الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
تحدُّر فن المقامات
المؤلف: عمر فرّوخ
المصدر: تأريخ الأدب العربي
الجزء والصفحة: ج2، ص413-416
25-12-2015
5590
ليس فيما أثر عن العرب مقامات سابقة على مقامات بديع الزمان الهمذاني (358-398 ه) ، فهو من أجل ذلك مخترع هذا الفن (1). على ان نفرا من الأدباء يحبون أن يقولوا إن بديع الزمان اشتقّ فن المقامات من فن قصصي سابق. و يريد الدكتور زكي مبارك (2) أن يثبت ان مقامات بديع الزمان مشتقّة «من أحاديث ابن دريد» ؛ و ابن دريد هذا كان راوية و عالما و لغويّا و قد عني برواية أحاديث عن الاعراب و أهل الحضر. و لا ريب في ان بين أحاديث ابن دريد و بين المقامات شبها قويا من حيث القصص و السجع، و لكنّ هناك أيضا فروقا كبيرة في الصناعة و في العقدة و في وجود بطل للمقامات هو المكدي، و في انبناء المقامة على الكدية و على الهزء من عقول الجماعات مع إظهار المقدرة في فنون العلم و الأدب، إلى ما هنالك من خصائص فن المقامات.
على ان هذا لا يعني أن بديع الزمان لم يطلع على أحاديث ابن دريد أو على ما روي عن العرب من قصص و أحاديث و أسمار، و لكن الفرق بين تلك الأحاديث و بين المقامات من حيث الغاية و الاسلوب كبير جدا. و على كل فان بديع الزمان إن لم يكن مخترع فن المقامات، فان مقاماته أقدم ما وصل الينا من هذا الفن الأدبي الرائع.
خصائص المقامات:
و للمقامات خصائص نستعرضها مع شيء من التبيان لأوجهها:
1. المجلس:
يجب أن تدور حوادث المقامة في مجلس واحد لا تنتقل منه إلا في ما شذّ و ندر (وحدة مكان ضيقة) .
2. الراوية:
و لكل مجموع من المقامات راوية واحد ينقلها عن المجلس الذي تحدث فيه.
3. المكدي:
و لكل مجموع من المقامات مكد واحد أيضا-أو بطل.
و هو شخص خيالي في الأغلب، أبرز ميزاته انه واسع الحيلة ذرب اللسان ذو مقدرة في العلم و الدين و الأدب، و هو شاعر و خطيب، يتظاهر بالتقوى و يضمر المجون، و يتظاهر بالجد و يضمر الهزل. و هو يبدو غالبا في ثوب التاعس البائس إلا أنه في الحقيقة طالب منفعة.
و تنعقد المقامة دائما بأن يجتمع الراوية بالمكدي في مجلس واحد. و يكون المكدي دائما متنكرا، و لذلك قلما يفطن الراوية لوجوده-إذا كان قد سبقه إلى المجلس-أو لحضوره إذا حضر بعده. و تنحلّ عقدة المقامة بأن ينكشف أمر المكدي للراوية في الأقل أو يكشف المكدي أمره للراوية (و أحيانا للحاضرين) في الأغلب. و لا يكشف المكدي أمره إلا بعد أن يكون قد نال من أهل المجلس مالا أو ثيابا، بعد أن استدر عطفهم. و كثيرا ما يعلم أهل المجلس ان المكدي قد خدعهم و سلبهم، و لكنهم لا يضمرون له شرا لأنه أطربهم أو سلاّهم أو أفادهم.
4. الملحة (النكتة أو العقدة) :
و هي الفكرة التي تدور حولها القصة المتضمّنة في المقامة، و تكون عادة فكرة طريفة أو جريئة، و لكنها لا تحثّ دائما على الاخلاق الحميدة، و قد لا تكون دائما موفقة.
5. القصة نفسها:
كل مقامة وحدة قصصيّة قائمة بنفسها، و ليس ثمة صلة بين المقامة و المقامة إلا أن المؤلف واحد و الراوية واحد و المكدي واحد. و قد تكون القصص من أزمنة مختلفة متباعدة و ان كان الراوية واحدا.
6. موضوع المقامة:
موضوعات المقامات مختلفة منها أدبي و منها فقهي و منها فكاهي و منها حماسي، و منها خمري أو مجوني. و هذه الموضوعات تتوالى على غير ترتيب مخصوص عند بديع الزمان. أما الحريري (فيما بعد) فالتزم أن تكون الموضوعات متعاقبة على نسق مخصوص. و قد تكون المقامة طويلة أو قصيرة.
