجوا الرسول، فأمر الرسول بترك رواية شعرهم ولعنهم (2).
(ج) وظل نفر من الشعراء يتعرضون بالهجاء القبلي لخصومهم فيثيرون الاحقاد، أو يفحشون في الغزل فيلقون العداوة بين الأفراد والأسر، فمنع الرسول والخلفاء الراشدون القول في هذين الفنين.
(د) وبهر العرب ببلاغة القرآن، وملأت نفوسهم عقائد الاسلام وآدابه وشغلتهم الفتوح فصرفهم ذلك كله عن قول الشعر وروايته إلا قليلا.
وأما ازدهار الخطابة فكان لحاجة الاسلام إلى الخطابة، في سبيل «الدعوة إلى الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . . وتحميس الجند». ثمّ حدثت حاجة الخلفاء والأمراء (في الجيش) والولاة اليها لإعلان سياسة الدولة وتبليغ أوامرها. فكان الرسول صلّى اللّه عليه[وآله] وسلّم والخلفاء الراشدون وأمراء الجيوش وولاة الامصار والقضاة من الخطباء ضرورة. غير أن بعضهم كان أخطب من بعض، فعلي بن أبي طالب كان خطيبا موهوبا فوق عثمان بن عفّان وعمر بن الخطاب، ولا غرو فكلام علي يأتي في مراتب البلاغة بعد القرآن والحديث.
واختلفت أغراض الخطابة ومعانيها في الاسلام منها في الجاهلية، كما اتفق في الشعر. ولكن أسلوبها ظل-كما ظل أسلوب الشعر أيضا-جاهليا: قصرا في الخطب وايجازا في الجمل مع شيء كثير من الموازنة وشيء قليل من السجع. يضاف إلى ذلك اقتباس أو تضمين للأمثال والاشعار. وزاد الخطباء في الاسلام الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم وبأحاديث لرسول اللّه [صلّى اللّه عليه وآله وسلّم].
وكانت غاية الخطابة التأثير البلاغي من طريق الالفاظ والتراكيب التي تمس العاطفة وتذكّر بالمثل العليا وتذكي شعلة الدين في النفوس في الجموع الحاشدة لا الاقناع البرهاني الذي يحتكم فيه المتناظران إلى العقل والمنطق.
________________________
1) توفي سنة 20 ه.
2) جمهرة اشعار العرب 14.