7. اسم المقامة:
و اسم المقامة مأخوذ عادة من اسم البلد الذي انعقد فيه مجلس المقامة نحو: المقامة الدمشقية، التبريزية، الرملية (نسبة إلى الرملة بفلسطين) ، المغربية، السمرقندية، البلخية، الكوفية، البغدادية، العراقية، الخ. . . أو من الملحة التي تنطوي عليها المقامة نحو المقامة الدينارية، الحرزية، الشعرية، الإبليسية، الخمرية الخ. . .
8. شخصية المقامة:
ان الشخصية التي تبدو في المقامة ليست شخصية المكدي و لكنها شخصية المؤلف. و تنبني هذه الشخصية على الدراية الواسعة بكل شيء يطرقه المكدي، أو المؤلف على الأصح، فهو واسع الاطلاع على العلوم العربية خاصة، بصير بالفنون الأدبية من شعر و نثر و خطابة، حاد الذهن قوي الملاحظة في حل الألغاز و كشف الشبهات، مرح طروب في اجتياز العقبات و سلوك المصاعب.
9. الصناعة في المقامات:
فن المقامات فن تصنيع و تأنق لفظي (و خصوصا عند الحريري) فهناك إغراق في السجع و إغراق في البديع من جناس و طباق، و إغراق في المقابلة و الموازنة و في سائر أوجه البلاغة حتى ما لا يدخل في باب البلاغة على وجه الحصر: كالخطبة التي تقرأ طردا و عكسا و الخطبة المهملة (التي لا نقط فيها) أو التي تتعاقب فيها الأحرف المهملة و الأحرف المعجمة (المنقوطة) و ما إلى ذلك.
10. الشعر:
المقامة قصة نثرية و لكن قد يتخللها شعر قليل أو كثير من نظم صاحبها على لسان المكدي، أو من نظم بعض الشعراء، فيما يروى، على لسان المكدي أيضا. و قد يكون إيراد الشعر لإظهار المقدرة في النظم أو لاظهار البراعة في البديع (عند الحريري خاصة) .
و يتبع القصص و المقامات فنّ الفكاهة و هي رواية الحكاية في حال من المرح مع الاشارة إلى ما يستطيبه الناس عادة من اللهو و الجنس و الهزؤ و الإضحاك و الإطراف. و المقامات نفسها مملوءة بالفكاهة. و تجيء الفكاهة في الشعر أيضا، و تكون في الشعر لفتة بارعة أو ملحة نادرة أو نكتة صائبة أو تعبيرا جديدا طريفا، و قد تكون عرضا لأمور لا تقتضي الإنسان تفكيرا بل يأخذ الإنسان منها بظاهر القول هونا. و في هذا الباب أخبار المكدين (المتسوّلين) و الطفيليّين (3). و مثل ذلك الأحاجي، و هي أسئلة على غير المنهاج المنطقي تحتاج في الإجابة إلى نباهة و ذكاء أكثر مما تحتاج إليه من العقل و المعرفة. و في المقامات شيء كثير من هذا كلّه مبنيّ على التوريات و راجع إلى أحوال مفردة، و هو المسمّى «ألغازا» . فمن الفكاهة العاديّة قول ابن لنكك:
لا تخدعنك اللّحى و لا الصّور... تسعة أعشار من ترى بقر
و من الألغاز سؤال في مقامات بديع الزمان هو: أيّ بيت (من الشعر) أوله يغضب و آخره يلعب؟ -و جواب هذا السؤال الملغز: هو قول عمرو بن كلثوم:
كأنّ سيوفنا منّا و منهم...مخاريق بأيدي لاعبينا (4)
(لأنّه يبدأ بالكلام على السيوف-و هي من آلات الحرب-ثم ينتهي باللعب بالمخاريق، و المخراق خرقة ملفوفة يتضارب بها الصبيان) .
___________________
1) مقامات الحريري (بيروت 1873) ص 13.
2) النثر الفني 1:197 و ما بعدها.
3) الطفيلي هو الذي يذهب إلى المآدب من غير أن يكون مدعوا اليها (و يسلك مسلكا فيه لباقة أو وقاحة) .
4) المخراق: منديل (أو قطعة من نسيج) يلف على شكل العصا و يضرب به.